العدد 9 - سينما وتلفزيون
 

«إني أحدثك لترى، فإن رأيتَ فلا حديث». هذا ما يقوله النفّري. فماذا لو كان المرء يحدّث من لا يريد سماعه، يدعوه أن يلتفت إليه وإلى وجوده، ذلك الذي لا يرى شيئاً سوى عالمه المغلق ومصالحه، يريد استباحة الأرض ومن ثم استباحة هوية الآخر بالمطلق.

بالتأكيد أن المرء في هذه الحالة سيقاوم حتى النهاية، لكن الخاسر الأكبر هو الرؤية، أو الرؤيا بالعين والقلب، بحسب ما تعارَفَ عليه العرب. إذ ها هنا تنتهي إنسانية الغاصب.

تلك هي بعض المشاعر التي يخرج بها المشاهد عند رؤية فيلم Avatar، من إخراج جيمس كاميرون الذي كتب النص أيضاً.

هذا الفيلم موجه في أساسه لجمهور أميركي أولاً، وغربي ثانياً، وعالمي ثالثاً. وقد كُتب له السيناريو العام 1995، أي قبل حقبة جورج دبليو بوش وصعود اليمين في الولايات المتحدة بفترة طويلة. وظل المخرج ينتظر التقنية المناسبة لإخراجه 15 عاماً حتى تسنى للجمهور مشاهدته.

ورغم أن الموضوع تناولته سابقاً أفلام مثل «الرقص مع الذئاب» و«الضاحية التاسعة»، إلا أن التقنية التي اختار المخرج تطويرها جاءت لتحقق الرسائل التي حاول السيناريو إيصالها إلى المتفرج. وهو ما تسبب بتكلفة ضخمة لهذا العمل بلغت نحو 310 مليون دولار، وهي الأعلى في تاريخ السينما الأميركية.

وربما كان الانتظار 15 عاماً بحثاً عن التقنيات التي تحقق رؤية المخرج، ناتجاً عن أن موضوع الفيلم هو الرؤية في مقابل فقدانها. إذ يسيطر جهل الإنسان الأبيض في قدرته على التعامل مع الواقع والشعوب، إلى درجة فشله في إدراك وجود عوالم متناغمة مكتفية بنفسها، يسودها تناغم وجمال وروحانية ووحدة وجود.

يرصد الفيلم عالمين متوازيين من الناحية البصرية ومحتوى السرد. حيث يعمل البشر بعد أن استنفدوا مواردهم كافة، على طرد السكان المحليين لمكان متخيَّل «باندورا»، طمعاً في جلب ثروات للأرض تقدَّر بالملايين لتعوض ما استنزفوه من مواردهم.

لذا يبدو البشر «أهل الجو» في عالم معزول من الزجاج والآلات، عالم محايد بصرياً إلى درجة البرودة، يخلو من أي جماليات، وتكاد شخصياته تكون مبرمجة، همُّها الوحيد اغتصاب ثروة المكان.

هذا العالم يتقاطع معه عالم بصري مبهر يجسد وحدة الكائنات والروح. وينظر أولئك البشر إلى ساكني هذا العالم نظرة «دونية»، فيصفونهم تهكماً بـ«القرود الزرقاء» وإذا ما ارتفع مستوى هذه النظرة فهم في نهاية الأمر مشروع اكتشاف علمي يُرضي نزعة الفضول والغرور لدى علمائهم.

العلاقة بين هذين العالمين تشوبها الانتهازية منذ البداية، الأمر الذي يعيه سكان «باندورا». فالبشر يريدون استباحة المكان دون ساكنيه، ويحاولون ذلك بالطرق «الدبلوماسية» للحفاظ على ظاهر من التحضر عن طريق إرسال فتات ما يقررون أنه احتياجات «المحليين». هؤلاء المحليون الذين يرونهم جيداً ولا يرون من سلوكياتهم إلا الجهالة والصلف وعدم الرغبة في الفهم. ويدرك سكان «باندورا» بوضوح أن هؤلاء البشر أصحاب قناعات جاهزة لا مجال لتغييرها، لذا لا فائدة حتى من التحاور معهم، أو كما جاء على لسان الزعيمة الروحية للقبيلة: «الكأس الممتلئة لا يمكن ملؤها»، إذا لا حيز فيها لشيء آخر.

تبدأ رحلة البشر داخل هذا العالم، بعد ابتكارٍ يؤهلهم للانتقال داخل أجساد سكان «باندورا» والذهاب إلى هناك. تتوالى الرحلات بهدف دراسة المنطقة وأهلها، علّهم يتقبلون الرحيل إلى مكان آخر دون معركة تسيء لصورة البشر.

تبدأ رحلة الاستكشاف (أو التجسس) عن طريق إرسال جندي مشلول يعتقد أن إبعاد شعب «باندورا» عن أرضهم جسدياً هو المشكلة، لكن رحلاته المتعددة التي تبدأ بحسّ استخباراتي، تتحول إلى تعلُّمٍ يفتح أمامه آفاق الأسئلة، ويبدأ البطل «جيك» علاقة حقيقية مع المكان وساكنيه ورموزه، إلى درجة التعلّق بابنة رئيس القبيلة «نيتري». وينقلب البطل متحولاً من «منفذ للأوامر» إلى شخص يريد الانتماء للعالم الذي جاء بهدف تدميره، لكن الثمن هو خيانة العالم الذي أتى منه. ليس هذا فقط، بل إنه يعلن الحرب على عالمه السابق وعلى قيمه، ويسوق شعبه كما العبيد خارج «باندورا».

ينتهي الفيلم بكادر مؤثر بعد فوز المحليين بقيادة «جيك»، الذي قرر قيادة شعب «باندورا» إلى النصر، إذ يختار أن يصبح «قرداً أزرق»، عبر طقس محلي. أما المشهد الأخير فلقطةٌ ثابتة لعينيه المفتوحتين على الاحتمالات كافة.

أثار الفيلم ردود أفعال متباينة عند عرضه في الولايات المتحدة، إذ رأى اليمين الأميركي أنه ينطوي على إدانة للقيم التي أسست الولايات المتحدة، بل دعوة إلى خيانتها. أما اليسار الليبرالي، فقد اتهم الفيلم بالترويج للإمبريالية اليسارية، حيث «لا ثورة بلا بطل خارجي أبيض (البطل المنتظَر)».

إنه عمل فني محمَّل برسائل تثير الأسئلة ولا تدّعي العثور على إجابات. هل هو اعتذار عن الحقبة الاستعمارية، ووضع الرجل الأبيض المستعمِر أمام خيار القطيعة مع الماضي والانضمام إلى الآخر؟ أم هو فانتازيا حول الفكر الاستعماري الذي يقرر ويفرض ويستبيح على المستوى السياسي بحجة المصالح الفضلى للآخرين، التي لا يفقهها، لكنه يصر عليها، مما يُنشئ حالة عداء شديدة نظراً لجهله وخيلائه؟

الفيلم يترك المتلقين أمام أسئلة برسم الإجابة، يجيب عنها كلّ منهم وفقاً لرؤيته وثقافته.

جدير بالذكر أن صانع هذا الفيلم هو نفسه مخرج فيلم «أكاذيب حقيقية» 1984، الذي منعت بعض الدول العربية عرضه، للصورة العنصرية والسلبية التي ينقلها عن العرب بوصفهم إرهابيين.

ربما كان كاميرون على حق. لعلّ حفنةً من الناس «ترى» في النهاية، ولكن هل تُغيّر جلدها؟

AVATAR : اعتذار مبطَّن أم إحساس قاتل بالذنب؟
 
01-Mar-2010
 
العدد 9