العدد 10 - العالم | ||||||||||||||
بعد أن وجهت إسرائيل صفعة قوية إلى نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، مما اعتُبر تحدياً واضحاً لهيبة البيت الأبيض، استعاد الرئيس باراك أوباما الزمام يوم أن أصدر الكونغرس أواخر آذار/مارس 2010، في خطوة تاريخية، قراره لإصلاح الرعاية الصحية في الولايات المتحدة. وقد تحقق لأوباما هذا الإنجاز، الأهم في أولوياته الداخلية، بتوظيف مزيج مما لديه من عوامل القوة، كالقدرة على تنظيم المجتمع وحشد الطاقات تضاف إلى مهارة المحامي وتشكيل الفريق المتعاون، إذ وظف كل ذلك في طرح القضايا السياسية والاقتصادية في ساحة المناظرة. وهو بالإضافة لذلك يتمتع بقدرة مماثلة على استغلال مكانته زعيماً للأمة، وتثبيتها. ففي 23 آذار/مارس، وقّع الرئيس، بعد موافقة الكونجرس، قانوناً يسمح بعملية إصلاح واسعة لنظام الرعاية الصحية، وهي أهم مبادرة سياسية واجتماعية في الولايات المتحدة حتى الآن، وسيكون من شأنها تحديد ملامح فترة رئاسته وتعريف إرثه. وقد وُصف القانون بأنه تشريع «شمولي» لا مثيل له منذ قانون الرعاية الطبية الصادر العام 1965. والإنجاز جوهريٌ على كثير من الأصعدة؛ فهو إنجاز أخفق أسلاف أوباما، وآخرهم بيل كلينتون، في تحقيقه أو تحقيق مثله. ومن أهمية هذا التشريع تكلفته البالغة 2.5 تريليون دولار، وتوسيع مظلة التأمين لشمول 32 مليون أميركي، لم يكونوا قبله قادرين على دخول مظلة التأمين الصحي. ومن شأن هذا القانون أن يغير بصورة دراماتيكية الطريقة التي تتوفر بها الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، مع تخفيض العجز في الموازنة بقيمة 1.3 تريليون دولار في العقدين المقبلين. وبالنسبة لأوباما، يحمل هذا التشريع مبدأ جوهرياً يُعنى «بحق الجميع في الحصول على القدر الأساسي من الرعاية الصحية». وفي رده على اتهامات أطلقها أنداده الجمهوريون بأنه اشتراكي، وهي تهمة خطيرة في المجتمع الممعن في الرأسمالية، قال أوباما إن القانون يمثل «مقاربة تعتمد المنطق السليم، وتبقي على نظام التأمين الخاص قائماً غير منقوص، لكنها تجعل منه أكثر فعالية ليستفيد منه الجميع». كان رد فعل ماكينة الجمهوريين أن أطلقوا حملة بعد يوم من تصويت مجلس النواب بهدف إبطال التشريع من جهة، واستخدامه سلاحاً لتعبئة الناخب الأميركي ضد الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية للكونغرس المقرر عقدها في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 من جهة أخرى. وقد تقدمت 13 ولاية بدعاوى قانونية إلى محاكم فيدرالية تعترض فيها على المشروع بدعوى أنه يتعارض مع الدستور، ولا يتوقع مسؤولو الإدارة أي نجاح لهذه المساعي. ورغم الضجة التي أثارها المعارضون لما وُصف بأنه «أكبر مشروع تعديل للسياسة الاجتماعية» إلا أنه يمكن، فعلاً، اعتبار هذا الإنجاز من المحطات الأبرز في مسيرة أوباما الرئاسية حتى الآن، فقد مكنه من إبراز المهارات التي وظفها بذكاء في دفاعاته عن المشروع في مناسبات مختلفة. وقد بدا الرئيس في بادئ الأمر كأنه يعمل عن بعد مع رفاقه الديمقراطيين على كابيتول هيل، وهم الذين كانوا معه على اتفاق حول هدف إصلاح نظام الرعاية الصحية، لكنهم اختلفوا معه وفيما بينهم حول وسائل التطبيق. وكان زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ هاري ريد، الديمقراطي من نيفادا، قد استطاع الحصول على موافقة المجلس على النسخة التي بين يديه في كانون الأول/ديسمبر 2009. أما رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، الديمقراطية من كاليفورنيا، التي تُعدّ من أفضل من يجتذب الأصوات في المجلس، فقد واجهت خلافاً عميقاً مع بعض أعضاء المجلس من الديموقراطيين بسبب ما يحمله مشروع القانون من التمويل الفيدرالي لعمليات الإجهاض، وهو أمر يعارضه المحافظون بمن فيهم أعضاء في الحزب الديموقراطي. وواجه أوباما الجمهوريين أيضاً في أواخر كانون الثاني/يناير 2010، وانخرط معهم في مناظرات حية على شاشة التلفزيون أمام الجمهور الأميركي، وهي مناظرات كانت بمثابة حوارات سياسية غاية في الذكاء أظهر فيها الرئيس أفضل ما عنده. وكان الغرض الأبرز من كل ذلك التدليل على الشفافية التي تعمل بها إدارته وتبيانها، بحيث يشاهد الشعب الأميركي، في هذه الحالة، مناظرة حول القضية الأكثر إثارة للجدل وهي إصلاح نظام الرعاية الصحية، كي يقرر الأميركيون بأنفسهم موقفهم من دعم المشروع أو عدمه. وسوف تكشف انتخابات الكونغرس المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر، مدى اقتناع الجمهور بالقضية ودعمه للقائمين عليها، الديموقراطيين. وقد قام الرئيس بعقد لقاء ضم القادة من الحزبين في محاولة لاجتذاب الجمهوريين، أو بعضهم على الأقل، إلى جانب مشروعه. ورغم إخفاقه في ذلك، إلا أن أحداً لا يستطيع اتهامه بالفشل في الانخراط الحواري مع المعارضة شخصياً، أو بإهماله ضرورة العمل من خلال شراكة حقيقية مع مناظريه. وكان من أثر جهده ذلك أن ترك انطباعاً لدى الجمهور، بأنه رئيس منفتح على العمل المجدي مع الطرف الآخر والأخذ ببعض الأفكار التي اقترحها الخصوم في قضية خضعت لجدل واسع في البلاد. وفي نهاية المطاف، توفرت للرئيس فرصة تقديم خطته إلى الشعب، وإبراز بعض نقاط الضعف في مواقف الجمهوريين حيالها. وفي أوائل شباط/فبراير، واصل أوباما اتصالاته مع رفاقه الديمقراطيين في مجلس الشيوخ لإثبات أنه يعمل وإياهم في جبهة واحدة لتحقيق ما عجز أسلافهم عن تحقيقه. وفي الوقت الحاسم، استطاعت رئيسة مجلس النواب اجتذاب العدد الكافي من الأصوات لتمرير القانون رغم أن الجمهوريين ونفراً من الديمقراطيين لم يصوتوا إلى جانبه. ولعله من السابق لأوانه، رغم أهمية الإنجاز، التنبؤ بأثره على إصلاح قطاع الرعاية الصحية في أرجاء أميركا كافة، وعلى السياسة العامة في واشنطن. ومن المرجَّح أن يقوم أوباما بجولة في الولايات الأميركية، للمساعدة على حشد الدعم للمرشحين من أعضاء حزبه، سواء الذين صوّتوا لمشروع قانون إصلاح الرعاية الصحية أو الذين صوّتوا ضده، في معاركهم الانتخابية للحفاظ على الأغلبية في كلا مجلسَي الكونغرس. ويتوجب على المرشحين أن يقنعوا ناخبيهم بأنهم ليسوا كما يتهمهم الجمهوريون من أنهم تسببوا في «سيطرة الحكومة»، تهمة الاشتراكية، على ما يوازي سدس الاقتصاد من خلال إصلاح نظام الرعاية الصحية. وقد عارض زعيم الجمهوريين في الكونغرس ميتش ماكونيل، من كنتاكي، وصف التشريع بالإصلاح، وحذّر الديمقراطيين من أن فرحتهم «عمرها قصير»، لأن الشعب الأميركي «لن ينخدع» بمشروع كهذا. وبالغ ماكونيل في مضيه بالقول إن أغلبية الأميركيين «مذهولون من أن الكونغرس قد أقرّ هذه الجريمة الفاحشة التي جاءت في 2685 صفحة، القانون، ضد رغباتهم». أما السيناتور الجمهوري جون ماكين، من أريزونا، الذي كان قد ترشح ضد أوباما للرئاسة العام 2008، فقال بحتمية انعدام التعاون مع الديمقراطيين حتى نهاية العام. وبعد يومين من إقرار القانون، اسـتأنف أوباما حملته، وعاد إلى أيوا لبناء الزخم والترويج للقانون بوصفه تجسيداً لأجندة إصلاح نظام الرعاية الصحية التي أطلق صيحتها أثناء بدء حملته الانتخابية عام 2007 في تلك الولاية. وكان في ذلك تعبير عن الثقة المتزايدة، لدى الديمقراطيين والبيت الأبيض، في أن القانون قد أكسبهم زخماً سياسياً هم بحاجة لزيادته لضمان النصر في الانتخابات القادمة. وقد بين استطلاع للرأي أجرته محطة سي بي أس نيوز مباشرةً بعد تصويت مجلس النواب ارتفاع معدل التأييد الشعبي للرئيس بسبب مشروع الرعاية الصحية من41 في المئة إلى 47 في المئة. ورغم أن التحدي الكبير، المتمثل في الكساد الاقتصادي والبطالة، الذي تواجهه إدارة أوباما، ما زال ماثلاً للعيان وواضحاً، إلا أن إدارة أوباما تستطيع القول بثقة إنها عملت على حماية ذلك الكم من القوى العاملة الذين فقدوا وظائفهم وسقط تأمين أصحاب العمل عنهم تبعاً لذلك، من بقائهم دون تأمين صحي وهي مشكلة لهم فوق بطالتهم. وتشتمل القضايا الداخلية الموضوعة على أجندة أوباما لحلّها على المدى البعيد: إصلاح النظام التعليمي الأميركي، معالجة التغير المناخي، إصلاح وضع الهجرة والتوقف عن الاعتماد على النفط الأجنبي، هي قضايا ليس سهلاً حلها. وقد بدا أوباما كأنه اكتسب زخماً بقدر الإنجاز غير المسبوق الذي حققه حين قال: «إننا نستطيع القيام بالخطوات التالية بشعور جديد بالثقة، وبرياح جديدة تدفع أشرعتنا. إننا لا نخشى المستقبل، بل نصنعه ونشكله». إذا كان هناك درس يمكن استخلاصه من كل هذا وما تمخض عنه من نتائج، فهو أن الانخراط المبكر والشخصي للرئيس، ورغبته في استثمار رأسماله السياسي في الدفاع عن قضايا ملحّة، أمران يكتسبان أهمية خاصة. ولو أن أوباما استخدم على الجبهة الخارجية قدراً مساوياً من الإرادة والمهارة ما بذل منهما لإنجاح مشروع الرعاية الصحية، فقد يكون الرئيس الأميركي الذي سيفلح في إيجاد حلٍ للصراع العربي، الإسرائيلي؛ إذ ما يزال العديدون في منطقتنا المتعبة يأملون أن يخصص الرئيس المزيد من وقته للعملية السلمية، وهو إجراء مهم لتحقيق الاختراق المطلوب نحو الوصول إلى السلام الشامل. |
|
|||||||||||||