العدد 10 - سينما وتلفزيون
 

ظهور أي فيلم جديد يقدّمه مارتن سكورسيزي، أبرز المخرجين الأميركيين المعاصرين، يعدّ حدثاً فنياً يثير اهتمام نقاد السينما في كل مكان. فهو مخرج مبدع دائم التجديد والتنويع في أفلامه التي تميزت دائماً بمستواها الفني الرفيع، وفازت بأرفع الجوائز السينمائية، مثلما أثارت الكثير من الجدل.

وقد استقبل النقاد فيلمه الجديد «الجزيرة المغلقة» Shutter Island باهتمام كبير، ذلك أنه أول فيلم روائي يقدمه منذ فيلم «الراحلون» 2006، الذي فاز عنه بجائزة الأوسكار لأفضل مخرج من بين 53 جائزة سينمائية فاز بها هذا الفيلم، بينها أربع من جوائز الأوسكار، شملت أيضاً جوائز الأوسكار لأفضل فيلم وسيناريو ومونتاج، بالإضافة إلى فوز سكورسيزي بجائزة الكرات الذهبية، وجائزة نقابة المخرجين الأميركيين لأفضل مخرج.

«الجزيرة المغلقة» هو الفيلم الروائي السادس والعشرون لهذا المخرج عبر مشواره السينمائي الطويل، وهو الرابع الذي يجمعه مع الممثل ليوناردو ديكابريو. ويستند الفيلم إلى سيناريو للكاتبة السينمائية ليتا كالوجريديس مبنيّ على رواية معروفة بالعنوان نفسه للكاتب دنيس ليهين صدرت في العام 2003.

تقع أحداث الفيلم العام 1954، في جزيرة جبلية صغيرة وهمية، من ابتكار ليهين. وتقع الجزيرة، في سياق قصة الفيلم، في المحيط الأطلسي على مقربة من مدينة بوسطن بولاية ماساشوسيتس. وقد صُوّرت معظم مشاهد الفيلم في هذه الولاية، بالإضافة إلى ولاية مين المجاورة.

الشخصيتان المحوريتان الرئيستان في «الجزيرة المغلقة» هما مدير الشرطة أو الشريف إدوارد دانيالز (الممثل ليوناردو ديكابريو)، وشريكه الجديد في العمل تشاك أويل (الممثل مارك روفالو)، اللذان يُرسَلان في مهمة إلى مستشفى للأمراض العقلية للمجرمين يقع في تلك الجزيرة التي يتطلب الوصول إليها ومغادرتها استخدام قارب. ويكلَّف رجلا الأمن بالتحقيق في اختفاء نزيلة خطيرة اسمها راتشيل سولادنو (الممثلة إميلي مورتيمر في الصغر، والممثلة باتريشيا كلاركسون في الكبر) كانت قد أُدخلت السجن بعد إدانتها بارتكاب جريمة إغراق أطفالها الثلاثة.

يحيط الغموض باختفاء هذه النزيلة من السجن. فكيف يمكن لها أن تختفي من زنزانة خاضعة للمراقبة على مدار الساعة من الخارج وتقع في جناح محكم الإغلاق وفي مستشفى أقيم في حصن قديم مبنيّ منذ أيام الحرب الأهلية الأميركية بحيث يتحمل نيران المدافع الثقيلة؟ من الواضح أنه ليس من الممكن لهذه النزيلة أن تغادر الجزيرة وهي على قيد الحياة، وربما تكون مختبئة في كهف أو واد.

يبدو للوهلة الأولى أن اختفاء سجينة واحدة من مستشفى للأمراض العقلية للمجرمين لا يستدعي وجود اثنين من مدراء الشرطة، لكن سرعان ما تتكشف حقائق تثير الشكوك وتظهر أن الوضع أكثر تعقيداً من المتوقع، بخاصة بعد أن يلتقي رجلا الأمن بالمدير الطبي للمستشفى، كولي (الممثل البريطاني الهندي الأصل بين كنجسلي)، صاحب الشخصية المريبة والمنفرة.

يتضح لرجُلَي الأمن أن كولي وزميله الشرير الطبيب نهرينج (الممثل السويدي ماكس فون سيدو) يخفيان سراً كبيراً. وحتى نائب مدير السجن (الممثل جون كارول لينش) الذي يبدو لطيفاً في الظاهر، يتصرف بشكل مثير للريبة والشكوك.

من الواضح أن المسؤولين الشريرين الذين يلتقي بهم رجُلا الأمن يُخفون أمراً غامضاً أكثر خطورة من مجرد اختفاء نزيلة من السجن. وأول ما يتبادر إلى الذهن الإشاعات المنتشرة حول قيام الفريق الطبي في المصحة العقلية بإجراء تجارب علمية مريبة على النزلاء.

ومما يزيد الأمر تعقيداً أننا نطّلع في سياق أحداث الفيلم على معلومة مهمة تتعلق ببطل القصة إدوارد دانيالز، هي أن زوجته قُتلت على يد مجرم مصاب باضطراب عقلي موجود في السجن نفسه، ما يثير احتمال اشتراكه في هذه المهمة للانتقام من قاتل زوجته. ويعاني دانيالز من العديد من المشاكل التي تتكشف للمشاهدين عبر استخدام أسلوب العرض الارتجاعي، بالبراعة المعهودة للمخرج مارتن سكورسيزي، مستعرضاً أثر الخبرات المأساوية التي تعرّض لها دانيالز خلال مشاركته في الحرب العالمية الثانية في ألمانيا قبل ذلك بعشر سنوات وغيرها من الخبرات التي تركت آثاراً عميقة في نفسه، بما في ذلك أجواء الحرب الباردة التي هيمنت على تلك الفترة الزمنية.

تتحول قصة «الجزيرة المغلقة» بصورة تدريجية إلى وضع أعباء متزايدة على كاهل بطل القصة مدير الشرطة إدوارد دانيالز في علاقاته ومواجهاته مع الأطراف المختلفة، بمن في ذلك شريكه في المهمة تشاك أويل وطاقم المستشفى بقيادة كولي ونيهرنج ونزلاء المستشفى وحراسه. وقد يوحي ذلك بإصابة بطل القصة بجنون الارتياب، بخاصة إذا أضيفت إلى ذلك ذكرياته الأليمة المتعلقة بمقتل زوجته ديلوريس (الممثل ميشيل وليامز) والصداع الدائم الذي يتعرض له، إضافة إلى ذكريات الحرب المؤلمة.

وفي ما بين الشخصيات السيكوباتية والأطباء النفسيين والأسرار المخفية المحيطة بشخصية بطل القصة مدير الشرطة، تختلط الأمور بين الحقيقة والأوهام وبين سلامة العقل والجنون. وعندما تظهر السجينة المفقودة فجأة يدرك مدير الشرطة أن هناك الكثير من الأسرار والألغاز التي يجب كشفها. ويتزامن ذلك مع هبوب الإعصار، الأمر الذي يجعل اتصال الجزيرة مع البر أمراً مستحيلاً، وتخيم على الجو ليلة عاصفة مظلمة تتخللها أصوات مرعبة، وهي أوضاع مثالية لدخول المحققين إلى المناطق المحظورة في المصحة العقلية. ويدخل مدير الشرطة في سباق مع الزمن في سعيه الدؤوب للبحث عن الحقيقة. وينتهي الفيلم بسلسلة من المفاجآت المتلاحقة غير المتوقعة، بما في ذلك الهويات الحقيقية للشخصيات الرئيسة للقصة التي تتستر وراء شخصيات مزيفة.

والماء من الأمور التي يتكرر ظهورها في أفلام المخرج مارتن سكورسيزي. وتلعب صورة الماء دوراً واضحاً في «الجزيرة المغلقة». فهناك المحيط الذي يعزل الجزيرة، والإعصار الذي يجتاح المنطقة، والأطفال الغرقى أبناء النزيلة المفقودة. وتنذر صورة الماء في هذا الفيلم بالخطر المحدق بدلاً من أن يكون الماء رمزاً للحياة.

يتميز هذا الفيلم بالإخراج المحكم لمارتن سكورسيزي الذي ينجح في خلق جو عام مشحون بالترقب والتوتر منذ المشهد الأول لعرض لائحة أسماء المشاركين في الفيلم، مستخدماً الموسيقى التصويرية المعبّرة عن جو الخوف المقترن بأفلام التشويق والرعب، ويعزّز ذلك بجو كئيب ملبد بالغيوم، ما يوحي بهبوب إعصار وبأن شيئاً مرعباً على وشك الحدوث.

يركز سكورسيزي على مخاطبة أحاسيس المشاهدين والتأثير عليها، ما ينذر بالكشف عن أسرار مرعبة. كما يتميز الفيلم بقوة أداء ممثليه الذين يضمون مجموعة من الممثلين القديرين، وفي مقدمتهم الممثل ليوناردو ديكابريو الذي يتقمص شخصية مدير الشرطة بحساسية مرهفة، ويغوص في أعماق تلك الشخصية بحيث ينجح في نقل أحاسيسها إلى المشاهدين. ويؤكد سكورسيزي هذا الأمر، باللقطات القريبة لتعابير وجه ديكابريو. هذا بالإضافة إلى الممثلين المخضرمين بين كنجسلي وماكس فون سيدو اللذين يعبّر كلّ منهما بعينيه الثاقبتين عن شخصية الطبيب الشرير بنظراته الساخرة. وتقترن قوة أداء الممثلين بأفلام المخرج مارتن سكورسيزي الذي فاز ممثلو أفلامه بمئات الجوائز السينمائية.

ولتهيئة ممثلي فيلم «الجزيرة المغلقة» للجو العام لقصة الفيلم، قام سكورسيزي بعرض اثنين من أشهر أفلام الإثارة والتشويق لطاقم الفيلم، هما «من الماضي» 1947 للمخرج جاك تورنييه، و«الدوار» 1958 للمخرج ألفريد هيتشكوك.

يشار إلى أنه كما يحدث عادة لكثير من الأفلام السينمائية، فقد رُشّح عدد من الممثلين للقيام بالدورَين الرئيسيين في فيلم «الجزيرة المغلقة» قبل إسنادهما للممثلين ليوناردو ديكابريو ومارك روفاليو، ومنهم براد بيت ومارك وألبيرغ وروبرت داوني وجوش برولين. كما رُشّح كلٌّ من المخرج الألماني وولفجانج بيترسين والمخرج الأميركي ديفيد فينشر لإخراج هذا الفيلم قبل تكليف سكورسيزي بهذه المهمة.

صعد فيلم «الجزيرة المغلقة» إلى المركز الأول في قائمة الأفلام التي تحقق أعلى الإيرادات على شباك التذاكر في دور السينما الأميركية، حيث حصد أكثر من 41 مليون دولار خلال الأيام الثلاثة الأولى لعرضه، وهو أعلى دخل يحققه أي فيلم من إخراج المخرج مارتن سكورسيزي أو يقوم ببطولته الممثل ليوناردو ديكابريو حتى الآن. وبلغت الإيرادات العالمية الإجمالية لهذا الفيلم أكثر من 171 مليون دولار خلال الشهر الأول لعرضه، وقد بلغت تكلفته نحو 80 مليون دولار.

«الجزيرة المغلقة» للمخرج مارتن سكورسيزي فيلم ثريّ بالمغامرة والتشويق
 
01-Apr-2010
 
العدد 10