العدد 11 - مساحة حرّة | ||||||||||||||
ليس العنف أو السلوك العدواني من طبيعة الإنسان، ولا هو من طبائع الجماعات الإنسانية، وإنما يَظهر مثل هذا السلوك نتيجة الظروف التاريخية، فيصبح جزءاً من ثقافة الجماعة. هذا يعني أن لدى الإنسان على المستوى الفردي والجماعي، الاستعداد للعنف والسلوك العدواني، مما يجعلهما من الخصائص المكتسبة، رغم أن كل مكتَسب أو متعلَّم قابل للتعديل والتغيير، بخاصة إذا عُرفت أسبابه، ثم طرق المعالجة. ورغم أن لا مجتمع خالياً من أحد أشكال العنف، إلا أن لكل مجتمع خصوصية في إفراز مثل هذه الظاهرة. وتشير الإحصاءات والأحداث الراهنة والتاريخية إلى إمكانية عدّ العنف ظاهرة اجتماعية في المجتمع الأردني، بخاصة بين فئة الشباب. فقد جاء في إحصاءات الأمن العام، وهذه لا تشمل جميع حوادث العنف والجرائم، أن 44.722 جريمة وقعت العام 2008، وأن 29.782 جريمة أخرى صُنفت بأنها بسيطة، أي أن مجموع الجرائم وصل إلى 74.502 في العام نفسه. وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة جرائم الطلبة من هذه قد بلغت 9 في المئة، وأن نسبة جرائم الأحداث بلغت 6.8 في المئة، وأن نسبة العاطلين عن العمل قد بلغت 22 في المئة من المجموع الكلي. كما تدل إحصاءات الأمن العام على زيادة نسب العنف والجريمة. هناك إذن ظاهرة عنف متعاظمة، لكن الأهم هو تحول حوادث العنف الفردي إلى صراعات وعنف جماعي، فقد تحولت مشكلات أسرية في عجلون مثلاً إلى صراع وحوادث قتل بين عشيرتين. وشهدت جامعات أردنية حوادث عنف بين مجموعات قبلية، أساسها حوادث فردية. ولا يمكن تفسير هذا التحول من المستوى الفردي إلى عنف جماعي، إلا بالارتداد إلى أولوية الانتماءات العشائرية والجهوية أو حتى الإثنية، كما حدث بين طلبة شراكسة وطلبة من السلط في الجامعة الأردنية في تسعينيات القرن العشرين. يمكن تفسير هذه الردة نحو الإطار الجهوي والعشائري، ولو جزئياً، إلى فشل النظام السياسي في إقامة دولة القانون والمواطنة والمجتمع المدني. فقد أسهمت سياسات الدولة وتشريعاتها في إحياء أهمية العشيرة، كجماعة انتماء وسيطة، يمكن للفرد أن يحقق طموحاته من خلالها، وذلك بدلاً من تشجيع الانتماء لمؤسسات المجتمع المدني التي بدأت تظهر وتتطور منذ منتصف القرن الماضي. هذا إضافة إلى سياسات التمييز التي يترتب عليها الشعور بالإحباط وعدم الإيمان بمرجعية الدولة كإطار حيادي جامع وموحد. وأدت السياسات الاقتصادية، وبضغوطات من الخارج، إلى عملية استقطاب وَزّعت الأردنيين إلى قلّة غنية وأكثرية فقيرة، مما أدى إلى ضمور الطبقة الوسطى التي تُعَدّ من عوامل الاستقرار. مثل هذا البناء الاجتماعي المستقطب يحمل بذور الصراع واحتمال العنف. وقد أدى فقدان أسواق العمل في الخارج إلى زيادة نسب البطالة، بخاصة بين الشبان، الأمر الذي يزيد من فرص الصراع والعنف. كما أن سياسات التمييز في ملء الوظائف واعتماد المحسوبية والوساطة تزيد من شعور نسبة كبيرة من الشبان بالظلم والإحباط، الأمر الذي يوجد أرضية للسلوك العدواني والعنف. ولا يقف تفسير أسباب العنف عند السياسات، بل يتعداه إلى الممارسات، من هذا شعور فئات اجتماعية بعدم تطبيق القانون بشكل عادل ودون تمييز. فمن ناحية تولّد مثل هذه الممارسات الشعور بعدم المساواة والإحباط لبعضهم، ومن جهة أخرى شعور بعضهم الآخر بأنهم فوق القانون، وأنهم لن يعاقَبوا، مما يشجع على عدم الالتزام، وتصبح مثل هذه المسلكيات في خرق القانون، دون توقع عقاب، من مؤشرات المكانة الاجتماعية. التغيرات الاجتماعية في المجتمع الأردني أدت إلى وجود مرجعيتين اجتماعيتين ثقافيتين، إحداهما مرجعية تقليدية راسخة، وأخرى حداثية قشورية سطحية، وقد انعكست هذه الازدواجية على اختيارات الفرد لأفعاله وعلاقاته، فقد يكون الفرد حداثياً قولاً، لكن أفعاله متجذرة في الإطار التقليدي، بخاصة إذا اتفق هذا مع تحقيق مصالحه. ويَظهر هذا واضحاً في العنف ضد النساء والأطفال، معزَّزاً بثقافة تقليدية أو تأويلات دينية. وأدّت الهجرات الداخلية والخارجية القسرية، إلى تعددية في البناء الاجتماعي، كان يمكن أن توحَّد في مفهوم المواطنة وتجسيد دولة القانون، وتشجيع تشكل المجتمع المدني وتطوره. لكن سياسات التمييز السياسي والاقتصادي بخاصة، سواء كانت حقيقة موضوعية أو مجرد معتقدات، أدت إلى فرز وإفرازات، همّشت فئات، وشجعت أخرى على التطاول والشعور بأنها وحدها التي تملك حق الانتماء والولاء، فانقلبت التعددية إلى قاعدة للصراعات والفرز، مما انعكس سلباً على الوحدة الوطنية. وهذا من الأمور التي لا تشكل ظروفاً للعنف فقط، بل تخدم سياسات إقليمية وخارجية تهدف إلى تفتيت المجتمع. فالعنف ليس كما ذكرنا طبيعة إنسانية، والاستجابة لمواجهته كظاهرة متنامية في المجتمع الأردني، تكمن في إصلاحات تشريعية وتطبيقات تضمن العدالة والمساواة وحضور عادل وواعٍ للدولة ومؤسسات المجتمع المدني. ولما كانت المؤسسات التعليمية من مسارح العنف، فلا بد من إعادة النظر في السياسات التعليمية على كل المستويات. فما زالت هذه المؤسسات تؤدي دوراً معزِّزاً لتقاليد ضارة، أو أنها غير مؤثرة في تشكيل شخصية وطنية واعية. استمرار الولاءات العشائرية، واستمرار التعصب والسلوك الجمعي العشائري، أوضح دليل على فشل دور المؤسسات التعليمية في أداء دورها التربوي. إننا قادرون على الاستجابة لظاهرة العنف إذا تخلّينا عن نظرتنا ومصالحنا الفئوية لصالح النظرة والمصلحة العامة، وعدم الاختباء في تبرير الواقع بمسببات أمنية أو قومية زائفة. |
|
|||||||||||||