العدد 9 - اقتصادي | ||||||||||||||
في أوائل شباط/يناير 2010، وفي تقرير شديد النبرة أصدرته منظمة مراقبة حقوق الإنسان هيومن رايتس ووتش، واجه الأردن إدانة عامة بسبب سياساته الراهنة المتعلقة بالسحب العشوائي للجنسية من أردنيين منحدرين من أصول فلسطينية. وفقاً للتقرير، أثّرت هذه السياسة في ألفين وسبعمئة شخص على الأقل في الأعوام ما بين 2004 و2008، ممن تم تجريدهم جميعاً من جنسيتهم بجرّة قلم. ويلقي التقرير المكون من 60 صفحة، الضوء على موضوع فقدان الجنسية، المنطوي على خسران الوصول إلى الحقوق الإنسانية الأساسية، بما فيها التعليم، والعناية الصحية، والعمل، والضمان الاجتماعي، وكذلك الحق في الامتلاك. وبينما قالت هيومن رايتس ووتش أن هذه السياسة تمارَس عشوائياً، إلى جانب انتهاكها لقانون الجنسية الأردني للعام 1954، قال مسؤولون مختلفون من داخل الحكومة، إن هذه السياسة مصمَّمة من أجل حفظ حق العودة للأردنيين من أصل فلسطيني، كما دافع مسؤولو الدولة أيضاً عن هذه السياسة، واصفين إياها بأنها إجراء من أجل «تصحيح الأوضاع»، الذي أصبح ضرورياً بطبيعته، بعد فك ارتباط الأردن بالضفة الغربية 1988. مع ذلك، يرى المنتقدون أن مثل هذه السياسة تعمل في واقع الأمر انسجاماً مع رغبة الأردن في مواجهة التحركات الإسرائيلية لتكريس الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين. ومهما كان واقع الحال، فإن ثمة أمرَين يبدوان مؤكدَين: أن الأردن يلعب لعبة سياسية في موضوع الجنسية، وأن الموضوع يظل أشدّ تعقيداً مما تتعاطى به التقارير الإعلامية حوله. ففي الوقت الذي يلتقط فيه التقرير فعلياً تعقيدات هذه السياسة المستمرة، التي تبدو عشوائية بشكل رئيس، نظراً لحكم الأردن التاريخي «الغريب» للضفة الغربية، وما صاحبه من توابع سياسية متعلقة بالمواطنة، فإنه يشير أيضاً إلى صورة أصبحت فيها الحقوق الإنسانية مشتبكة، ليس في عملية سياسية فقط، وإنما في الاقتصاد أيضاً. الأردنيون من أصل فلسطيني ممن أصبحوا الآن بلا دولة، والذين ما زالوا يعيشون في المملكة مع ذلك، يواجهون الآن أعباء اقتصادية غير مسبوقة. على سبيل المثال، أصبحت الرعاية الصحية التي يتمتع بها معظم الأردنيين بتكلفة منخفضة نسبياً، إن لم تكن مجانية، سلعةً كمالية بالنسبة لهذه الشريحة الجديدة من السكان. وبوصفهم أجانب في البلد الوحيد الذي عرفوه طوال حياتهم، فإن الطلبة المنتمين إلى العائلات التي جُردت من جنسيتها أصبحوا يواجهون واقع دفع رسوم دراسة أعلى للتعليم العالي. بل إن هذه الشريحة الجديدة ربما تجد من الصعب عليها الوصول إلى مرحلة الجامعة أصلاً، نظراً لأن التعليم الابتدائي مغلق أمام غير الأردنيين (مع الاستثناء الخاص للاّجئين العراقيين). وفقاً للتقرير، فقدَ الأردنيون من أصل فلسطيني ممن أصبحوا بلا دولة، وعلى حين غرّة، حقَّهم في العمل في القطاع العام، وبات يترتب عليهم التغلب على سلسلة من العقبات البيروقراطية من أجل العمل في القطاع الخاص، منها الحصول على شهادة حسن سلوك من دائرة المخابرات العامة، وعلى تصريح عمل. وفي غياب امتلاك جواز سفر أردني كامل، فقدت هذه الشريحة من القوى العاملة أيضاً قدرتها على السفر بحرية، بينما أصبح أعضاء النقابات المهنية التي تطلب الجنسية الأردنية كشرط مسبق لعضويتها، محرومين من عضوية الحرْفة، حيث تكون عضوية النقابة إجبارية. ومما زاد الأمور سوءاً، حرمانُ هؤلاء من حقهم في الضمان الاجتماعي، حين أصبحت هذه الشريحة من القوة العاملة غير قادرة على دفع رسوم اشتراكها في الضمان الاجتماعي، كأردنيين، وغير قادرة كذلك على سحب أموالها من الضمان بوصف أفرادها أجانب. وأخيراً، يلقي التقرير الضوء أيضاً على فقدان الحق في الملْكية، بحيث لم يعد بوسع هؤلاء الفلسطينيين الذين بلا دولة أن يمتلكوا الأرض أو المنازل أو الأعمال، وأصبح بعضهم يسجّل مثل هذه الأصول بأسماء أقاربهم بوصف ذلك الطريقةَ الوحيدة لحفظ هذه الممتلكات، في حين وجد الذين يمتلكون محافظَ أسهم أنه لم يعد بوسعهم التعامل والمقايضة من دون رقم وطني أردني، وأصبحت أسهمهم الآن مجمدة في السوق. غني عن القول إن هذا النهج ذا البعد السياسي، أنشأ وضعاً اقتصادياً قاتماً لشريحة من المجتمع. وهي في واقع الأمر شريحة من القوة العاملة، فقدت حق التنقل، إلى جانب الحق في التعليم والعناية الصحية غير المكلفة، ما يعني تحولها إلى قوة عاملة غير متعلمة ومريضة. القضية التي تبرز هنا، لا تتعلق فقط بدولة لم تعد تحترم الحقوق الإنسانية الأساسية، أو بأطروحة دستورية، وإنما هي قضية سحب الحقوق من أناس يسهمون في الاقتصاد الوطني. بعبارة أخرى، وبوضع السياسة وحقوق الإنسان جانباً، فإن الأطروحة الاقتصادية التي يقدمها مفكرون وخبراء مختلفون، تعتقد بضرورة إجراء تحليل للمواطنة يقوم على حسبة التكلفة-الربح. ذلك أن المواطنين من حيث الأساس، هم أشخاص يسهمون بشكل حتمي في الاقتصاد الوطني عن طريق الدفع للضمان الاجتماعي، وتسديد الضرائب، وهم يشترون ويبيعون في السوق بوصفهم جزءاً من القوة العاملة، مسهمين بذلك في نمو الناتج القومي الإجمالي. وفقاً لما كتبته نرمين مراد، كاتبة العمود في صحيفة جوردان تايمز الأردنية، فإن جوهر القضية يكمن في الافتقار إلى الشفافية وما ينجم عن ذلك من انغلاق قناة الاتصال بين الحكومة وشعبها. تقول مراد: «المواطن لا يعرف حقوقه، وبماذا يمكن أن يطالب. لا يمكن للجسم السياسي في البلد أن يُبقي على سياسة الغموض هذه، بخاصة عندما نتحدث عن جيل ثانٍ من الناس الذين وُلدوا هنا، ودرسوا وعملوا هنا». وتضيف أن هؤلاء أناسٌ يشكّلون جزءاً من السوق، ويسهمون بدفع الضرائب ويدفعون لنظام التعليم، ويشكلون طاقة فكرية للبلاد، وهو ما يُعدّ أيضاً مكسباً يُعتدّ به للمملكة. وهم ينشئون أعمالاً صغيرة ويضخّون أموالها في الاقتصاد الوطني. وفي المقابل، «تترتب تكلفة معينة على كونك مواطناً»، تقول مراد، وتوضح: «مع ذلك، وبقياس الأمرين معاً، فإنك ستجد أن المنافع ترجح بكثير على التكلفة في هذه الحالة». في الوقت الذي يقول فيه بعضهم إن نزع المواطنة من هذه الشريحة من المجتمع يعمل فعلياً على تخفيف الأعباء الاقتصادية عن كاهل الحكومة، والمتمثلة في تقديم الخدمات العامة الأساسية، فإن ثمة آخرين ممن يختلفون بقوة مع هذا الموقف. مروان كردوش، الاقتصادي ورئيس تحرير مجلة بيزنس جوردان، يرى أن الافتراض القائم على أن سحب الجنسية الأردنية من هؤلاء سوف يحقق للدولة وفراً في تكلفة التعليم المدرسي و/أو العناية الصحية، «افتراض خاطئ». ويضيف أن هذا الافتراض يعني أن هؤلاء الأشخاص سوف يحتاجون إلى هذه الخدمات، لكن المسألة يمكن أن تكون في واقع الأمر كما يلي: «بفقدان التمتع بالجنسية الأردنية الكاملة وكل المنافع التي ترافقها، بما في ذلك الإحساس بالانتماء، والقدرة على العمل بحرية، وامتلاك الأصول، والسفر... إلخ، فإن فاقدي الجنسية سيعتمدون بدلاً من ذلك على خدمات مشابهة يقدمها القطاع الخاص». مراد تلقي الضوء أيضاً على حقيقة أن المملكة هي موطن لأكثر من 63 ألف امرأة من المتزوجات من غير أردنيين، وغير قادرات بذلك على منح جنسيتهن لأبنائهن. وبالمعايير الاقتصادية، فإن الأردن يؤوي مئات الآلاف من الذين لا يستطيعون أن يسهموا بشكل مناسب في اقتصاده الوطني كمقيمين أو مواطنين، مع أنهم وُلدوا في البلد ويستهلكون موارده. إن سياسة حرمان النساء اللواتي يتزوجن من غير الأردنيين، من الحق في منح جنسيتهن لأبنائهن، ترتبط حتماً بالسياسة نفسها التي تستهدف الأردنيين من أصل فلسطيني، بل وتشكل ضحيةً لها. وبينما دافع الناشطون منذ أمد طويل عن فكرة فصل هاتين القضيتين في محاولة لحل الواحدة منهما من دون المساس بحساسية القضية الفلسطينية، فإن اشتباكهما التاريخي جعل ذلك الفصل صعباً. بعبارة أخرى، ومن وجهة نظر الحكومة الأردنية، فإن حل قضية واحدة لا يمكن أن يتحقق من دون حل الأخرى. في الوقت الذي تم الإعلان فيه عن بطاقات الإقامة كحل مؤقت للمشكلة الأكبر، وهو حل يتيح للناس الحصول على حقوق أساسية مختلفة كمواطنين، والتي تأتي مع الحقوق الاقتصادية، فإنها ربما لا تفعل سوى القليل لإنقاذ سمعة البلد، سواء في عين المجتمع الدولي، أو في عين أولئك الذين تم انتزاع جنسيتهم. يقول كردوش: «حتى لو تم إصدار بطاقات إقامة، فإنني أشك بأن ذلك سيُحدث أيَّ فرق. بصراحة، ولو وُضعتُ في الموقف نفسه، فسأشعر بأنني قد خُذلت وسأفكر جدياً بالهجرة إلى بلد آخر. لماذا يمكن لأي شخص أن يستثمر الوقت والمال في مكان يكون غير مرغوب به فيه؟». في بلد يعتمد بكثافة على قواه العاملة، وعلى القدرات الفكرية في تعزيز اقتصاده، ربما يكون من الحماقة من جانب الحكومة أن تتبنى نهجاً مدفوعاً بدافع سياسي، لكنه منحرف اقتصادياً، بخاصة عندما يأخذ المرء في الحسبان حقيقة أننا لا نمر بأوقات اقتصادية عصيبة تعاني فيها الحكومة من عجز موازنة يبلغ 1.4 بليون دينار فحسب، وإنما نجد أيضاً، وبوضع حساب الأرباح والخسائر جانباً، أن المكاسب السياسية الفعلية لمثل هذه السياسة تظل أقل وزناً بكثير من المكاسب الاقتصادية الممكنة. |
|
|||||||||||||