العدد 9 - حريات | ||||||||||||||
«ما بقدر أحكيلك عالتلفون». هذه العبارة التي تتكرر خلال المكالمات الهاتفية بأكثر من شكل وطريقة، تختزل قضية أصبحت تقضّ مضاجع مواطنين وعاملين في مجال حقوق الإنسان، تتعلق بخصوصية المرء وحقّه في عدم مراقبة اتصالاته أو التنصت عليها، ومدى توافر تشريعات قانونية ملزمة تضمن له هذا لحق. وإذا كان هناك من يتلفظ بهذه العبارة من باب «النكتة» أو المبالغة أو الاحتراز، إلا أن وقائع يجري الحديث عنها بين فينة وأخرى في الإعلام وأوساط المجتمع، تؤكد أن الأمر ممكن الحدوث، وأن مكالمات بعينها لأشخاص من عامة الناس جرى تعقّبها أو التنصّت عليها. هذا السلوك الذي كاد يودي بحياة أشخاص، بخاصة من الفتيات، يجعل من أي شخص يمارس «حريته» على الهاتف النقال «ضحية محتملة» في لحظة ما، ويجعل التخوُّف من نتائج الحديث على السجية عبر الهاتف، أمراً مبرراً، في ظل ما تشهده بلدان كثيرة من تهديدات إرهابية، ومن بينها الأردن الذي استطاعت القاعدة اختراق السياج الأمني المحكم فيه قبل سنوات، ونفذت عدداً من العلميات، فيما جرى إحباط العشرات من مخططاتها. الهاجسُ الأمني فتحَ المجال لإشاعات لم تؤكدها أي جهة أمنية لـے، منها أن هناك كلمات وعبارات بعينها عندما تُذكر في أي مكالمة هاتفية، يتم تعقُّب المكالمة على الفور. من الأمثلة على ذلك: «الملك»، «القاعدة»، «أسامة بن لادن»، «تفجير»، «مخابرات»، وأسماء شخصيات رسمية أردنية. ويعتقد بعضهم أن هناك غرفاً خاصة تتبع لجهات أمنية في شركات الاتصالات، لمراقبة أرقام هواتف معينة، أو ضباط ارتباط تابعين لأجهزة أمنية يقومون بعملهم من تلك الشركات. لكن، مهما كانت المبررات التي تدفع أحدهم إلى تعقُّب أيّ مكالمة هاتفية، فهي ليست مقنعة لعاملين في مجال القانون وحقوق الإنسان، فكيف بها إذا اندرجت ضمن أغراض أنانية ومناهضة لحق المرأة في مساحة خاصة من الحرية، حدودها أثير هاتفها النقال فقط، فتتدخل «السلطة الأبوية» مجدداً لتحرمها منها. ے رصدت قصصاً لفتيات وقعن ضحايا لانتهاك حقهن في الخصوصية. وهنّ في الوقت الذي أبدينَ فيه تفّهماً لتعقُّب مكالمة ما بدعوى «الضرورات الأمنية»، اتفقن على أن التجسس على مكالماتهن الهاتفية، انطوي على سلوك يمتهن إنسانية المرأة، التي توضع تحت المجهر وتبقى حبيسة دائرة الشك حتى لو ثبت العكس. إذ كادت جريمة شرف جديدة تقع بسبب تصرف موظف بسيط في شركة مزودة لخدمات الهاتف النقال. فقد «تبرع» هذا الموظف بالكشف لأحد أصدقائه عن تفاصيل مكالمات ورسائل قصيرة واردة إلى رقم الهاتف العائد لشقيقة الأخير، أو صادرة عنه. فاطمة القاطنة في مدينة الزرقاء، تروي لـے أن مجرد شكّ ساورَ شقيقها بأن تكون على علاقة بأحدهم، قادته للبحث في سجلات هاتفها، فلجأ إلى صديق يعمل مراسلاً في شركة اتصالات، الذي زوده بدوره بصورة عن تلك السجلات التي تُظهر الأرقام الواردة والصادرة والرسائل القصيرة المتبادلة. ولحسن الحظّ، حالَ صوتٌ عقلاني أطلقه أحد أفراد العائلة دون وقوع الكارثة، إلا أن هذا الصوت لم ينجح في إلغاء قرار قاسٍ أصدره الأشقاء الذكور، يقضي بأن تترك فاطمة الجامعة وتلازم البيت، رغم تفوقها الدراسي. تقول فاطمة: «الحمد لله أن القصة انتهت على هذا الشكل. كان ممكن أموت لولا الله ستر، بس تعرضت للضرب لدرجة إني كرهت أصلاً أني بنت». التفاصيل تتشابه بين قصة وأخرى من هذا النوع. إذ قررت دعد، القاطنة في أحد أحياء العاصمة، فسخ خطبتها من الشاب الذي ربطتها به قصة حب لسنوات، بعد اعترافه لها بأنه استعان بصديق للبحث في سجل هاتفها النقال. وفي قصة أخرى في محافظة الكرك، استخدم أحدهم نفوذه وشبكة علاقاته، للاطلاع على سجل هاتف شقيقته «و»، ومعرفة تفاصيل علاقتها العاطفية بأحد الشبّان، ما أدى إلى وقوفه في وجه زواجهما. تقول «و»: «في العائلة، لا أحد يسأل أي شاب حتى لو كان لا يتعدى الرابعة عشرة من عمرة: مع من تتحدث في الهاتف؟ لكن هذا السؤال طبيعي وضروري بالنسبة للفتيات، حتى لو فاقَ عمرها الأربعين». التلصص على هاتف أي شخص هو «انتهاك لأبسط حقوق الإنسان، على الصعيدَين الاجتماعي والسياسي، وهو مصادرة لحقّ الفرد في التصرف في حياته الخاصة بالطريقة التي يختارها»، كما يرى الناشط هشام البستاني. وينظر البستاني إلى الاطلاع على سجلات هواتف المواطنين على أنه «تَعَدٍّ على الخصوصية»، بعكس مما هو معلَن من حماية حريات الأفراد قانونياً. فاتصالات أي شخص من الممكن تسجيلها والاطلاع عليها بسهولة وبشكل غير قانوني أحياناً، كما حدث لعدد من الفتيات. وخطورة ذلك «أننا مجتمع محافظ وذكوري، وقد تتعرض حياة تلك الفتيات للخطر، أو قد يجري ابتزازهن بسبب ذلك». وهو يؤكد أن خطورة هذا السلوك تكمن في أنه قد يُستخدم للقمع والابتزاز. ورغم كشفه أنه لم يتعرض كناشط لابتزاز من هذا النوع، إلا أنه لا يُخفي قلقه: «لا أحد يعرف ما قد يحدث في ضوء ما يجري من تراجع للقوانين والحريات». أما في الجانب القانوني، فيؤكد نقيب المحامين الأردنيين أحمد طبيشات لـے أن الشركة المزودة لخدمة الهاتف النقال «مسؤولة بشكل تام عن تسريب أي معلومة في سجلات الهاتف النقال لأي شخص بالغ عاقل استناداً إلى قدسية الحرية الشخصية»، مضيفاً أن الأصل هو «سرية هذه المعلومات»، وأي إخلال بهذا الشرط يحمّل الشركة المسؤولية القانونية والأدبية، وكذلك الموظف الذي قام بهذا التسريب، لأن أي أمر سرّي وذي خصوصية تنبغي حمايته، لذا تتم الملاحقة انطلاقاً من أن التنصت على الحرية الشخصية يسبب ضرراً للشخص المتنصَّت عليه». هذا التشخيص القانوني يستند إلى الدستور، الذي ينص على أن الحرية الشخصية للأفراد مصونة، ولكن للأسف بحسب طبيشات، لا يوجد نص قانوني صريح يعاقب على هذا الأمر، بعكس دول القانون الديمقراطية التي تُوْقع عقوبات وغرامات باهظة على شركات الاتصالات والموظفين المتسببين بهذا الفعل. لذا «نحتاج إلى إعادة صياغة القوانين المتعلقة بالاتصالات، كي نضمن عدم وجود تجاوزات مثل حالات التنصت أو تسريب سجلات الهاتف الخاصة بأي فرد»، بحسب ما يرى النقيب. ے استفسرت من شركة زين حول إمكانية اطلاع أي مواطن عادي على سجلات هاتف أي مواطن آخر حتى لو كان ولي أمره مثلاً، وحتى لو تم ذلك بطريقة غير مباشرة، بواسطة موظف في الشركة مثلاً. الشركة أكدت في رد رسمي مكتوب بأن «السياسة الداخلية المتبعة داخل الشركة في ما يتعلق في الكشف عن أي من السجلات الخاصة بالزبائن تمنع وبشكل صارم استخراج أي من هذه السجلات إلا في ما يتعلق بالمكالمات الصادرة فقط، إذ يتمكن صاحب الخط شخصياً أو بتفويض خطي يحمل توقيع مطابق للمعتمد لدى السجلات الخاصة بالزبون في أرشيف الشركة الخاص، من الحصول عليه». وحول وجود اتفاقات قانونية مكتوبة أو متعارف عليها بين جهات رسمية أو أمنية مثلاً مع الشركة، تتيح تسريب هذه السجلات لتلك الجهات، أكدت «زين» في جوابها: «نحن نعي أهمية الحفاظ على سرية المعلومات الخاصة بجميع زبائننا، وذلك في إطار حرصنا على ترسيخ علاقة تتسم بالثقة والأمان في ما بيننا وممارسة عملنا وفق الأسس والأطر التي تكفل عدم الكشف عن البيانات المتعلقة بالزبائن إلا وفقاً للقانون». وجاء الرد الشفهي من موظفي العلاقات العامة في شركتَي موبايلكم و«أمنية» مطابقاً لرد «زين». من جهتها، أكدت هيئة تنظيم قطاع الاتصالات أن المادة 65 من قانون الاتصالات تنص على أنّ «المكالمات الهاتفية والاتصالات الخاصة من الأمور السرية التي لا يجوز انتهاك حرمتها وذلك تحت طائلة المساءلة القانونية»، لكن لا يوجد في هذا القانون ولا في التعليمات أو الرخص الممنوحة من الهيئة أو عقود الاشتراك، ما يتيح للهيئة إلزام الشركات المرخصة بعدم تقديم البيانات الخاصة بهواتف زبائنها إلا للجهات المختصة وفقاً لما ورد في المادة 29/ز من قانون الاتصالات، ولغايات محددة تتمثل بتنفيذ الأوامر القضائية والإدارية المتعلقة بتتبع الاتصالات المحددة بتلك الأوامر. وتابعت الهيئة في ردّها على ے: «اتفاقيات الترخيص تؤكد الخصوصية والسرية، ويتضمن عقد الاشتراك شرطاً يتعلق بسريّة بيانات المشتركين»، مؤكدةً أن «المرجعيات القانونية المختلفة تؤكد على الحق في السرية، ولا تسمح بتتبع الاتصالات إلا في حدود ضيقة». ويبدو أن «هذه الحدود الضيقة» هي الاستثناء الذي فتح الباب لمخالفة النص القانوني والقاعدة القانونية العامة والعرف القانوني وحتى الإنساني الذي يقدّس سرية المعلومات الخاصة بالفرد، بحسب المحامي مراد خريسات. وقد برز مفهوم «الحدود الضيقة» هذا تحديداً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وإعلان الولايات المتحدة والعالم الحرب ضد الإرهاب، إذ «سُنَّ قانون في الولايات المتحدة يسمح بالتصنت على المكالمات الهاتفية في الحدود التي تمنع الإرهاب وتحمي الأمن القومي»، بحسب المحامي محمد قطيشات من مركز حماية وحرية الصحفيين. ويتابع قطيشات أن هذه «الحدود الضيقة» ليست موجودة في قوانين دول أوروبية كثيرة، مثل النمسا والسويد. مصدر أمني قانوني متقاعد طلب عدم ذكر اسمه، قال لـے: «من المعروف أن هناك تنسيقاً ممنهجاً بين الجهات الأمنية وشركات الاتصالات لغايات تتبع مكالمات المطلوبين والمشتبه بهم للاطلاع على حلقات ودوائر معارفهم». ويرى المصدر أن هذا التعاون «يصب في مصلحة الوطن والمواطن في النهاية»، معتقداً أن «إساءة استخدام السلطة من بعض الأفراد لمصلحتهم بشكل مخالف للقانون لا يعيب سلوك السلطة في أي حال من الأحوال». ويوضح المصدر أن أيّ جهاز أمني لا يمكنه مراقبة أي هاتف «إلا بإذن خطي وقانوني من المدعي العام». يشار إلى أن المدعي العام التابع للأجهزة الأمنية هو أحد أفراد تلك الأجهزة؛ أي أنه ينضوي تحت قانونها. هذا الأمر يؤكده المحامي خريسات، إذ «تستطيع النيابة العامة في القضايا التي تمس أمن الدولة الطلب من شركات اتصالات الهواتف النقالة أو الأرضية، تزويدها بكشوفات حول الأرقام والرسائل الصادرة من أرقام المتهمين أو المشتكي عليهم في تلك القضايا، أو الواردة إليها»، رغم أن الخبرة الفنية أشارت في بعض القضايا إلى صعوبة تزويد النيابة بالرسائل النصية، وتم الاكتفاء بتزويدها بالأرقام التي صدرت منها تلك الرسائل. في مديرية الأمن العام، يبدو الأمر مختلفاً، لأن «ضحايا» الاطلاع على تفاصيل الهواتف هم أصلاً ممن اعتدوا على المواطنين أو مشتبه بأنهم كذلك. الناطق الإعلامي باسم مديرية الأمن العام الرائد محمد الخطيب تحفَّظ على غير العادة في الإجابة عن سؤال حول هذا الجانب، دون أن ينفي أن هناك طرقاً قانونية لمراقبة هواتف المطلوبين والمجرمين والمشتبه بهم «دون المساس بأيٍّ من حقوقهم». في الأوساط الإعلامية المحلية والعربية، تسري تندّرات بين حين وآخر حول قصصٍ أبطالُها شخصيات معروفة قيل إنه تم الضغط عليها بتفاصيل شخصية، للتأثير في قراراتها ومسيرتها العملية. هذا الجدل خاضت به الإعلامية المصرية منى الشاذلي في برنامجها الشهير «العاشرة مساء» على قناة دريم الفضائية، الذي جمعت فيه ضباطاً مصريين من وزارة الداخلية وضباطَ مخابرات متقاعدين وقانونيين ونشطاء حقوق إنسان. ولم تختلف الدفوع القانونية المصرية عن الأردنية في حق السلطة باتخاذ إجراءات وقائية احترازية لحماية أمن الوطن والمواطن، حتى لو كان ذلك باختراق خصوصية بعض المواطنين، ولا يمنع كونهم مسؤولين من خضوعهم لهذا الإجراء إن استدعت المصلحة العامة. ولم تنجح حجج نشطاء حقوق الإنسان التي كانت مماثلة لزملائهم الأردنيين رغم ارتفاع أصواتهم، في إقناع الضباط حتى المتقاعدين منهم في تلك الحلقة، بوجاهة الحفاظ على خصوصية الأفراد. |
|
|||||||||||||