العدد 9 - من حولنا | ||||||||||||||
بيّن تقرير الفقر السنوي الذي نشرته مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية العام 2009، أنّ معدل الفقر العام في إسرائيل بلغ قرابة 25 في المئة من مجمل السكان في الدولة، وأنّ عدد العائلات الفقيرة نحو 420 ألف عائلة، يشكلون نحو 1.65 مليون مواطن، بينهم 783 ألف طفل. ووفقاً للمعطيات، لم يتفاقم وضع الفقر العام 2008 قياساً بالعام الذي سبقه. ويُظهر التقرير أنّ العائلات العربية في الداخل هي الأكثر فقراً، إذ بلغت نسبة العائلات العربية الفقيرة قرابة 50 في المئة من مجمل العائلات العربية (وتشكل 30 في المئة من مجمل العائلات الفقيرة في إسرائيل)، بينما لا تتجاوز نسبة الأسر اليهودية الفقيرة 15 في المئة (يتمركز الفقر بالأساس بين العائلات اليهودية المتدينة). يُضاف كلّ ذلك إلى معطيات نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية تشير إلى احتمال أن تكون الأسر العربية تحت خط الفقر، أكبر مقارنة بالأسر اليهودية؛ وأنّ 50 في المئة من العرب تنازلوا عن وجبات غذاء بسبب الأوضاع المالية الصعبة؛ فضلاً عن فجوات كبيرة في الوضع الاجتماعي والاقتصادي ومستويات التعليم وإمكانية الوصول إلى التكنولوجيا والمعلومات مقارنة بالمجتمع الإسرائيلي. وتُظْهِر الصورة الوصفية لقسم من المقاييس الاقتصادية للسكان العرب داخل دولة إسرائيل، مع بداية الألفية الثالثة، أنّ دخل العائلة العربية يصل إلى نحو 50 في المئة فقط من دخل العائلة اليهودية؛ وأنّ معدل الفقر في أوساط الفلسطينيين يشمل 50 في المئة من العائلات مقارنة مع 15 في المئة في أوساط العائلات اليهودية؛ وأنّ معدل الدخل السنوي للفرد في أوساط الأقلية العربية يبلغ 8 آلاف دولار مقارنة مع 24 ألف دولار لمواطني الدولة من غير العرب. وبحسب هذه الصورة، يصل مستوى المشاركة في قوى العمل لدى الفلسطينيين 40 في المئة، مقارنة مع 55 في المئة في الأوساط اليهودية، ويصل مستوى البطالة إلى 12 في المئة مقارنةً مع 8 في المئة في الأوساط اليهودية. وتكشف أنّ 50 في المئة من المستخدمين العرب يعملون في الاقتصاد اليهودي، وأنّ 30 في المئة من المستخدمين العرب في الاقتصاد العربي المحلي يعملون في القطاع العام، السلطات المحلية، التربية والصحة، و20 في المئة من المستخدمين يعملون بشكل مستقل أو كأجراء في الاقتصاد العربي. وبذلك فإنّ الاقتصاد العربي ينجح في توفير أماكن عمل لـ 8 - 10 في المئة فقط من العرب في سن العمل. وما زال 50 في المئة من المستخدمين العرب يعملون في فروع الاقتصاد التقليدية، الزراعة، الصناعة والبناء، وبالأساس كعمال مهنيين وغير مهنيين في الاقتصاد اليهودي. في ظل هذه المعطيات، حدثت في السنوات الأخيرة بعض التغيرات في التعامل الاقتصادي للحكومات الإسرائيلية مع الفلسطينيين في الداخل. إذ اتخذت الحكومة الحالية، وقبلها الحكومة السابقة، بعض الخطوات للتعامل مع الضائقة الاقتصادية للفلسطينيين، منها على سبيل المثال، إقامة هيئة حكومية خاصة لتطوير الاقتصاد العربي، وإنشاء شركة للاستثمار في الاقتصاد العربي برأس مال 40 مليون دولار، وضعت الحكومة منها 20 مليون، ومن المفترض أن يضع شريك من القطاع الخاص الحصة المتبقية. كما بدأ عدد من المؤسسات الإسرائيلية بالعمل في السنوات الأخيرة على دمج العرب في الشركات الإسرائيلية الخاصة، وفي الصناعات التطويرية والمعرفة والمعلوماتية. وافتتحت شركات إسرائيلية عاملة في مجال الحوسبة فروعاً في البلدات العربية لتشغيل موظفين عرب. هذا الواقع الاقتصادي، الذي يكشف عن دونية اقتصادية دائمة، يدفع للبحث عن تفسير للسياسات الاقتصادية التي تنتهجها إسرائيل تجاه الفلسطينيين في الداخل، رغم أنّ الاقتصاد الإسرائيلي مرّ بعمليات تحوّل وإعادة بناء عميقة تؤهله، بالإضافة لسياسات الاقتصاد الكلي، لدخول نادي الدول الليبرالية المعولمة من أوسع الأبواب. وإذا كانت الحال كذلك، لماذا لم يستفد الفلسطينيون في الداخل تلقائياً من «الانفتاح الاقتصادي»، والاندماج الاقتصادي الإسرائيلي في المنظومة الاقتصادية العالمية، ولماذا لا يضمن تحريرُ الأسواق وانتهاج سياسات اقتصادية «ليبرالية» تخفيفَ قيود التنمية المفروضة على الاقتصاد العربي في الداخل، وماذا تعني الخطوات الحكومية الأخيرة، ولماذا الآن، وهل يدلّ ذلك على «لَبْرَلَة» العلاقة الاقتصادية مع الفلسطينيين في الداخل كما تدّعي الدولة، أم أنّ الأهداف والتفسيرات مغايرة للرواية الرسمية؟ التفسير المنطقي للواقع الاقتصادي للفلسطينيين في الداخل، وللسياسات المنتهجة إزاءه، هو وجود اقتصاد مقسم في إسرائيل: الاقتصاد المركزي اليهودي، والاقتصاد المحلي العربي الذي تشكّل تاريخياً على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، وجُنّد قسراً لاحتياجات المشروع الصهيوني. إضافة إلى وجود سياسات اقتصادية مختلفة لكلا الاقتصادَين. هذا التقسيم يجري تفسيره بواسطة الأُسس الأيديولوجية الاقتصادية للمشروع الصهيوني، التي كوّنت الأهداف والسياسة الاقتصادية عموماً، ومن تلك الأُسس تنبثق السياسات الحكومية في هذا المجال، حتى بعد مرور ستين عاماً على إقامة إسرائيل على أرض فلسطين. يرتكز أحد أُسس الأيديولوجية الصهيونية على مبدأ تجنيد الاقتصاد لمتطلبات النفوذ القومي، لمجتمع من دون دولة (اليشوف)، وللدولة لاحقاً. رأى المهاجرون الأوائل في شحّ المصادر الاقتصادية عاملاً محدداً ومهدداً قد يحدّ من السيطرة على الأراضي قبل قيام الدولة. إضافة إلى ذلك، سادت القناعة بأنّ الفشل في خلق أماكن عمل للمهاجرين يهدّد جهود تغيير الميزان الديمغرافي في فلسطين. وتُترْجَم البنى الأيديولوجية تلك في السياسات الراهنة لدولة إسرائيل، التي ما زالت تعدّ المورد الاقتصادي عنصراً أساسياً من عناصر التفوّق اليهودي في الدولة (وفي المنطقة). مقابل ذلك، تحجب إسرائيل الموارد الاقتصادية عن الفلسطينيين في الداخل، لضمان تعلّقهم في الموارد الاقتصادية وبأماكن العمل التي تنتجها مجموعة الأغلبية أو الدولة. حتى الثمانينيات صيغت تلك السياسات وفقًا لاحتياجات الاشتراكية-الصهيونية وشروطها، ومنذ ذلك الوقت وفقًا لشروط الرأسمالية الصهيونية. ولا يُقصد بهذا الادعاء النفي المطلق لأي تطور وإنماء اقتصادي شهدته الأقلية الفلسطينية، وإنما أنّ سقف التطور الاقتصادي حُدّدَ دائماً وفقًا لاحتياجات الدولة. بمعنى آخر، تقبل دولة إسرائيل تطوير الاقتصاد الفلسطيني في الداخل، بشرط أن يكون تطوراً محدداً يمكن أن يخدم أجهزة «الإشراف والرّقابة» المعمول بها، وأن تكون استفادة الاقتصاد اليهودي أكبر من استفادة الاقتصاد الفلسطيني. كلا الاقتصادَين منفصل عن الآخر، بسبب التقسيم الجغرافي أو لاختلاف السمات الاقتصادية، ورغم أن الدولة عملت على حفظ هذا الواقع وهذا التقسيم، لم يكن كلٌّ من الاقتصادَين مستقلاً ومغلَقاً تماماً. وكان تبادل البضائع والعلاقات الاقتصادية انتقائياً جداً، ووفقاً لمتطلبات السوق اليهودية والمصلحة اليهودية، وأهداف المشروع الصهيوني. إضافةً إلى ذلك، تحقق التطور الاقتصادي الصناعي اليهودي على مدار سنوات، بمساعدة أجهزة الدولة، والدعم المادي الكبير وموارد المؤسسات القومية. وقد برزت على طول الطريق أهمية الأيديولوجية القومية-الصهيونية في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية في إسرائيل. هذه السياسات تؤدي بالضرورة إلى غياب قواعد السوق الحرة بين الاقتصادَين. لذا فإن أكثر النظريات قرباً لوصف هذا الوضع ينبثق عن الأيديولوجية المركنتيلية، وأحيانا النيو-مركنتيلية على اختلافها. ظهور النموذج المركنتيلي كان منتوجاً مرافقاً لنشوء الدولة القومية الحديثة. وهي نظرية برزت في الأساس من المدرسة الواقعية التى رأت في الاقتصاد، وعلى وجه الخصوص في الصناعة، مورد النفوذ الأول لضمان الأمن القومي ومصالح لدولة القومية. ترى هذه النظرية في الاقتصاد لعبة، فيها غالبون ومغلوبون، ويجدر بالدولة أن تكون بين الغالبين. ويمكن القول إن التغيرات في السياسات الاقتصادية المعمول بها تجاه الفلسطينيين في السنوات الاخيرة تنبثق عن سياسات نيو-مركنتيلية. وفقاً لهذه السياسة ليس بالضرورة أن تكون نتيجة المنافسة الاقتصادية غالباً أو مغلوباً، بل يمكن أن يكون الطرفان رابحَين win win game، لكن يجب أن تعمل الدولة على أن يفوق ربحها ربح الطرف الآخر، وأن تضمن مصالحها القومية أولاً، حتى لو كان في التبادل الاقتصادي ربحاً للطرف الآخر. هذا ما يفسر السياسات الاقتصادية الحالية تجاه الفلسطينيين في الداخل. فالحكومة الإسرائيلية تقبل بتطوير الاقتصاد الفلسطيني في الداخل، لكن بشرط أن يكون ذلك تحت سقف احتياجات الاقتصاد الإسرائليي وبما فيه من مصلحة الاقتصاد الكلي، ويساعد على تحقيق الأهداف القومية الإسرائيلية. ومن المرجح أن هذا التغير حدث نتيجة لضروريات الاندماج الكامل بالاقتصاد العالمي، وبالأساس بسبب حاجة إسرائيل إلى الاستجابة لشروط عدد من المنظمات الدولية. تسعى الحكومات الإسرائيلية للانضمام إلى منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي OECD، وقد خطا الاقتصاد الإسرائيلي خطوات عدة بهذا الاتجاه، واستجاب لعدد من شروط المنظمة. لكنه ما زال بحاجة إلى خطوات أخرى، منها: رفع معدل الناتج المحلي السنوي للفرد الواحد، رفع المشاركة في أسواق العمل وتخفيض البطالة والفقر. ويبلغ المعدل العام للناتج المحلي القومي للفرد الواحد في إسرائيل نحو 28 ألف دولار سنوياً، مقابل 8000 تقريباً للسكان العرب. ووصلت الحكومات الإسرائيلية، باعتراف مدراء سابقين لوزارة المالية ومحللين اقتصاديين بارزين في إسرائيل، إلى أنه لا يمكن رفع معدل الناتج المحلي السنوي للفرد ليصل إلى 33-34 الف دولار -ليقترب من معدلات الدول الصناعية- دون رفع معدل الإنتاج لدى الفلسطينيين في الداخل. إذ إنه من ضروب الخيال رفع معدل الإنتاج لدى المواطن اليهودي إلى 40 ألف دولار سنوي كي يصل المعدل لعام إلى 32 ألف دولار، مع إبقاء معدل الإنتاج لدى العرب 8 آلاف دولار، كون الاقتصاد الإسرائيلي استنفد الطاقات الكامنة في المجتمع اليهودي من حيث الإنتاجية ومستويات التعليم والتشغيل، هذا في ضوء أنّ الشرائح اليهودية متدنية الدخل التي تصل إلى قرابة 10 في المئة من المجتمع اليهودي لا تشارك في عملية الإنتاج الاقتصادي وتعتاش من مخصصات الدولة. ولا يمكن تخفيض معدلات الفقر والبطالة دون خفضها لدى الفلسطينيين، أي دون تطوير الاقتصاد الفلسطيني. كما أنه لا يمكن رفع معدلات المشاركة العامة في أسواق العمل ما لم يتم رفع معدل مشاركة النساء الفلسطينيات في أسواق العمل (تصل نسبة المشاركة الحالية إلى 20 في المئة فقط). إذ إن معدلات المشاركة لدى المجتمع اليهودي بلغت ذروتها. هذا يعني أنّ دولة إسرائيل مضطرة اليوم، بغية تحقيق مصالحها الاقتصادية والقومية، ومن ضمنها الانضمام إلى منظمة OECD، إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في الداخل، ليكون ذلك رافعاً لتحسين مؤشرات اقتصادية أساسية. لكن الحكومات الإسرائيلية تعمل على أن يكون هذا التطور مشروطاً بمصلحة الاقتصاد اليهودي-الإسرائيلي، وبخدمة الاقتصاد اليهودي، وأن يكون تحت سقف الحكومة ومن خلالها، وبشرط أن لا يُنتج خللاً في توازن القوة الاقتصادي بين المجموعة اليهودية والعربية، والأهم أن لا يرفع التطور الاقتصادي من سقف الأهداف والمطالب الاقتصادية للفلسطينيين في الداخل. إذ كانت الحكومات الإسرائيلية، مستعدة دائماً لدفع ثمن اقتصادي، بما يحول دون تنمية الاقتصاد العربي، ويجنبها تقديم ثمن سياسي لهذا التطور. أي أنّ سياسات الاحتواء ما زالت قائمة، وما زال الاقتصاد مجنّداً في خدمة مشروع قومي استعماري يعمل لصالح المجتمع اليهودي، داخل دولة إسرائيل وخارجها. |
|
|||||||||||||