العدد 10 - الملف | ||||||||||||||
لم تشهد مدينة في الأردن التسارع العمراني والديمغرافي الذي شهدته مدينة الزرقاء التي تأسست العام 1903 قرب عين الزرقاء، مؤتلفة من قرية صغيرة سكنها 66 عائلة شيشانية، وصارت مدينة مليونية في تسعينيات القرن الماضي. ولا شك في أن التهميش الذي يعيشه جزء من الشباب في الزرقاء لا يبدأ مع القرية التي غلب عليها في تطورها نظام الأحياء المُضافة، التي تشكلت وفق الدفعات البشرية المختلفة التي قدمت إلى الزرقاء، سواء أكانت تلك الدفعات التي رافقت نشوء معسكرات الجيش، أم تلك التي جاءت إثر احتلال الضفة الغربية العام 1948، مما انعكس على تسميات الشوارع والأحياء فيها، فنجد شارع الشيشان، الشوام، الحجازية، النوابلسة، والمسيحية، ومخيم الزرقاء. الحديث عن شباب الزرقاء يضعنا أمام التغيرات الاجتماعية والعمرانية العميقة التي شهدتها المدينة؛ لأن الوسط الحضري هو الذي يمارس فيه الشباب أنشطتهم وسلوكهم. تبدأ القصة مع مطلع السبعينيات حين تبلورت شخصية الأحياء السكنية التي أصبحت بمثابة المجال الحيوي للتفاعل الاجتماعي في الوسط الحضري داخل مؤسسات اجتماعية، مثل: العائلة، جماعة الأصدقاء، شبكة العلاقات القرابية من جهة، وداخل مؤسسة الحي «الحارة» من جهة أخرى. لهذا اتخذت أغلب نشاطات الشباب وتفاعلاتهم من الحي والوسط التجاري، إطاراً لها، حيث شكل الحي الوحدة الاجتماعية الأساسية داخل النسيج العمراني لدرجة أن بعض الأحياء أضفت نوعاً من الهوية الثقافية على قاطنيها. ففي منتصف الستينيات، بدأت ملامح التحولات الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، وازدادت وتيرتها نتيجة الطفرة في الزيادة السكانية بعد نزوح 1967، تبعتها حالة من تنوع الأنشطة الاقتصادية وتعدد في الفئات الاجتماعية والأنماط الثقافية. ونتيجة للنمو الديمغرافي، ازداد الضغط والطلب على الخدمات العامة كالتعليم والصحة والعمل، وازداد الطلب على المساكن، فشهدت الزرقاء نهوضاً عمرانياً ومشاريع إسكان، كان للبنوك الناشئة دور في تمويلها. في هذه الأثناء، حدث تحول في نمط العائلة من ممتدة إلى أسرة زواجية، ما ترتب عليه إنتاج أسرة جديدة، وبروز الحاجة لسكن جديد مستقل؛ فزاد عدد السكان بجيل جديد فتي، بلغت فيه نسبة الأفراد التي تقل أعمارهم عن 15 سنة 42 في المئة من حجم السكان، وتستمر الزيادة السكانية لأسباب طارئة في العام 1991 بعد النزوح القسري من الخليج، فكان للزرقاء الحصة الأكبر من الوافدين حتى أصبحت مع نهاية القرن الماضي مدينة «مليونية». من خصائص الأحياء الشعبية التي يعبر عنها حيا الغويرية والمخيم ، أنها تعيش حالات فقر وتهميش؛ ومن خصائصها أيضاً نشاط الأسواق الشعبية، الاكتظاظ الديمغرافي والسكني، السلوكات النمطية، أزمات السير والحوادث، مشاكل الصحة والبيئة والمياه و الصرف الصحي، بعكس الوضع في الأحياء السكنية الحديثة مثل «الزرقاء الجديدة»، و«مشروع قرية الشرق» في المعسكر القديم، حيث المساكن المستقلة التي تحتوي على حديقة أو شرفة، وكراج سيارة، وتنظيم المجال السكني، والشارع التجاري الذي استمد اسمه من اتساع عرضه كشارع الـ 16، وشارع الـ 36. ويغض النظر عن التسميات الرسمية للأحياء؛ كحي معصوم، وحي رمزي، وحي الحسين، وحي الأمير عبد الله، وحي الأمير محمد، إلا أن الوسط الشعبي يتعرف على الأحياء من خلال الانتماءات الجهوية والعشائرية، فتصبح: أحياء الشيشان، المشاقبة، الزواهرة، الخلايلة، المعانية، الدوايمة، السبعاوية، الملكاوية، القدوميين، والمسيحية...إلخ. وأدّت زيادة عدد السكان، وضغط الطلب على المساكن، إلى تحوير نمط الوحدات السكنية، حيث اختفى نظام المسكن العائلي المستقل، واختفت الساحات الفارغة بعد إشغالها بالبناء، وبات الامتداد العمراني يأخذ شكلاً عمودياً، فأصبح المبنى يتكون من عدة طوابق بواجهة حجرية ويطل على الشارع. أما المساكن الداخلية فتشكلت ككتل خرسانية تتخللها الممرات الضيقة «دخلات»، والمستوى الأرضي في المسكن المطل على الشارع، يتكون من مخازن تجارية. هكذا ظهر نظام المسكن/المخزن، فتحول الحيز السكني العائلي المنفرد، من حيز مفتوح على الخارج والداخل إلى حيز مغلق داخلياً وخارجياً، ومكتظ بالسكان. ولم يعد هناك فضاء فارغ تجري فيه علاقات جوار وتواصل اجتماعي، حيث استبدلت بها علاقات المالك والمستأجر. وبعد أن كان الحي فضاء لنشاطات اجتماعية شبابية، حيث الاندماج والصداقات وزمالة المدرسة وعلاقات الجيرة وفضاء اللعب، تحولت، بتأثير التغيرات، تقاطعات الشوارع والأرصفة في منطقة الوسط التجاري إلى أماكن وبؤر لتجمعات الشباب. وبرز دور الشارع بوصفه مسرحاً للنشاطات الشبابية يعبرون فيه عن أسلوب حياة وممارسات يومية. سلوكات جديدة ونتيجة للتطور السريع للنشاط التجاري في الزرقاء، في السنوات الأخيرة، تخلصت الزرقاء من بعض وظائفها، لصالح الحي السكني الحيوي المكتظ والسوق التجارية. فمن ناحية وظيفتها الإنتاجية، تأسست منذ الستينيات فيها مصانع ومشاغل حرفية، وانسحبت المصانع الآن إلى الأطراف في المناطق الحرفية. في ظل التغيرات الاجتماعية والعمرانية، برز فاعلون اجتماعيون جدد، وبرزت أنماط حياة يومية جديدة. ونتيجة المطالب، الواقعية والمفترضة، غير المحققة تماماً، وهي عبء على المؤسسات الخدماتية الرسمية والأهلية، تعمق الشعور بالتهميش وعدم الاندماج، بخاصة لدى شبان يافعين، يتعرضون لتحولات جسدية وسلوكية في فترة المراهقة، وتحدوهم الرغبة في اكتشاف المدينة وانتهاز ما تقدمه لهم، وينتابهم شعور بالتحرر من سيطرة العائلة والمدرسة، حيث يجدون الوقت الكافي في الشارع والسوق والكراجات، وتتشكل لديهم صورة ذهنية متخيلة عما يجب أن تكون عليه المدرسة. وبترددهم على الوسط المديني، يصبحون مستقلين، ويشعرون بأنهم يكتشفون الحياة في الشارع، ويكوّنون أسئلة عن أنفسهم وأجسادهم، وتبدأ حينها رحلة اكتشاف الحياة وفي الوقت نفسه اكتشاف المدينة. الأمكنة المخصصة للتجوال والتسكع في الأحياء القديمة والأرصفة والكراجات، تصبح مجالاً للتعبير الجسدي واللفظي. فالجسد في الوسط الحضري يصبح موضوع مراهنة رمزية تعطي قيمة للقوة والعنف، أكثر من المظهر اللائق. فبعضهم يميز نفسه عن الآخرين من خلال مظاهر جسدية كالوشم الظاهر للعيان، وآثار تشطيب الأدوات الحادة، أو من خلال نمط لباسهم الميداني الخشن والجينز والأحذية والأحزمة والمشدات وغطاء رأس يخفي الملامح. ولتعديل مزاجهم، يستهلكون الكحول والتدخين ومشروبات الطاقة وشم المواد الخطرة. استعمال هذه المواد ينعكس سلباً على سلوك ونفسية وجسد المتعاطي، ويزين لهؤلاء السرقة وفرض الخاوة بالعنف، لدرجة أنه يمكنهم من الدخول إلى المحلات المعزولة والتهديد بأخد المال أو السلع. ومن مظاهر سلوك المهمشين العنف اللفظي، الذي يتم التعبير عنه من خلال كلامهم غير المفهوم أو المستساغ الذي يخدش الحياء، أو من خلال أسلوب الكتابة على الجدران، حيث تُحدث تلوثاً بصرياً وأدبياً، فنقرأ عبارات، في الأغلب، تعبر عن الهوية الشخصية لأصحابها، أو نظرتهم إلى الحياة. ويتعرف بعض هؤلاء نفوذ الآخرين بألقاب ابتدعوها مثل «كوتش» أي زعيم شلة، وتتولد بينهم صداقات أثناء اللقاء في أماكن العمل المؤقت أو الحي، أو في السجن ومراكز التوقيف، وأحياناً في المدارس. فرص العمل المتاحة لهذه الفئة من الشبان لا تترك مجالاً للطموح، والترقية الوظيفية، فهم عاطلون عن العمل أو متعطلون عنه، أو يقومون بعمل غير ثابت بهدف الحصول على مصروف يومي ومؤقت، فيجدون فرص عملهم في (الكراجات)، أو في البيع على البسطات، أو العمل ككنترول باص أو في العتالة، لقاء وجبة طعام أو تحقيق حاجة. أما أماكن لقائهم فتكون في المقاهي أو صالات البلياردو، وفي المساكن المهجورة وبيوت الأصدقاء، أي لدى أحد أعضاء «الشلة». حالة التهميش هذه تمثل نتاج عدة عوامل وظروف خاصة، وكلما حدث التهميش لفئة، تقابلها ردات فعل تطبع السلوك الاجتماعي عندها، و ويمكن التغلب عليها في تحقيق الاندماج والمشاركة، ولا يتحقق ذلك إلا ضمن شروط مواتية تتضافر فيها جهود مؤسسات التنشئة الاجتماعية وقطاعات الخدمات المدنية العامة. |
|
|||||||||||||