العدد 9 - ثقافي
 

عرض جمال الشاعر في هذا الكتاب تجربته السياسية الممتدة منذ الأربعينيات حتى أواخر الثمانينيات، ثم يكمل استعراض المرحلة التالية في كتابَيه «خمسون عاماً ونيّف» و«دفاتر العمر- أوراق من رحلة الحياة والسياسة».

يتميز المرحوم الشاعر في مذكراته بغزارة الملاحظات والمعلومات، والمعرفة بالأحداث والأشخاص والقيادات السياسية في المراحل المختلفة، لذلك فإن كتابه –يُضاف إليه كتاباه الآخران- مرجع ممتع ومفيد في معرفة التاريخ الحديث للأردن والدول المجاورة، والتعريف بقادة العمل السياسي والعام الذين عرفهم الشاعر. وهو يقدم -رغم قسوته أحياناً- إضاءات كثيرة ومهمة حول تاريخ حزب البعث العربي الذي حكم في سورية والعراق وأدى دوراً مهماً في الحياة السياسية في الأردن.

وُلد الشاعر في مدينة السلط العام 1928، وهو ينتمي إلى فرع من عائلة «المرجي» المستوطنة اليوم بشكل أساسي في بلدة الصريح، في محافظة إربد شمال البلاد، وكانت قد هاجرت قبل ذلك من بلدة سُوف، محافظة جرش. ويبدو أن «سوف» كانت محطة مهمة للعشائر في تحرّكها، وبخاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، عندما بدأت مرحلةُ الاستقرار وإعادة البناء التي مهدت لتشكيل الأردن المعاصر، وهي الفترة نفسها التي وفدَ فيها جدُّ الشاعر إلى السلط مع أفراد وعشائر كثيرة بدأت تعود إلى مواطنها الأصلية التي هُجرت منها بسب الغارات وعدم الاستقرار، أو تتحرك إلى مواطن ومراكز بدأت تنشأ بما يراعي متطلبات الزراعة والرعي والتجارة.

بعد تخرجه في الثانوية، انتقل الشاعر إلى بيروت لدراسة الطب في الجامعة الأميركية، وتخرج فيها العام 1951، ثم انتقل إلى إيرلندا لإكمال دراسته في تخصص الجراحة النسائية والتوليد، ليكون أول طبيب يمارس هذه المهنة في الضفة الشرقية العام 1960، وقد أمضى كما يروي، حياة مليئة بالمتع والمسرات من مغامرات نسائية وعاطفية، وسهرات حافلة يتخللها لعب الورق الذي أثقله بالديون التي لم يتخلص منها حتى العام 1991.

انخرط الشاعر في الحياة السياسية والحزبية التي كانت في عنفوانها، يقودها القوميون واليساريون، وبدأ رحلته مع الحزب القومي السوري، ثم انتقل إلى حزب البعث، ومن أساتذته ورفاقه أو شركائه في العمل السياسي في مواقع الزمالة والصداقة أو المسؤولية أو الذين عمل معهم مباشرة: جورج حبش، يعقوب زيادين، وصفي التل، خليل السالم، حمد الفرحان، أمين شقير، منيف الرزاز، ميشيل عفلق، سعدون حمادي، نايف حواتمة، سليمان النابلسي، عبد الحميد شرف، ليلى شرف، أكرم الحوراني، صلاح الدين البيطار، عبد الحميد السراج، علي أبو نوار، كمال ناصر وضافي الجمعاني.

اعتُقل الشاعر في أوائل الستينيات، وبعد الإفراج عنه لجأ إلى سورية وعمل فيها، ثم ما لبث أن عاد إلى عمان، وبقي قيادياً وناشطاً في حزب البعث حتى العام 1975، وظل عضواً في القيادة القطرية للحزب مع منيف الرزاز وأمين شقير، لكنّ خلافاً كبيراً دبّ بينه وبينهما جعله يستقيل من القيادة، ثم من الحزب، لينصرف إلى حياته المهنية والشخصية أو العمل العام بعيداً عن الحزب، بل إنه تحول إلى الوسط والليبرالية.

يلاحظ الشاعر أن السياسيين العرب بعامة، والبعثيين بخاصة، يفضّلون المكاسب والمواقع المريحة، وأن البعثيين الأردنيين يفضّلون أن يكونوا تابعين، وألاّ يبادروا أو يلعبوا دوراً مهماً في حياة حزب البعث القومية.

من القصص المحزنة التي يرويها، قصة محامٍ مستقل في إربد كان غنياً جداً، وقد دعمه شّبان البعث في المنطقة، وكان الشاعر يعمل طبيباً هناك، وقد أدت العلاقة الطيبة معه إلى انضمامه إلى حزب البعث، ثم لجأ إلى سورية العام 1957، لكنه عومل بازدراء هناك وتعرض للاستغلال، وتسببت علاقته بالحزب في ضياع ثروته الكبيرة، وانتهى به المطاف مريضاً بالسرطان في عمّان لا يقوى على تكاليف العلاج.

في العمل السياسي، بعد مرحلة اليسار، شارك الشاعر في تأسيس التجمع الديمقراطي الوحدوي، ثم اندمج التجمع مع حزب الوحدويين الديمقراطيين بقيادة أنيس المعشر، والحزب الديمقراطي الوحدوي بقيادة محمد العوران، وتشكّلَ من تلك الأحزاب: حزبُ وعد، الذي اندمج بدوره مع تسعة أحزاب أخرى في الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يرأسه عاكف الفايز، وأمينه العام عبد الهادي المجالي، لكن الشاعر والفايز استقالا في مرحلة مبكرة، تبعهما عبد الرؤوف الروابدة رئيس حزب اليقظة.

انخرط الشاعر أيضاً في محاولة تأسيس حزب سياسي أو تيار وطني عريض، بالمشاركة مع عبد الرزاق طبيشات وسمير الحباشنة وعوني فاخر ونائلة الرشدان وأنور الحديد، وجرت محاولة أخرى مع أحمد عبيدات وطاهر المصري، وثالثة مع طاهر المصري وأنور الحديد وعبد الرزاق طبيشات. وهو يلاحظ في كتابه أن طاهر المصري كان متردداً. وجرت محاولات عدة لجمع التيار الليبرالي ليكون حزباً قوياً ينافس الحركة الإسلامية، وفشلت جميع المحاولات، ثم تحولت الفكرة إلى صالون سياسي يُعقد في بيته بمشاركة نحو ثلاثين شخصاً.

يرد الشاعر أسباب الفشل إلى التعصب للرأي والفردية، والتبعية لجهات خارج الحدود، وإلى أن القوى الرئيسية الفاعلة في البلد غير متحمسة للمشروع، ويخلص إلى القول وهو «مرتاح الضمير»، إن حزب البعث العربي الاشتراكي بالتعاون مع جمال عبد الناصر وفئات أخرى، أسهموا في تدمير المنطقة العربية.

يرى الشاعر أن حزب البعث في الأردن لم يستوعب المعاني الكبيرة للثورة العربية الكبرى التي ينتمي إليها، وقد اندفع البعثيون بالاتجاه القومي متجاوزين الأسس الحضارية ودور الإسلام في بناء الوجود القومي نفسه، ومتجاوزين المشاعر الدينية نفسها، وفي المقابل فإن الإسلاميين في مرحلة صعودهم وقعوا في الخطأ نفسه عندما تنكّروا للمشاعر القومية الأصيلة لدى الشعب، وأغفلوا حق المواطن في التطلع إلى الفكر الإنساني المعاصر لتحقيق طموحاته في التقدم.

عندما عاد الشاعر إلى عمّان من بيروت بعد أن أنهى دراسته في الطب العام 1951، كانت الحياة السياسية في البلاد تشهد حيوية عظيمة: الأحزاب السياسية مثل الوطني الاشتراكي، الشيوعيين، البعثيين، القوميين العرب، القوميين السوريون، والنقابات المهنية الآخذة بالتشكل والصعود أيضاً. وكان عبد الله الريماوي وعبد الله نعواس قد شكلا حزباً سياسياً مستقلاً عن دمشق سُمّي «حزب البعث»، ونجح كلاهما في الانتخابات النيابية التي جرت العام 1951.

وبعد أحداث 1957، غادر الشاعر إلى سورية، لكنه اضطر للانتقال إلى بيروت العام 1960 بسبب ملاحقة الأجهزة الأمنية السورية له. وكانت حادثة اغتيال رئيس الوزراء الأردني هزاع المجالي صدمة كبيرة للسياسيين الأردنيين بأطيافهم المختلفة. وقد التقى الشاعر الملكَ حسين في ذلك الوقت، ونصحه منيف الرزاز قبل اللقاء أن يخبر الملك أنه لم يعد مهتماً سوى بعمله الطبي، ويبدو أن هذا الأمر ضايق الملك كما صرح للشاعر في ما بعد، فقد قابله الملك بصفته السياسية وليس الطبية، وأخيراً عاد الشاعر إلى عمّان بمساعٍ بذلها وصفي التل، لكنه سرعان ما اعتُقل بعد أيام قليلة من عودته.

كان حزب البعث شهد انشقاقاً كبيراً العام 1959 بين عبد الله الريماوي ومنيف الرزاز، وبمجيء وصفي التل إلى الحكم العام 1962، أتيحت فرصة واسعة للمشاركة السياسية في الأردن، وكان الملك حسين ووصفي التل متحمسَين لتعاون الشباب الوطني في بناء البلاد، وألا يظلوا في موضع الاتهام، لكن قيادة البعث أحجمت عن المشاركة استجابةً لمواقف سياسية خارجية، ولكن بعثيين شاركوا في الانتخابات مثل المحامي ياسر عمرو وأحمد خريس، اللذَين نجحا في الوصول إلى البرلمان، لكنهما فُصلا من الحزب.

وفي العام 1963 اعتُقل عدد من البعثيين، من بينهم الشاعر، الذي أمضى في سجن الجفر خمسة أشهر، ثم نُقل إلى عمّان لثلاثة أشهر. وكان من بين المعتقلين منيف الرزاز وأمين شقير، ويبدو أنه -وكما يحدث عادة- تشكلت لدى الشاعر في السجن أفكار جديدة عن ضرورة العمل العلني بدلاً من السري. ومن طرائف ما يلاحظ الشاعر، ذلك التناقض لدى كثير من الحزبيين، بين ما يقولونه وبين ما يؤمنون به. واكتشف الشاعر أنه لم يعد قادراً على الاقتناع الحقيقي بالأفكار والالتزام بالاجتهادات السائدة، فأرسل من السجن عن طريق سليم البخيت رسالةً إلى الملك، وأُطلق سراحه.

وكان مؤتمر القمة العام 1964 فرصة لعلاقات عربية جديدة، وقد حاول الشاعر بتفويض من الملك إجراء مصالحة مع سورية، والتقى بالفعل صديقه رئيس الوزراء السوري صلاح الدين البيطار، وسُمي سعد الأسطواني سفيراً لسورية في عمّان، وفي خطاب الاعتماد الذي ألقاه السفير، أشار إلى مرجعية الثورة العربية الكبرى لحزب البعث، فأُعجب الملك كثيراً بالخطاب، لدرجة أن الأسطواني اغرورقت عيناه بالدموع بفعل تأثره العميق باللقاء.

وبعد حرب 1967 نشط السياسيون في الأردن، وتحرك البعثيون أيضاً للتفتيش عن إمكانات العمل العام والمساهمة في إعادة بناء المعنويات. بعد ذلك ألقى العمل الفدائي بظلّه على البلاد، و»اختلط الحابل بالنابل» كما يقول الشاعر، وفي تلك الأجواء وما تبعها من تداعيات نشأ الاتحاد الوطني الأردني، وفي العام 1975 أعلن الشاعر عن قطع علاقته بحزب البعث، وعُين عضواً في المجلس الوطني الاستشاري العام 1978، وعمل أيضاً وزيراً في حكومة الشريف عبد الحميد شرف، ثم في حكومة خليفته قاسم الريماوي.

يخلص الشاعر في نهاية كتابه، إلى أن الأجيال المتلاحقة من الشبان أصبحت أقل استعداداً لما يُطرح أمامها من شعارات وبرامج من القيادات السياسية، وبخاصة في القضايا الكبرى مثل الوحدة والتحرير، لكن هذه الأجيال التي تتسع قواعدها عاماً بعد عام، وتتعمق ثقافتها وتجربتها، أصبحت تكرس جهودها للمساهمة في البناء المتين لمؤسسات الوطن.

«سياسي يتذكّر - تجربة في العمل السياسي» لجمال الشاعر: مرجع ممتع ومفيد في معرفة التاريخ الحديث للأردن
 
01-Mar-2010
 
العدد 9