العدد 9 - سينما وتلفزيون
 

Invictus، هو الفيلم الواحد والثلاثون من إخراج كلينت إيستوود منذ العام 1971، حين بدأ ممارسة الإخراج في ذروة نجوميته السينمائية.

يستند الفيلم إلى سيناريو للكاتب السينمائي أنثوني بيكهام، مبني على كتاب اللعب مع العدو: نيلسون مانديلا والمباراة التي غيّرت أمّة الذي صدر في العام 2008 للكاتب والإعلامي البريطاني جون كارلين. ويستمد الفيلم عنوانه من كلمة: Invictus، وهي كلمة لاتينية تعني «الذي لا يُقهر»، وهي مأخوذة من عنوان قصيدة مشهورة للشاعر البريطاني وليام إرنيست هينلي، وَضعها العام 1875 وهو على سرير المرض.

كان الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا، الشخصية الرئيسة في الفيلم، يعلّق نسخة من تلك القصيدة على جدار زنزانته في السجن الذي أمضى فيه 27 عاماً قبل أن يصبح رئيساً لجنوب إفريقيا العام 1994، بعد انتهاء نظام التمييز العنصري في تلك البلاد.

يستند الفيلم إلى أحداث وقعت العام 1995، بعد تولي مانديلا دفة الرئاسة، حين كان التوتر ما زال يسود العلاقات بين الأكثرية الإفريقية السوداء والأقلية الحاكمة السابقة البيضاء، وحين كانت الدولة منقسمة عرقياً واقتصادياً.

ويدور الفيلم حول الجهود التي بذلها مانديلا (أدى دوره الممثل مورجان فريمان) لرأب الصدع بين المواطنين السود والبيض في بلاده، بعد انقسام دام لعقود. وفي هذا السياق يقيم علاقة وثيقة مع كابتن الفريق القومي لرياضة الرجبي في البلاد فرانسوا بيينار (أدى الدور الممثل مات دامون) ويشجعه على قيادة الفريق في مباريات بطولة العالم للإسهام في توحيد الجانبين، إدراكاً منه لأهمية اللغة العالمية للرياضة. ويقنعه بأن حلم الفوز بكأس العالم ممكن التحقيق، ويردد له البيتين الأخيرين في قصيدة «الذي لا يُقهر»: «أنا صانع مصيري.. أنا ربّان روحي».

بدا الكابتن بيينار في موقف فريد، بوصفه رجلاً أبيض يمثل فريقاً رياضياً يتألف من لاعبين بيض، تحوّل إلى رمز للمواطنين البيض، وقوبل بكراهية المواطنين السود في جنوب إفريقيا، لأنه يمثل في نظرهم نظام التمييز العنصري. كان الفريق خسر معظم مبارياته حين تولى مانديلا رئاسة البلاد، لكن مانديلا شجع الكابتن على تحسين أداء فريقه، مؤكداً له ما يمكن أن يلعبه نيل كأس العالم من دورٍ في توحيد صفوف أنصار الفريق من البيض والسود على السواء، وما سيترتب على ذلك من أثر إيجابي طويل الأمد في توحيد البلاد. وقد تحقق أمل مانديلا بفوز الفريق في البطولة التي أقيمت في مدينة جوهانسبيرغ بجنوب إفريقيا، بعكس التوقعات.

ولتبيان الصعوبات التي واجهت عملية الدمج العنصري، وكشف مناخ عدم الثقة السائد بين السود والبيض بسبب سياسة التمييز العنصري، يُبرز فيلم «الذي لا يُقهر» المشاكل التي واجهت قوة الأمن المرافقة للرئيس مانديلا. فقد بدأ تشكيل تلك القوة من حراسه الشخصيين السود، ثم أضاف إليهم رجالاً بيضاً خدموا النظام العنصري السابق، ما أصاب حراسه الأصليين بالصدمة والذهول، لأن رئيسهم أجبرهم على العمل مع جلادي الأمس. وتعكس عملية البناء التدريجي للثقة بين الفريقين صورة مصغّرة للواقع المؤلم الذي كان يسري في البلاد بأسرها.

إلا أن الفيلم يركز أساساً على خصوصية العلاقة بين مانديلا وبيينار. ويحقق المخرج كلينت إيستوود ذلك ببراعة. فرغم أن لقاءاتهما وجهاً لوجه قليلة نسبياً، ولا تشتمل على أحاديث طويلة أو عميقة، إلا أنه يُبرز أهمية تلك العلاقة من خلال تفاعلهما وتأثير كل منهما في الآخر، ومدى تأثير قراراتهما وأعمالهما في جنوب إفريقيا ككل.

يُظهر الفيلم المقدرة التقليدية للمخرج إيستوود في تقديم عمل سينمائي يتميز بسلاسة أسلوب سرد القصة والانسياب الطبيعي لأحداثها. ويزخر كل مشهد من مشاهد الفيلم بتفاصيل غير متوقَّعة تقدِّم في محصلتها النهائية عرضاً غنياً بالانطباعات والانفعالات التاريخية والثقافية.

كما يتميز الفيلم بأداء بطليه الرئيسين مورجان فريمان ومات دامون اللذين جسّدا شخصيتَي نيلسون مانديلا وفرانسوا بيينار، على التوالي، بواقعية نادرة. يشار إلى أن فريمان الحائز على جائزة الأوسكار أبدى رغبته في تجسيد شخصية مانديلا منذ سنين، كما أنه كان الخيار الوحيد لنيلسون مانديلا نفسه لتجسيد شخصيته على الشاشة.

يعالج إيستوود في فيلمه موضوع التعصب العنصري بحساسية، وبأسلوبه المتوازن والعادل المعتاد. وقد سبق له أن عالج هذا الموضوع في أفلام أخرى مثل: «بيرد» (1988) الذي تناول فيه الحياة المأساوية القصيرة لموسيقار الجاز الأسود تشارلي «بيرد» باركر، و«جران تورينو» (2008) الذي عالج مشكلة التعصب ضد المهاجرين الآسيويين في الولايات المتحدة.

لقد تحوّل إيستوود إلى نموذج يُحتذى بين المخرجين السينمائيين في نظر أستوديوهات هوليوود. فقد قدّم سلسلة من الأفلام التي جمعت بين القيمة الفنية وقطفت عشرات الجوائز السينمائية، وبين النجاح الكبير على شباك التذاكر. ويتميز إيستوود بسمات إيجابية تعزز مكانته السينمائية. فهو من المخرجين القلائل الذي يكملون أفلامهم ضمن الميزانيات المرصودة والجدول الزمني المحدد، كما يمارس الاعتدال في قراراته الفنية.

مانديلا «الذي لا يُقهر»: فيلم عن المتسامح الشجاع
 
01-Mar-2010
 
العدد 9