العدد 10 - الملف
 

« الغجر ... النور» هم أول قصة للغزل، أول قصة للسحر والحجب وقراءة الطالع وضرب الودع، أساطيرهم أكثر من الحقائق المعروفة عنهم، منذ أن غادرت قوافلهم الأندلس بحثاً عن الأمان في أصقاع أوروبا التي منحتهم منتصف القرن الماضي كل الحقوق والقيمة الاجتماعية، عكس من اتجه براحلته إلى المغرب العربي بعد سقوط غرناطة وانداحوا في أمصار الشام وبر مصر، فوقع أسير المحكي الذي لا يحمل وداً لخرابيشهم، وأسهمت السينما، رغم ولعهم بالفن في تكريس الجفاء المجتمعي لهم، فما زالت كلمة «نوري» جزءاً من قاموس الشتيمة في المجتمع الأردني.

يجوبون الأرض من غير هوية ولا اعتراف بحالهم، كأنهم يعيشون على هامش الحياة. يتكلمون العربية مع الناس وداخل خرابيشهم يتكلمون لغتهم «لغة العصافير»، وهي خليط من التركمانية والهندية والكردية والأردية. لغة انتجها تنوع الأقطار التي جابوها والثقافات التي تعايشوا معها، فباتت وشماً احترفوا رسمه على الأجساد وبريقاً خالصاً مثل أسنان الذهب التي تغوي بها الغجرية صيدها إضافة إلى «محفار الكوسا وجلخ السكاكين»، كمهن ظلت لهم على وجه الحصر.

إنهم، الغجر أو «النّور»، يطلبون حقوقاً ينظر إليها الأردنيون بوصفها أساسيات بل من أبجديات العيش الكريم، وعند سؤالهم إن كانوا من الفئات المهمشة، يجيب رجل منهم اسمه علي أبو أحمد «الكلاب تعيش أفضل من عيشتنا».

شيخهم حالياً فتحي عبده موسى الذي ترشح لانتخابات مجلس النواب الرابع عشر في العام 2007، كدليل على تمتعهم بالحقوق السياسية والمدنية. وكان شيخهم منذ بدايات تأسيس الدولة الشيخ سعيد باشا شيخ عشائر بني مرة، وكان من مستقبلي الملك المؤسس عبدالله الأول، وإن كان أشهرهم «الهبر» صديق «عرار»، و«يؤكدون نحن عرب أقحاح، ولسنا تركماناً أو أجانب بل أصولنا عربية من قبيلة بني مرّة، ونحمل الجنسية الأردنية».

إلى الشرق من حي المنارة وعلى كتف «جبل النصر»، تجتاز بك الهضبة مكاناً يُدق وينشر فيه الحجر، هذا الحجر الناعم الذي ينبت إما قصراً وإما قبراً فهو المادة المتفق عليها، وهو المسافة التي تتداخل فيها الوظائف في الحياة.

وبالتكاتف والتلازم، بين دق الحجر ودق الوشم، ينصب الغجر خرابيشهم شرق عمان.

حين ترى أوضاعهم، يطن السؤال: هل النور أو الغجر مهمشون أم يعيشون على الهامش؟ وللإجابة عن هذا السؤال، دلفت حافلة ے خرابيشهم. تجيب أم جواهر وهو الاسم الذي قالته لنا «أنا بقبل أكون مهمشة بس أطعم أولادي دجاج مرة واحدة في الشهر، ما بدي أي حقوق بدي أعيش أنا وأولادي وزوجي بأمان بعيداً عن تدخل أمانة عمان. كل يوم تهدم خيمنا وترحلنا»، وتطرح أم جواهر سؤالاً وتجيب عنه، فتقول «توقع كم مرة في السنة نرحل من مواقعنا؟ أكثر من 100 مرة ترحلنا الأمانة».

وتتدخل رفعة، أم أحمد، ناقلة الإجابة إلى مستوى آخر «تصور صندوق المعونة الوطنية يوزع الرواتب على أردنيين يسكنون في بيوت ونحن الذين نسكن في خيم الخيش والزينكو لا نجد ما يستر عورات أولادنا وأطفالنا. وعندما نذهب إليهم لطلب العون والمساعدة أو صرف الرواتب يطرودننا».

صوت أذان الظهر يقطع الحوار، فلا تسمع من الرجال والنساء إلا ترديد ذكر الله والصلاة على رسول الله. وكان السؤال «كلكم مسلمون»؟ فيخرج صوت واحد: «كلنا مسلمون»، لكن «هل يعلم صندوق الزكاة عن أحوالنا»؟

أول من أنصف النور أو الغجر في الأردن، كان شاعر الأردن مصطفى وهبي التل «عرار»، فقد رسم مختلف جوانب‏ ‏حياتهم في الأردن من العيش فى الخيم «الخرابيش» وعاداتهم وتقاليدهم ومهاراتهم‏ ‏في الرقص والغناء بأسلوب بديع ودقيق. كما تغنى بجمال نسائهم بإسهاب في قصائده. ولعل الرقص ودلال نساء الغجر هو ما أفرز فاصلاً مجتمعياً معهم وموروثاً محكياً عن ليالي السمر في خرابيش النور ما زال يشكل جدار فصل عنصري، ولم يشفع لهم دفاع عرار ‏‏عن حقهم في المساواة واعتبارهم أردنيين متساوين مع بقية أبناء الشعب في الحقوق‏ ‏والواجبات، فما زال المجتمع على قناعة بأن النور ينظرون إلى عمل الرجل بوصفه عيباً. ويروي شاهد عيان، محمود تيم من جبل النصر، أنه رأى نسوة من النور في آذار يضربن رجلاً، وعندما تجمهر الناس عرفوا أن سبب ضربه بحثه عن عمل.

يقول علي زهري فراج الحسن لـے رداً على سؤال من أين انتم؟ «نحن من الأغوار ونحن عرب وأردنيون. يوجد لدينا هويات شخصية وجوازات سفر ودفاتر عائلة مثبت عليها الرقم الوطني». ويستطرد الحسن بقوله في حب الأردن «سافرت إلى 8 دول عربية ولا أستطيع البقاء خارج البلد أكثر من شهر واحد لأعود بعدها إلى وطني. أحب الأردن ولا أستطيع العيش بعيداً عنه، لكن بلدي للأسف لا توفر لي سوى جرافات الأمانة لتطاردني وأسرتي ليل نهار لترحيلنا وهدم الخيمة»، أو العمل زبالاً في دوائرها، فهذه هي المهنة الوحيدة المتاحة لـ«النور».

وعن مطالبه من الحكومة، يقول «نطلب رحمة ربنا وعملاً نترزق منه وقطعة أرض نعيش عليها أو بيت يأوينا، فلا يوجد مكان واحد من الممكن أن نستقر فيه».

ورداً على سؤال حول ما لديهم من مطالب سياسية، يقول الحسن وهو ينظر إلى الفضاء الرحب «شيخنا فتحي موسى عبده شيخ قبيلة بني مرة في الأردن ترشح للانتخابات النيابية قبل سنوات، ورغم أنه حصل على أصوات كثيرة، لكننا تفاجأنا أنه لم ينجح، وإن شاء الله المرة المقبلة يكون فاله النجاح».

وبخجل، تحاشياً لإيذاء مشاعر شيخ قبيلته، من الدخول إلى خانة سلوكه في التعامل مع النور، يؤكد أنه يسأل عن أحوالهم، بينما ترد زوجته «والله لا يسأل ولا يعرف ما هي أحوالنا»، فيستدرك الحسن «بصراحة الشيخ لا يسأل عن أحوالنا».

وأقصى ما يتمناه الحسن كغيره ممن تجمهروا ليسمعوا ويروا ما يحدث في محيط خيامهم أن يصبح لهم مستقبل، متمنين «عيشه الآدميين».

أم زهري، زوجة الحسن، تلبس على رأسها شالاً أسود، تغطي به شعرها الأشقر، وتحمل بين يديها طفلاً ستر نصفه الأعلى فقط، وتضع يديها فوق حاجبيها لتحجب أشعة الشمس عن وجهها الأبيض المحروق «هل تستطيع أن تلبي بصحيفتك مطالبنا؟ أنا لا أريد سوى أن أرسل أولادي للمدرسة لأنني حرمت من التعليم، وأريد أن نأكل ونشرب مثل الأردنيين»، وحسب التربوية فدوى، فإن طالبات النور يتعرضن لتهميش وتهشيم إما من ثقافة زميلاتهن اللاتي يشتمنهن بلفظة «نورية». وهذا تغذيه أيضاً معلمات، جئن من ثقافة طالباتهن نفسها مما يدفع بالطالبة «النورية» إلى الإحجام عن دخول المدرسة أو الانسحاب منها مبكراً.

يومها كنا على مسافة قريبة من عيد الأم. سألتها ے «ماذا يعني لك هذا العيد؟ سألت هي بدورها «متى؟». ولما عرفت الجواب، علّقت «قبل فترة كان عيد الفالنتاين سمعنا عنه»، فيرد عليها زوجها «يا أم زهري إحنا مسلمين ما بنعرف إلا عيد الأضحى وعيد الفطر».

وتتابع أم زهري وهي تتحدث غير واثقة من استطاعة ے مساعدة أسرتها على الخروج من محنتها قائلة إنه لا يوجد لديها كرت التأمين الصحي، وإن كل مايسترزقونه شهرياً لا يتجاوز 150 ديناراً بدل بيع البلاستيك وعلب المشروبات الغازية. وتزيد أم جواهر أنها لا تذهب إلى صندوق المعونة رغم أنها أردنية لأنهم يطردونهم، بينما ترى نساء تحصل على معونات وهي تلبس أفخر الملابس والعطر يفوح من ملابسها، وتطلق تنهيدة «ربك بسترها لو أنها على العبد والله غير يحرمونا شم الهوا».

سيدة أخرى، «أم أحمد» شرحت معاناتها وقالت إنها أردنية ومن حقها أن يكون عندها وعند أولادها بيت، وأن تحصل على راتب من صندوق المعونة الوطنية، وتقدم مناشدة عبر ے «والله لو رأى جلالة الملك أوضاعنا لحزن علينا».

وعن مطالبها، قالت أم أحمد التي يسكن والداها وإخوانها في شقة في ضاحية الأقصى، ويعمل إخوانها في الجيش وأخواتها معلمات «أريد وظيفة حكومية لأساعد زوجي وأولادي، عندي ثلاثة أطفال ونشحد الماء من عند الجيران أو الكازية، أما الاضاءة في بيت أم أحمد فهي «القنبور» المعروف بالسراج.

وتطرح أم أحمد مفارقة بين كونها أردنية وتحمل بطاقة المعالجة لأولادها، وكيف أجبرها أحد المستشفيات الحكومية على دفع 150 ديناراً بدل عملية لطفلها، وهي لا تجد ما تكسي به جسد أولادها من اللباس، وتردد «تصور يا أخي بدل الحكومة ما تدفع إلنا إحنا بندفع إلها».

باسمه العودات «أم العبد» التي لم تكمل السبعة عشرة عاماً ولديها طفل، وهي حامل بالثاني، مطالبها لا تختلف عن مطالب جاراتها، فهي تريد بيتاً لتعيش فيه مع زوجها وضرتها وأولاد ضرتها، ليقيهم حر الصيف وبرد الشتاء.

وباسمه كغيرها من فتيات المعاناة اليومية من بنات الغجر، أثاثها حرامان وفرشة بالية، وتعمل أحياناً في بيوت المواطنين، وتحصل على خمسة أو ستة دنانير إن عملت حسب قولها. وهي نموذج على زواج الغجرية المبكر. فمهر الفتاة لا يتجاوز 1500 دينار يعطيها العريس لأهل عروسته. وتتزوج الفتيات من رجال النور وهن في عمر 16 عاماً.

أردنيون ولدوا من رحم المعاناة، كانوا يعتاشون من مهنة الرقص والغناء والتسول أحياناً، لكنهم تركوها الآن بسبب تطور الأوضاع، فاتجهوا نحو أعمال جديدة: بيع ما تقع عليه أيديهم من البلاستيك وعلب الألمنيوم، وجمع الخبز وتنشيفه لبيعه لأصحاب الأغنام، فأعمالهم وحرفهم التي كانو يسترزقون منها اندثرت مثل أسنان الذهب والفضة والعظم وطلاء النحاس وتلميعه، لكن الثابت عندهم دق الوشم والطرب؛ فمن ينسى عبده موسى؟

يحتاج الغجر إلى من يكتب عنهم، ويوصل صوتهم، فمن أين للغجر من يكتب عنهم، فتاريخهم يرحل مع شقائهم وخرابيشهم.

النور .. يقرأون الكفّ ويضربون كفّاً بكفّ
 
01-Apr-2010
 
العدد 10