العدد 9 - اجتماعي | ||||||||||||||
«متى ينتهي هذا الأمر.. عن جَد تعبنا»، هذا ما ردده الخمسيني أبو إبراهيم، متحدثاً إلى شخص يجاوره في طابور طويل لتقبل التعازي بوفاة أحد الأقارب. كان ذلك في اليوم الثاني للعزاء الذي استمر ثلاثة أيام في قاعة «فخمة» استُؤجرت لهذه الغاية. لم يكن الرجل الخمسيني يقصد ما أصابه من إنهاك وإرهاق جسدي فحسب، بل التكلفة المالية الباهظة التي تكبدها مع أقاربه، لفتح بيت عزاء «مفتخَر» يليق بالمرحوم، وبالذين يتوافدون لـ«المواساة» من معارفه في أرجاء البلاد. وأضاف أبو إبراهيم هازّاً رأسه بضيق: «ويا ريت بنعرف كل اللي أجونا، ويا ريت إنهم شاعرين بالحزن عن صح وصحيح، كله نفاق في نفاق، وما فيه مشاعر حقيقية». إقامة بيوت عزاء فخمة، والإعداد لمراسيم تتسم بـ«الأبّهة» لتقبُّل العزاء، ظاهرة أصبحت تتكرر في كل منطقة أردنية، يزيد من مشقتها أن كثيراً ممن يعملون ويقيمون في المدن، عمّان تحديداً، يقرّرون دفن موتاهم وإقامة بيوت العزاء في مسقط الرأس، وغالباً ما يكون قرية؛ ما يعني، من جهة أخرى، عبئاً إضافياً على أولئك «المضطرّين» إلى التعزية، لقرابةٍ أو نسبٍ أو زمالة أو علاقة مصلحيّة مع المتوفى. في بيت عزاء بشقيق مسؤول سابق، في منطقة أم العمد، انتظم أبناء العشيرة في صف طويل لاستقبال المعزين الذين توافدوا من مناطق مختلفة، لكنهم لم يُخفوا ما أصابهم من عناء جرّاء الوقوف لساعات دون أن يتمكنوا من الحصول على قسط من الراحة. فـ«سيل» المعزين واصل تدفقه بلا انقطاع من الصبح إلى المساء على مدار الأيام الثلاثة، وكان لا بد من الاستعداد له بـ«ما يليق». وفي قصة مشابهة، وتتكرر على الدوام، لم يمنع طولُ المسافة «بعضَهم» من التردد غير مرة على بيت عزاء والد وزير المالية السابق، حمد الكساسبة، الذي أقيم في بلدة مؤتة التي تبعد عن العاصمة 135 كم جنوباً. تغيرات كثيرة أصابت أنماط المواساة في البلاد. فإلى وقت قريب، وربما حتى منتصف التسعينيات، كان العزاء يقام في بيت المتوفى أو والده، ويتوافد الناس إلى بيت العزاء بعد الصلاة والدفن حاملين معهم الأرز أو القهوة أو السكّر، أو بعضاً مما تنتجه أرضهم، للإسهام في تخفيف الأعباء على أهل المتوفى، وهذا ما ظل عليه الوضع سائراً في المجتمعات الفلاحية المستقرة تاريخياً، إذ يتكاتف الناس في السراء والضراء. أما أقارب الفقيد ومعارفه الذين يقطنون بعيداً، في عمّان أو القدس مثلاً، فيكتفون بإرسال البرقيات. وفي حالات القربى الشديدة أو الصداقة المتينة، أو إذا كان الميت وجيهاً وشخصية معروفة، فإن مثل هؤلاء يتحملون مشقة قطع المسافة للقيام بواجب العزاء حسب الأصول. هذا النمط المبنيّ على التعاضد والتكاتف أو تحركه دوافع الصداقة الوثيقة، يبدو معرّضاً للزوال بالتدريج، مع شيوع أنماط الاستهلاك في المجتمع، مثلما حدث مع مناسبات اجتماعية أخرى كالأعراس. أحمد الزعبي، المختار في قرية نحلة في محافظة جرش، يرى أن الحزن في الماضي، كان يبدو على ملامح المعزين الذين يقصدون بيت العزاء الذي يتسم بالبساطة، قبل أن تتبدل الحال. ويذهب الزعبي إلى وصف كثير من بيوت العزاء التي تقام حالياً بـ«الأعراس»، نظراً لاهتمام ذويها بالجانب الجمالي للمكان، ونصب أفخم أنواع خيم العزاء، عدا المبالغة الملحوظة في الضيافة. لقد بات مألوفاً أن يشاهد المرء في أحياء المدينة، صيوانات مفروشة بالسجاد المخملي ومؤثثة بالمقاعد الوثيرة. والمفارقة أن هذه «الفخفخة»، لا تعكس بالضرورة الوضع المادي للمتوفى وأسرته، بل إنها في كثير من الأحيان تعبير عن إنفاق استهلاكي وبهرجة زائفة، أو لإظهار صورة المتوفى وأهله على غير ما هي عليه. لكن هناك من يرى أن ذلك يدخل في باب «الضرورة الاجتماعية». عمر القيسي، شاب فقدَ عمّته مؤخراً، يقول إن إظهار «الأبّهة» من خلال صواوين العزاء، أمرٌ لم يعد بالإمكان تجنبه، بخاصة إذا كانت عائلة المتوفى ذات مكانة في المجتمع، فـ«النخب» تحرص على زيارة بيوت العزاء من هذا النوع. شاب فضّل عدم نشر اسمه، يرى أن بيوت العزاء أصبحت تثقل كاهل ذوي المتوفى، لكثرة متطلباتها، مبيناً أنه تكبد مع أشقائه ما يزيد على 20 ألف دينار خلال العزاء في أيامه الثلاثة، إضافة إلى دعوة المعزين إلى وليمة غداء عقب انتهاء أيام العزاء؛ مشيراً إلى اضطرارهم الاستعانة بشركة خدمات طعام وشراب لتولّي مهمة ضيافة المعزين وإعداد الطعام لهم. وهو ما يؤكده محمود البرماوي، الذي وجد نفسه وهو واقف على المقبرة يراقب التراب ينهال على جسد شقيقه الذي توفي قبل ساعات، يفكّر بترتيبات الغداء الذي سيقدَّم إلى المعزين الذين توافدوا من مناطق بعيدة، وكيف أن الأمور يجب أن تسير كما يجب للخروج بـ«بياض الوجه». ويتساءل الحاج سالم الخلايلة: لماذا لا تتغيّر العادة ليصبح من المقبول مثلاً التعزية ببرقية أو مكالمة هاتفية مثلاً، وأن يقتصر الحضور شخصياً على حالات القربى الشديدة، أو الصداقة المتينة؟ لأن هؤلاء في رأيه هم الذين يقدّمون الدعم الحقيقي الذي يحتاجه ذوو المتوفى، ولا يشكل حضورهم عبئاً عليهم، لافتاً إلى أن نمط العزاء في الماضي كان يشكّل مساندة حقيقية لعائلة الفقيد. المعاناة العاطفية الأشد هي عندما يجد أهل المتوفى أن بيت عزاء فقيدهم الغالي قد تحوّل إلى «ساحة علاقات عامة»، يعمد فيها بعضهم إلى تسويق أنفسهم. يحدث هذا بالتحديد في بيوت عزاء الشخصيات التي تتمتع أو يتمتع قريب لها بثقل اجتماعي أو رسمي، كما هي الحال مثلاً في بيت العزاء بجدّة الكاتبين عبد الله ومحمد أبو رمان، الذي أقيم في السلط، إذ توافد عليه أيضاً كثيرون وجدوا فيه فرصة للتقرّب من مسؤولين ورجال دولة، وتسويق أنفسهم أمامهم. الأمر نفسه حدث في عزاء الفريق المتقاعد محمد ماجد العيطان الذي توفي في 24 أيار/مايو 2009، إذ تحول العزاء إلى «صالون سياسي» لأشخاص قصدوه لتقديم واجب العزاء؛ والالتقاء بشخصيات تحظى بمكانة سياسية واجتماعية. وتكرر الأمر في العزاء بوالد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، الذي توفي في 28 آب/أغسطس 2009. فنظراً للمكانة السياسية التي يتمتع بها مشعل، كان من المتوقَّع توافد كثيرٍ من المعزّين من أطياف اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة، انتظروا في صفوف طويلة للسلام على مشعل. لكن هذا العزاء هو الآخر لم ينجُ مما يحدث في عزاءات مشابهة، فقسطٌ من الذين جاءوا للمواساة وعجّت بهم القاعة، لا يعرفون المتوفى، ولا يرتبطون بابنه بعلاقات شخصية، ورغم ذلك لم يتردّدوا في المشاركة، لما تتيحه لهم الأجواء في بيت العزاء من فرص للتعارف مع آخرين، وإظهار الذات، وربما التقاط الصور التذكارية عبر هواتفهم النقالة مع مشعل. يجيء هذا في وقتٍ أحجم فيه عددٌ من الراغبين بالتعزية عن القدوم إلى بيت العزاء، خشية لحاق ضرر أمني بهم. وفي أواخر العام 2008، وفي بيت العزاء بوالدة رئيس الديوان الملكي السابق باسم عوض الله، تساءل أحد المعزّين عن سرّ العلاقة بين شخص من الحضور وعوض الله، بعد أن دار بينهما حديثٌ أظهرَ للمحيطين أن عوض الله يعرف الآخر حق المعرفة، والحقيقة أن عوض الله لا يعرفه، ولم يسبق أن التقاه، لكن هذا الشخص واصل إثارة النقاش، والمداخلة بين حين وحين، بما يُعتقَد معه أن علاقة طيبة تربطه بعوض الله. وفي بيت عزاء أقيم في محافظة الزرقاء في تشرين الأول/أكتوبر 2009 لوالدة شخصية متنفذة، حرص عدد من المعزّين على التواجد في بيت العزاء خلال الأيام الثلاثة، واختيار مواقع لجلوسهم على مقربة من معزّين من صناع القرار الحاليين والسابقين، وغيرهم من شخصيات نخبوية، وحاول بعضهم التقرّب من هذه الشخصيات، دونما مراعاة لطبيعة المناسبة، بل إن أصوات ضحكهم لم تنقطع، وهم يتحاورون ويتداولون في قضايا يبدو بيت العزاء مكاناً غير ملائم للخوض فيها. ذوو شخصية عامة توفيت مؤخراً، أبدوا أسفهم جرّاء هذه السلوكيات التي يقترفها نفرٌ من «الوصوليين»، مشيرين إلى أن عدداً من الذين قصدوا بيت العزاء داوموا على الحضور طيلة الأيام الثلاثة، وكانوا يتعمّدون اختيار مواقع جلوسهم قريباً من شخصيات متنفذة، وقالوا «إنهم أحرجوا شخصيات عامة من المعزين؛ إذ كانوا يتنقلون بينهم بـ«ثقالة ظل»، في محاولة للتقرب منهم، وبعضهم كان يطلب أرقام الهواتف النقالة لهذه الشخصيات بإلحاح، ودون مبرر». يرى ابن شخصية عشائرية توفيت قبل نحو عام، أن العزاء واجبٌ اجتماعيٌ للتعبير عن مشاركة أهل المتوفى أحزانهم بفقيدهم، و«ليس فضاء مفتوحاً لنسج علاقات مصلحية أو التعبير عن الذات بطرق مشوهة، من بينها إجبار شخصيات سياسية واقتصادية على الانخراط في حوارات، بيت العزاء ليس مكاناً لها». من جانبه، يربط أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية موسى شتيوي، ما يدعوه «احتراف العزاء»، بـ«النفاق الاجتماعي»، في وقت أكد فيه أن مواساة الأصدقاء والأقارب بوفاة فقيد لهم واجب اجتماعي. وهو يعزو ذلك إلى «عدم وجود أطر سياسية وقنوات تواصل للطامحين في العمل العام، يدفعهم لاغتنام فرصة العزاء لتسويق أنفسهم أمام شخصيات عامة وصاحبة نفوذ؛ على أمل اختيارهم في مواقع عمل متقدمة». ويرى شتيوي أن الظاهرة «تحمل أبعاداً سياسية، وإن كانت نوعاً من النفاق، بخاصة مع عدم وجود صلة معرفة بين المعزّي وأهل المتوفى». ويلفت، في الإطار نفسه، إلى أنه كثيراً ما يصادف وجوهاً لأشخاص في بيوت عزاء لشخصيات عامة، دون أن يكون لهم أي حضور على الصعيدين السياسي أو الاقتصادي، ودونما رابط لهم بأهل المتوفى أو أقاربه. ويوافقه الرأيَ الطبيبُ النفسي كرابيد زكريان؛ مشخِّصاً الحالة بـ«مرض الهوس»، ومستهجناً هذه التصرفات التي «تنم عن حالة مرضية تستوجب علاجاً سريعاً»، بحسب تعبيره. توفر بيوت العزاء فرصةً للتعارف، والحوار في الشؤون العامة، وإبداء الآراء حول مسائل معيشية، مثلما تتسع لأحاديث الانتخابات، وفرص الفوز، وغير ذلك من موضوعات ذات صلة. فخلال آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 2009 مثلاً، «اقتنص» كثيرٌ من مرشحي غرف التجارة بيوت العزاء لتسويق أنفسهم أمام الناخبين. والأمر نفسه يتكرر في مواسم الانتخابات النيابية. جاسر هناندة، يقول إن بيت العزاء بوالدته الذي تزامن مع موسم الانتخابات النيابية 2007، تحول إلى ملتقى للمرشحين الذين واصل كلٌّ منهم التردد عليه طمعاً في أصوات المعزّين، دون أن يأخذ أحدهم في الحسبان طبيعة المناسبة. إذا كان هناك من «يحترف» العزاء طمعاً في منصب، فإن هناك من يحترفه طمعاً في «وجبة طعام»؛ فهناك، بحسب أهالي بعض المتوفين، صنف من المعزّين يؤمُّون بيت العزاء طيلة أيامه، ولكن في أوقات الغداء حصريّاً، ويغادرون بعده مباشرة. ومنهم من ينهمك في «تفحّص» اللحوم المستخدمة في إعداد المناسف، لمعرفة إن كانت بلدية أم مستوردة، وربما يبدي تعليقاً على مستوى جودة الطعام، رغم أنه غير مدعو أصلاً، ولا يرتبط بصلة مع المتوفى أو أقاربه. في هذا السياق، يقول محمد نعيم الرواشدة، من ذوي أحد المتوفين، إن بيت عزاء أحد أقربائه غدا مقصداً لسائقي سيارات عمومية، سرعان ما يركنون مركباتهم جانباً عند مشاهدتهم «المناسف»، ويغادرون على الفور بعد تناول الطعام، مشيراً إلى أن بعضهم لم يخجل من انتقاد اللحم لأنه «مستورد». بيوت العزاء في المجتمع الأردني تحولت من مناسبة للتعاطف والمواساة، إلى عبء اجتماعي، وتسرب إليها النفاق الاجتماعي، وانتقلت إلى خانة الاستعراض والبهرجة، فطالتها بذلك تحوّلات طالت العديد من مظاهر الحياة في المجتمع، ويبدو أن الطرفَين، أهل المتوفى والمعزّين به، مضطرَّان كلاهما إلى دفع ضريبتها، في وقت لم تعد تنفع فيه وثائق شعبية كثيرة وقَّع عليها أبناء مناطق مختلفة في البلاد، للتخفيف من الأعباء التي تثقل كاهل أهل المتوفى. |
|
|||||||||||||