العدد 10 - الملف | ||||||||||||||
اتسم الشارع الأردني تاريخياً بأنه شارع عروبي. وكان هذا الشارع الذي تتصدره الأحزاب السياسية، يتحرك مناهضاً للصهيونية، وداعماً للقضايا العربية الكبرى، لا سيما في فلسطين وكفاح شعبها من أجل الحرية والاستقلال، وفي حروب السويس والجزائر واجتياح لبنان والخليج الثانية واحتلال العراق وحرب تموز في لبنان. وحتى في فترة الأحكام العرفية وغياب الديمقراطية، كان للأحزاب برغم المنع والملاحقة حضورها، وعلاوة على مشاركتها المتميزة في أولى محطات الانفراج الديمقراطي العام 1956/1957، وكان لها بصمتها السياسية القوية في انتخابات مجلس النواب الحادي عشر (1989-1993)، بعدها، هيمنت جبهة العمل الإسلامي على المشهد الحزبي، وأصبح استهدافها يقيّد الموقف الحكومي إزاء متطلبات تنمية الحياة السياسية والنهوض بالعمل الحزبي. ولم تسفر هذه المرحلة الانتقالية عن ولادة نخب جديدة كما وقع في الديمقراطيات الانتقالية في أوروبا الشرقية. كما فشلت مؤسسات المجتمع المدني الأخرى في أن تُحدث فرقاً، إذ بقيت معزولة، ويتحكم بأجنداتها الوطنية من الزاوية العملية التمويل الخارجي في ظل ضعف الموارد المتاحة خارج نطاق الدولة. أستاذ العلوم السياسية في جامعة مؤتة محمد القطاطشة، ينتقد بقوة قانون الأحزاب السياسية لسنة 2007، من زاوية تقييده للنشاط السياسي والحزبي في الجامعات، على خلاف ما يجري في العالم، وهذا يفسر، بحسب رأيه، استمرار «سيادة الهاجس الأمني لدى غالبية الشباب»، بينما يجزم بأن سنوات الدراسة الجامعية هي المرحلة الأهم التي تتبلور فيها أفكار الشباب وتنضج. ويبدي القطاطشة استغرابه الشديد من المفارقة بين إغلاق الجامعات أمام النشاط السياسي والحزبي للشباب، وبين تركيز وزارة التنمية السياسية لبرنامجها حول الإصلاح السياسي بالتوجه للشباب في الجامعات. ويضيف: بما أن الإصلاح السياسي مطروح الآن على جدول أعمال البلاد، فينبغي أن تنهض به «الدولة وسلطاتها ونخبها». الأحزاب لم تنجح في التعامل مع الأوضاع الداخلية والاشتباك الإيجابي مع البرامج الحكومية. فبرغم دورها المهم في التنديد بالاحتلال الإسرائيلي وجرائمه ومقاومة التطبيع، لكنها غابت عن اشتقاق البرامج التي لها علاقة بالناس على مستوى الفعل اليومي، وعلى مستوى إطلاق الأفكار البرنامجية المبدعة ذات القدرة الاستقطابية. ضعف معرفة الناس بتوجهات الأحزاب وتمثيلها لتطلعاتهم، لا يخفى على أحد. هذا ما تؤكده استطلاعات رأي أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية في الأعوام 1995-2009، وأظهرت تدني نسبة المواطنين الذين يرون أن هناك أحزاباً «أقرب إلى تمثيل تطلعاتهم». ففي العام 1995، بلغت نسبة الذين أوردوا اسم حزب موجود يمثل تطلعاتهم 19.3 في المئة، وهي أعلى نسبة حتى الآن، مما يعني أنها هبطت في السنوات اللاحقة. وسجلت في السنوات الست الأخيرة منذ العام 2004، نسباً متدنية جداً، تراوحت بين 7.6 في المئة كحد أعلى، و4.3 في المئة كحد أدنى. وعند النظر لموضوع العضوية الحزبية، نجد أن الوضع مقلق. إذ حين صدر قانون الأحزاب العام 2007 واشترط لتصويب وضع الأحزاب، رفع عدد المؤسسين فيها إلى 500 عضو خلال عام، اختفى من الخارطة الحزبية 23 حزباً من بين 35 حزباً قائماً، ووجدت معظم الأحزاب الباقية التي صوبت أوضاعها صعوبة في تجميع العدد اللازم. وقد يكون هذا الضعف مسؤولاً عن الانتقاد الذي يوجه دائماً للأحزاب ما عدا «العمل الإسلامي»، لغياب التداول لمنصب الأمين العام في معظم الأحزاب. هذه النتيجة تعكس أن الأحزاب مسؤولة، أيضاً، عن حالة التهميش التي تعيشها، وتشير إلى صعوبة البيئة التي يتم فيها التأطير بسبب سيادة المناخ العشائري الذي عززه قانون الصوت الواحد العام 1993. الدولة التي يتفوق خطابها اللفظي على استعدادها العملي للارتقاء بالحياة الحزبية، لم تتوان عن إدخال تعديلات متكررة على التشريعات الناظمة للحياة السياسية طالت قوانين الانتخاب والأحزاب والاجتماعات العامة والجمعيات والمطبوعات، والنتيجة هي تضييق «الفضاء العام». وليس أدل على ذلك من أن قانون الأحزاب الساري المفعول لسنة 2007، يعطي الحق للحزب «في استخدام وسائل الإعلام الرسمية لبيان وجهة نظره وشرح مبادئه وبرامجه»، لكن على الصعيد العملي لا يوجد أي ترجمة لهذا التوجه. حازم قشّوع أمين عام حزب الرسالة، يؤكد أنه لم يُدع أبداً إلى التلفزيون الأردني، كما أنه لم ير أو يسمع أن حزباً آخر دعي إلى التلفزيون. وبرغم أنه بادر إلى مخاطبة مدير عام الإذاعة والتلفزيون بالوكالة صالح القلاب بعد تعيينه لدعوته إلى عمل برنامج خاص بالأحزاب، إلا أنه لم يتلق جواباً. كذلك كفل قانون الأحزاب الجديد تمويل الأحزاب السياسية، ونص القانون على «تخصيص بند في الموازنة العامة للدولة للمساهمة في تمويل الأحزاب من أموال الخزينة»، لكن الترجمات العملية لهذا التوجه جاءت هزيله، وتجاهلت أن الجوهري في موضوع التمويل هو مساعدة الأحزاب على خوض الانتخابات النيابية والبلدية، وهو ما تأخذ به الدول الديمقراطية ودول عربية مثل المملكة المغربية. خلال نصف القرن الأخير منذ حل الأحزاب السياسية العام 1957، لم تتوافر سوى فرصة واحدة لتحقيق نقلة نوعية في مسيرة العمل الحزبي، في أعقاب إقرار «الميثاق الوطني» العام 1991، بما مثّله من عقد اجتماعي جديد بين الحكم ومختلف أطياف المعارضة. لقد تعاملت دوائر الحكم، والأوساط الحزبية، بدرجة مقبولة من الجدية، تجاه مرحلة التحول الديمقراطي التي دشنتها الانتخابات النيابية العامة للمرة الأولى منذ ربيع العام 1967؛ فإلى جانب استعادة أحزاب المعارضة شرعية العمل «فوق الأرض» بموجب قانون أحزاب جديد صدر أواخر العام 1992، انخرطت فئة واسعة من النخب السياسية الخارجة من رحم جهاز الدولة من وزراء سابقين ومتقاعدين من كبار موظفي الدولة والرتب العسكرية في تأسيس أحزاب سياسية جديدة وصفت بـ «الوسطية». وتكمن أهمية مغزى تأسيس الأحزاب السياسية «الوسطية» في أن النخب الموالية، والتي كانت جزءاً من دوائر الحكم، باتت على قناعة، في أعقاب إقرار الميثاق الوطني بأن الحزب السياسي هو فرصتها وطريقها للمشاركة في الحياة العامة. أدى ذلك إلى أن ثقل الأحزاب السياسية في بداية التسعينيات كان أكبر منه على مدى الفترات اللاحقة. وهذا ما تشير إليه استطلاعات الرأي التي أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية خلال السنوات من 1995 إلى 2009. فقد بلغت أعلى نسبة انتساب للأحزاب، وهي 2.4 في المئة، العام 1995، أما ثاني أعلى نسبة بلغتها نسبة المنتسبين للأحزاب فكانت 1.4 في المئة، وظهرت في أربع استطلاعات، آخرها العام 2003. بينما تراوحت نسبة الانتساب على امتداد السنوات الأخيرة منذ العام 2004، بين 1.0 كحد أعلى، و0.4 كحد أدنى. مناخ الإقبال على الأحزاب لم يستمر طويلاً؛ ففي العام 1993 فُرض قانون الصوت الواحد الذي أعاد الأحزاب إلى حضن العشائر تستجدي نفوذاً، وفرض، باستثناءات محدودة وفي وسط الإسلاميين بشكل خاص، على قادة وكوادر الأحزاب الترشح للانتخابات باسم عشائرهم وليس أحزابهم، وأصبح الحزبيون يبحثون عن إجماع عشائرهم على ترشيحهم كضمانة أولى للفوز، بمعزل عن برامج أحزابهم. ثم وجدت تسعة من أهم الأحزاب الوسطية نفسها تندمج في حزب واحد «الوطني الدستوري» على أبواب انتخابات مجلس النواب الثالث عشر 1997، لكن مقاطعة الإخوان المسلمين وذراعهم السياسي، جبهة العمل الإسلامي، لتلك لانتخابات، أدت إلى تشظي هذا الحزب الوليد، بانسحاب معظم قادته، واعتزالهم العمل الحزبي، مكتفين بطريقهم السالك نحو النيابة. بعد هذه المحطة، تكرس أكثر فأكثر تهميش الأحزاب السياسية. وعلاوة على أن الأحزاب نفسها لم تنجح في إعادة الاعتبار للعمل الحزبي على المستوى الشعبي، واصلت السلطات لعبة تهميش العمل الحزبي، باستخدام خطاب، وأحياناً ممارسات، ظاهرها إيجابي لكنها خالية من المضمون. يعزو القطاطشة الموقف الرسمي السلبي من الأحزاب إلى طي صفحة الإصلاح السياسي منذ العام 1997، عام مقاطعة الإسلاميين للانتخابات النيابية، على يد «التيار التقليدي في الدولة، الذي يمثل تحالف عائلات، ويحرص على التمسك بمصالحه، والسعي لتعزيز نفوذه وحماية مكتسباته بالائتلاف مع رأس المال» على حد وصفه. لهذا يستخلص أن الحكومات لم تعد صاحبة ولاية عامة فقط، وفق الدور المرسوم لها في الدستور، بل تصبح «صاحبة وصاية عامة»، وأن عدم إقرار المحكمة الدستورية التي نص عليها الميثاق الوطني، يسمح لها بالتصرف في التشريعات على هواها. تحاور وزارة التنمية السياسية ممثلي الأحزاب السياسية في التشريعات ذات الصلة بعملهم مثل قانون الأحزاب وقانون الانتخاب وقانون الجمعيات، غير أن أمين عام حزب الرسالة قشوع، يصف هذا النمط من اللقاءات بأنه مجرد «عمل دعائي». ويصفه القطاطشه بأنه «استعراضي» يتم فقط عندما تريد الحكومة تمرير قانون ما. الأحزاب قلما يستشيرها أحد حتى من باب رفع العتب، وإن استشيرت، فإنه لا يؤخذ برأيها. بهذا الصدد، يستذكر قشوع بمرارة تجربة لجنة تطوير الحياة الحزبية المشتركة مع وزارة التنمية السياسية في عهد حكومة معروف البخيت. فيقول إنه بعد 32 يوماً من العمل الدؤوب، والتوصل إلى صيغة مشتركة لمشروع قانون للأحزاب، تم التراجع عن بعض أهم ما توصلنا إليه. مثال ذلك أن اللجنة الحزبية الحكومية المشتركة، توافقت على أن يكون عدد المؤسسين مئة. لكن الحكومة رفعت العدد إلى 250 في المشروع المقدم لمجلس الأمة، ثم أقدم مجلس النواب على رفع المؤسسين إلى 500. الأحزاب الأردنية التي تعمل في بيئة «غير صديقة»، محكوم عليها أن تبقى على هامش الحياة السياسية حتى إشعار آخر. وخلافاً لمكانة الأحزاب السياسية في البلدان الديمقراطية بصفتها العمود الفقري لحياة المجتمع السياسية، والأساس في تشكيل السلطة السياسية وتداولها، فإن الأردن الرسمي لا يرى في الحزب سوى مجرد «تنظيم يشارك في الحياة العامة» مثل أي منظمة من منظمات المجتمع المدني «لتحقيق أهداف تتعلق بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية» بحسب تعريف قانون الأحزاب السياسية لسنة 2007، والقانون الذي سبقه العام 1992. الاستخفاف بالأحزاب يبلغ ذروته حينما يتوجه رأس الدولة أو كبار المسؤولين إلى زيارة المحافظات، فتوجه الدعوة إضافة إلى الأعيان والنواب وإدارات الدولة إلى ممثلي العشائر والمخاتير، ولا توجه لممثلي الأحزاب. |
|
|||||||||||||