كان يفترض، على سبيل المثال، أن تشكل الهجرة الجماعية لمئات من الأسر من منطقة الطفيلة نحو عمّان طيلة عقدي الثلاثينيات والأربعينيات وإقامتهم في منطقة واحدة، نواةً نموذجية للتهميش المديني الكلاسيكي، حيث يقيم القادمون من الأرياف في أحياء خاصة مُقصاة تعيش على هامش المدن الكبيرة. هذا ما تدل عليه تجارب العواصم والمدن في كثير من دول العالم النامي.

غير أن الحال في عمان، لم يكن كذلك. صحيح أن أغلب القادمين إلى حي الطفايلة عملوا في مهن هامشية، لكنهم شكلوا أحد مكوناتها الرئيسية. فقد كانوا عند قدومهم، مقارنة مع باقي السكان، مجموعةً من الشجعان الذين نحتوا حيّهم في موقع وعر معقد ومخيف. وبحسب مؤسسي الحي من القادمين الأوائل، كان شباب عمان يتبارزون في الوصول ليلاً إلى بعض أطراف الحي الذي شكل قاطنوه من الطفايلة لغاية مطلع سبعينيات القرن الماضي، جزءاً حاضراً في المدينة التي كانت مجرد بلدة كبيرة.

غير أن الحال اتخذ مع نمو المدينة منحىً آخر؛ فقد بدأت المدينة تكبر وتبتعد عن الحي، في الوقت الذي أخذ فيه الناس ينكفئون على حيهم، ويستعيدون علاقاتهم السابقة، ويبنون وضعاً فيه قدر كبير من الاستقلالية، لكنها استقلالية مبنية على الفقر والتهميش المديني الجديد.

إنهم يشكلون اليوم مركزاً لمجموعة أخرى من الأحياء الشبيهة التي أخذت تنمو وتشكل موقع استقطاب للكثير من المجمـوعات التي تتهمّش بحكم تطـور المدينة وتعقيدات نموها.

واليوم تتداخل في تلك المنطقة، عدة أحياء متجاورة ذات مكونات اجتماعية متنوعة، غير أن التهميش والانكفاء هو ما يميزها جميعاً. وبالطبع فهي تعيش تناقضاتها الخاصة، وقد خاضت في السنوات الأخيرة بعض الصراعات المكشوفة. واليوم هناك تجمع يضم إلى جانب حي الطفايلة كلاً من «حي أم تينة» و«حي المحاسرة» و«الدبايبة». والأحياء الثلاثة الأخيرة أخذت تشكل بؤر استقطاب لفئات جديدة، فقيرة غالباً، ومن جنسيات مختلفة تجد في هذه الأحياء موقعاً للعيش يناسب إمكاناتها وطابع علاقتها مع المدينة.

هذا الموقع ليس هو المثال الوحيد على التهميش؛ ففي تقرير أعدته الصحفية هيفاء الشيوخي لمجلة المستور المتخصصة بالفقر، رصدت تشكل بؤرة متنامية لحي خاص بعمال النظافة في منطقة «المهاجرين» في عمان. وقد نقلت الصحفية عن أحد قاطني الحي فسّر سكنه في الحي بـ«كل جماعتنا يشتغلون زبالين، إخواني الأربعة وزوج أختي كذلك، وأولادها الأربعة جميعهم عمال نظافة»، بل إن التقرير يرصد أن الحي أخذ يستقطب عمال النظافة في القطاع الخاص.

الشيوخي التقت مع سيدة أرملة قالت إنها عاملة نظافة في شركة براتب 65 ديناراً، وإن ابنتها الصغرى تعمل معها في الشركة نفسها بينما تعمل ابنتها الكبرى في تنظيف البيوت. وعندما تسأل الصحفية عن خطة هذه السيدة تجاه مصير بنتيها، ترد بأنها تبحث لهن عن زوجين في المجال نفسه! لكن الملاحظة اللافتة التي ينتهي فيها التقرير، تقول إن حي الزبالين هذا، يعاني من قذارة شديدة في أزقته!

التهميش الجديد لا يتوقف هنا، فحتى في المواقع الجديدة التي تم ضمها في فترات متلاحقة للمنطقة الجنوبية والشرقية من العاصمة، فإن هناك مؤشرات على ظواهر جديدة؛ فالسكان الذين كانوا يملكون مساحات واسعة نسبياً من الأراضي، وخاصة في المواقع الملاصقة للمنطقة الصحراوية إلى الجنوب من العاصمة، في منطقة الموقر والجيزة مثلاً، اضطروا إلى بيعها تحت إغراءات الأسعار الجديدة، لكنهم يواجهون اليوم صعوبة في استيعاب الأجيال الجديدة من أبنائهم، وقد أظهر عدد كبير منهم تخوفهم من قرارات الضم إلى حوض أمانة عمان الكبرى بسبب استحقاقات هذا الضم المالية، وبسبب مصير مواقع أخرى مجاورة تم ضمها في مراحل سابقة، مثل نزهة سحاب مثلاً التي تشكل أحد المواقع العشوائية الفقيرة الآن.

غير أن الظاهرة الأحدث والأغرب، هي المنحى النامي لتهميش ثقافي في وسط العاصمة الذي يغترب بتسارع شديد متأثراً بطبيعة نمو المدينة الذي اتخذ شكل «تشنجات مفاجئة» وفق تعبير المهندس جعفر طوقان، وهو ما أظهر المدينة وكأنها تهرب من وسطها ومركزها.

فهذا المركز، تلقى في السنوات الأخيرة ضربة جديدة عبر سياسات التطوير والتحديث التي أثرت على الذي صمدوا في الموقع ولم يغادروه، وحافظوا عليه لأسباب متعددة، ليجدوا أنفسهم اليوم قلقين. كما أن هناك، على سبيل المثال، حجماً كبيراً من التغيرات جرت على محتوى ما يعرف بالقطاع «غير الرسمي»، وخاصة العاملين على البسطات والتجارة غير الرسمية، الذين يشكلون، في الأصل، جانباً رئيسياً من ظاهرة التهميش المديني عموماً.

عمان، التي نجت خلال عمرها الحديث من ظواهر التهميش المعقّدة، ومن وجود أحياء مغلقة بعيدة عن نظر المخطط، بعيدة عن عين السلطة، واقعة خارج نطاق الخدمات، نجدها اليوم تخلق ظواهرها الخاصّة من عمليات التهميش والإقصاء، تحت عين إدارتها، وأحياناً بتغاضي إدارتها.