العدد 10 - الملف
 

تغالب إيناس خليل دمعتها وهي تروي قصة تحولها لدراسة الهندسة الميكانيكية بدل طموحها الطفولي بدراسة الصيدلة، بعد أن أقفلت الإجراءات الرسمية الطريق إلى طموحها؛ فوزارة الصحة كما تقول «إيناس» لا تمنح شهادة مزاولة المهنة للغزيين.

المفارقة أن الوزارة عادت في بداية العام الحالي عن قرارها وسمحت للغزيين بمزاولة المهن الطبية، لكن إيناس لا تستطيع شطب ثلاث سنوات من العمر في مجتمع يقيس عمر «الصبايا» بمقياس العنوسة والرغبة الذكورية.

«غزة» التي أُسقطت سهواً أو عمداً من حوار الضفتين بحكم إلحاقها إداريا بالشقيقة الكبرى «مصر»، تجلس على تلة شمال المملكة، وحصرياً على يمين الطريق المؤدي إلى غابة «دبين»؛ فهذا المخيم الذي يعاني الاكتظاظ وانعدام الخدمات يختصر حكاية الغزيين في الأردن تحت اسم «مخيم غزة»، فهم على حواف الطرق السياسية بين السلطة الوطنية الفلسطينية ومصر والأردن.

حتى في تصنيفات البطاقات ولعبتها بمصائر الناس، فقد كان للغزيين لونهم الخاص في البطاقات؛ اللون الزهري، وتوزع نظراؤهم في الضفة الغربية على اللون الأخضر والأصفر. وكعادة أهل الحافة، فهم مغموز من قناتهم دائماً ومستهدفون أبداً رغم تصريحات مدير عام دائرة الشؤون الفلسطينية وجيه العزايزة الذي يختصر توصيف الأوضاع المعيشية لأهالي قطاع غزة لـے بجملة «هم أقل من المواطنين وأعلى من الرعايا العرب».

يكشف العزايزة، وهو من أبناء المخيمات الشمالية في الأردن، أن أحوال الغزيين شهدت تطوراً في السنة الأخيرة، تمثلت في السماح لهم بتسجيل منازل سكنية لمرة واحدة فقط، إضافة إلى السماح لهم بامتلاك سيارات خاصة باشتراطات مسبقة، وكذلك رخص قيادة السيارات الخاصة وليس العمومية.

وجرى إدراج أبناء قطاع غزة في الاستفادة من المكرمة الملكية لأبناء المخيمات بواقع 15 مقعداً من أصل 350 مقعداً. وتقوم الدائرة بزيادة هذه المقاعد لتصل إلى 42 مقعداً وفق ترتيبات داخلية تعتمدها دائرة الشؤون الفلسطينية وليس ضمن سياق ثابت أو آلية واضحة.

العزايزة يؤكد أنه جرى معاملة أبناء قطاع غزة في المدارس الحكومية معاملة الأردنيين، أما في قطاع الصحة، فما زال الإعفاء لهم محصوراً في أمراض ثلاثة: القلب، الكلى، والسرطان، مع إعفاء شامل لمن بلغ الستين، والأطفال دون السادسة.

الإجراءات الأخيرة يصفها راكان محمود أحد نشطاء المخيمات بأنها تطور إيجابي لتحسين ظروف الغزيين المعيشية، لكن الكهربائي رائد عبد الباسط ما زال يشكو من إجراءات تسجيل وترخيص أي استثمار صغير للغزي.

محمود لا يتحدث عن استثمارات ضخمة بل عن محلات لغسيل السيارات والميكانيك والكهرباء، لافتاً إلى أن الأمر يتطلب موافقات أمنية ورسمية طويلة ومعقدة. في حين يتحدث علي محمود عن رفض الأجهزة المعنية منحه رخصة سوق عمومية أو السماح له بشراء سيارة تاكسي للعمل عليها بعد عودته من الخليج العربي. ويقول «لا أملك مهنة ولا أعرف إلا السواقة، فلماذا يمنعونني رغم أنني مقيم في الأردن منذ العام 1967».

يبلغ عدد الغزيين المقيمين في الأردن حسب العزايزة، 155 ألف نسمة، يحمل معظمهم جوازات سفر مؤقتة لمدة سنتين، وما زالت قلة منهم يحملون وثائق سفر مصرية تمنح للاجئين الفلسطينيين الغزيين، ونسبة أقل تحمل جوازات سفر فلسطينية دون رقم وطني فلسطيني.

يقول الحاج كامل البابا المقيم في مخيم غزة منذ 43 عاماً، إن الغزيين يشعرون بأنهم خارج حسابات الجميع داخلياً وفلسطينياً، وأن لا أحد يهتم بهم مؤخراً سوى دائرة الشؤون الفلسطينية التي تعطي الفقراء منهم من المعونة الملكية أسوة بنظرائهم الأردنيين. لكنه يؤكد ببساطته، أنهم خارج الحسابات، عاداً أن أكثر من 95 في المئة من «الغزيين» في الأردن، وهو لفظ «جزافي» كما يقول الرجل الطاعن في السن، هم من قضاء الرملة أو يافا أي «لاجئين»، وهؤلاء «لا يتحدث عنهم أحد، فهم أُلصقوا بقطاع غزة وضاعوا بين الأرجل»، على حد وصفه.

إشكالية الغزيين في الأردن، إشكالية معقدة، وفق ما يراه الناشط راكان محمود؛ فهم لاجئون ونازحون في آن واحد، حيث لجأ بعض سكان قضائي يافا وحيفا بعد النكبة إلى داخل فلسطين، وعاشوا تحت علم الوحدة الأردنية الفلسطينية، وحصلوا على امتيازات وحقوق الأردنيين.

آخرون قادهم القرب الجغرافي من غزة إلى اللجوء في القطاع، وباتوا من حملة الوثائق وتحت الرعاية المصرية حتى بعد نزوحهم إلى الأردن في العام 1967. وحسب مؤتمر القمة العربية في الرباط العام 1974، فهم ممنوعون من الحصول على جنسية البلدان التي يقيمون فيها. وهذا ما أكده مؤخراً وزير الداخلية الأسبق سمير الحباشنة، خلال ندوة طالب فيها مؤتمر القمة القادم في ليبيا بالتخفيف عن أبناء قطاع غزة الذين شملهم قرار قمة الرباط.

قمة الرباط، رغم غلاف قرارها الجميل بالمحافظة على الهوية الفلسطينية، إلا أنه أغفل الجانب الإنساني والمعاشي لأبناء القطاع الذين يعاملون «كمهربي المخدرات» في المطارات والحدود العربية، على حد وصف الكاتب طاهر العدوان.

وهم لا يبحثون عن حقوق سياسية في الأردن، كما أظهرت نتائج دراسة مسحية أجريت مؤخراً؛ فطموحهم لا يصل إلى ذلك رغم سعيهم إليه، لكنهم يتطلعون إلى معاملة إنسانية وحقوق مساوية في العمل أسوة بنظرائهم الأردنيين، حسبما أظهرت الدراسة المسحية التي لم تنشرها دائرة الشؤون الفلسطينية؛ وهم أيضاً متمسكون بالعودة والوطن، ولكنهم ممسكون على الحياة الكريمة التي تكفلها لهم كل الشرائع والقوانين.

المجتمع المدني ونشطاؤه أسهموا بدورهم في عملية التهميش للغزيين، حتى النقابات المهنية التي «تفطر على المقاومة»، ما زالت إحداها مثل نقابة المحامين تحظر على الغزيين الانتساب إليها، ولو لغايات المهنة، أسوة بنقابتي المهندسين والأطباء، محبطة آمال شباب كثيرين يحلمون بدراسة القانون مثل سعيد غنيم، أو الدخول في سلك الوظيفة الحكومية، ناهيك عن حرمانهم من كل الحقوق السياسية في البلدان التي يقطنون فيها.

أبناء غزة الذين يسمون بهذا الاسم جزافاً، كما قال الحاج البابا، ما زالوا حائرين بين ظروف معيشية صعبة وانسداد أفق سياسي، حتى بعد حملهم جواز السفر الفلسطيني وبسط السلطة الفلسطينية سيادتها على الضفة أو أجزاء منها وقطاع غزة، وما زالت الحكومة الأردنية تمايز بينهم وبين نظرائهم ممن يحملون الجنسية الفلسطينية في الضفة.

فالمواطن الفلسطيني القادم من الضفة إلى الأردن، لا يحتاج إلى موافقة مسبقة من السلطات الأردنية. وقبل إلغاء شرط الموافقة، كان الحصول عليها يستغرق ساعة واحدة من دائرة المتابعة والتفتيش، على عكس الفلسطيني الغزّي الذي عليه انتظار موافقة أمنية يتعين عليه أن يراجع بشأنها دائرة الشؤون الفلسطينية وتستغرق أسبوعين بحد أدنى. ولاحقاً تم وقف الموافقات كلياً حسب مصدر في الدائرة.

عتب الغزيين على الأنظمة العربية والسلطة الوطنية الفلسطينية، يوازي أو يزيد على عتبهم على نخبهم وتحديداً في الأردن، الذين سرعان ما ينسون أبناء جلدتهم بعد حصولهم على الجنسية والموقع، بل إن الجمعية التي كانت تحتل مبنى على نهاية شارع وادي صقرة وعلى حواف الدوار الثالث، قد انتقلت إلى منطقة طارق وتغير اسمها من رابطة غزة هاشم إلى جمعية هاشم الخيرية، كما يقول شهبندر التجار الأردني السابق ورئيس الرابطة والجمعية حيدر مراد، والذي أكد لـے عدم خوض الجمعية في الشأن السياسي بل يقتصر عملها على الجانب الخيري، كما يقول مراد الذي يهاتف ويتصل برؤساء الحكومات دوماً من أجل الغزيين. والمفارقة أن أبناء غزة من غير حاملي الجنسية الأردنية لا يحق لهم الانتساب للجمعية التي تتجاوز عن أزمات 150 ألف غزّي يرزحون تحت ظروف معيشية صعبة وإهمال سياسي أكثر صعوبة..

دائرة التحريم تزداد وما زال المزاج العام لا يحمل وداً لأبناء القطاع، بدليل أن رسوم جواز السفر المؤقت خمسون ديناراً لمدة عامين، وكان قبلها مائة دينار وتدفع عشرة دنانير على إضافة كل ابن، وكانت قبلها عشرين ديناراً. وتستغرق أي معاملة لأحدهم شهراً على أقل تقدير، إذا لم يتم تعديل وتغيير الأنظمة كل عامين على أبعد تقدير مثل أنظمة التملك، ما جعل خيار كثيرين منهم إما الزواج من أردنيات أو اللجوء إلى الرهونات من أجل تملك مسكن يقيهم غيلة الدهر.

أزمة الغزيين مستمرة، كما يقول نقابي عامل، مبرراً معاملة الغزيين بهذه الطريقة بأنه للحفاظ على الهوية الفلسطينية، ويؤكد أن حل الأزمة لا يمكن أن يتم دون حل الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا ما أكده ضمناً المستشار السياسي لرئيس الوزراء سميح المعايطة في ندوة عقدت مؤخراً في المركز الثقافي الملكي، وإلى ذاك الحين، فإن على الغزيين البقاء دون سبل حياة معيشية لائقة، لأن غزة كما يقول أبناؤها لا بواكي لها.

التمييز طالهم رسمياً حتى في لون بطاقة الجسور والجهة المعنية بشؤونهم
 
01-Apr-2010
 
العدد 10