العدد 9 - شأن اقتصادي
 

قول المثَل: «ما لا يُدرَك جُلّهُ لا يُترك كلّهُ». بمعنى أن الناتج المحلي الإجمالي ليس مقياساً مثالياً، لكنه واحد من أفضل المؤشرات التي بين يدينا حتى الآن، وإلى حين تكتشف اللجنة التي شكّلها الرئيس الفرنسي ساركوزي، مؤشراً جديداً، فإننا سنقبل بالناتج المحلي الإجمالي مؤشراً، رغم نواقصه وعيوبه.

والواقع أن الناتج المحلي الإجمالي هو القيمة النقدية لمجموع السلع والخدمات التي تم إنتاجها في دولة ما خلال عام واحد. والأصل احتساب إنتاج أي دولة بالوحدات التي أُنتج بها. فنقول: أنتجنا العام 2009، على سبيل المثال، مئة ألف تفاحة، ومليون برتقالة، وعشرين ألف كمبيوتر، وسبعة آلاف شاحنة، و50 مليون حالة حلاقة، وغيرها، ونقارن كمية ما أنتجناه العام 2009 بالكميات المنتجة العام 2010، لكن هذا ليس عملياً وغير ممكن. فالناس بطبعها تميل إلى الرقم الواحد المبسط.

وعليه، يصبح السؤال: كيف تجمع برتقالاً وتفاحاً وحلاقة شَعر وشاحنة بعضها مع بعض؟ يتم ذلك بحساب تكلفة إنتاج الوحدة بالدينار، أو سعر بيع الوحدة بالسوق، وضرب الكمية المنتجة لكل سلعة بمعدل سعرها، فنحصل على قيمة الإنتاج من التفاح بالدينار، وقيمة الإنتاج من البرتقال بالدينار. وهكذا يصبح لدينا مجموع قيمة إنتاج السلع والخدمات.

يمكن الوصول إلى الأرقام نفسها بطريقة أخرى، انطلاقاً من أن المال الذي أُنفق على إنتاج السلع والخدمات يساوي مجموع الدخل الذي حصلَ عليه مَن أنتج تلك السلع والخدمات. والنفقات وأبواب الإنفاق، تساوي عوائد عناصر الإنتاج؛ فهنالك الريع أو مجموع العائدات على عنصر الأرض والموارد التي تحتها والأرصدة التي فوقها. وهنالك عوائد رأس المال كالآلات والأجهزة التي تحصل على فائدة أو ربح. وهنالك القوى العاملة التي تقبض أجوراً أو أرباحاً. ومجموع الأرباح والإيجارات والأجور والرواتب والفوائد يجب أن يشكّل الدخل المدفوع.

ويمكن حساب الناتج الإجمالي بطريقة ثالثة، هي أوجه الإنفاق. فالإنفاق يكون على الاستهلاك المحلي الخاص والاستثمار الخاص. وهنالك أيضاً الإنفاق العام على الاستهلاك والاستثمار، وأخيراً هنالك الفرق بين الاستيراد والتصدير. حيث يجب عدّ الصادرات إنتاجاً محلياً، ولو لم تُستهلك في الدولة المنتجة. أما المستوردات فهي إنفاق محلي، لكنه من إنتاج آخرين، ولا يجوز أن يُحسب كجزء من إنتاج الدولة المعينة.

كل الطرق مع بعض التعديلات تؤدي إلى نتائج متقاربة. ولكن يجب التنويه إلى أن النشاط الاقتصادي لا يُعكس كله في أرقام الناتج المحلي الإجمالي. فمثلاً إذا اشتريت بيتاً قديماً، فإن الإنفاق على البيت لا يدخل في الناتج المحلي الإجمالي، لأن هذا البيت قد دخل في أرقام الناتج المحلي الإجمالي لعام سابق. ما حدث ليس إنتاجاً جديداً، بل هو نقل للملْكية. لكن عملية الشراء قد تنقل المال من شخص مدخِر اشترى البيت إلى شخص مستثمر. وهذا يعدّ نشاطاً اقتصادياً وإن لم يدخل في حسابات الناتج الإجمالي. وكذلك، هنالك نشاطات كثيرة غير مسجلة. فالشخص الذي يبيع على قارعة الطريق لا يُحسب ضمن الدخل لأن ليس له قيد رسمي. وكل من يبني بيتاً جديداً غير مرخص لا يدخل ضمن إحصاءات الإنتاج، ومن يحفر بئراً من وراء ظهر السلطة يكون قد مارس نشاطاً غير معروف رسمياً. ولهذا فإن النشاط الاقتصادي يكون عادة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن إذا كان الناتج الإجمالي يقيس 80 في المئة من مجموع الإنتاج، فهذا يعني أنه مؤشر ممتاز على حجم النشاط الاقتصادي الفعلي.

وحتى يُستخدم الناتج المحلي الإجمالي مقياساً للنمو، تتم مقارنة قيمة الإنتاج في عام ما مع قيمة الإنتاج في العام الذي يسبقه. والفرق بينهما مقسوماً على أحدهما، يقدم لنا النسبة السنوية للنمو.

لكن يجب أن نتذكر أن الدينار الذي نقيمّ به الإنتاج تتغير قيمته من عام إلى آخر. لذلك قد تقل نسبة القوة الشرائية للدينار بنسبة 5 في المئة في العام الجاري مقارنة بالعام 2009. وهذا يعني أننا سننفق 5 في المئة أكثر على الإنتاج نفسه الذي حصل في العام السابق. وعليه، فإن المطلوب إذا أردنا أن نعرف نسبة النمو الحقيقية، أن نحسم منها 5 في المئة وما يتبقى من فرق يعكس هذه النسبة.

وفقاً لذلك، الناتج المحلي الإجمالي ليس مجرد رقم أجوف، بل هو رقم معقد، يشمل كل عناصر النشاط الاقتصادي. والعيب ليس في الرقم، ولا في تفرعاته، بل في استخدامنا له واستنتاجنا منه لأمور يضيق تعريف الناتج عنها.

في ضوء ذلك، يمكن السؤال: ما معدل النمو المتوقع للاقتصاد الأردني العام 2010؟

يبدو أن الاقتصاد لن يشهد نمواً أكثر من 3.5 - 4 في المئة العام الجاري، على أقصى حد. فالنصف الأول مما نقرأ ونسمع، لن ينمو أكثر من 1 في المئة إذا ما قورن بالنصف الأول من العام الفائت، ونحو 2 في المئة بأرقام العام الماضي كله. أما النصف الثاني من العام الجاري فسيشهد أسوأ فترة، أو ما يُدعى «القاع». وبعد ذلك سيبدأ الاقتصاد في التحسن ببطء، وربما أن الاقتصاد العالمي سيخرج من الأزمة خلال الربع الثاني وبشكل واضح في الربع الثالث. وبعدها سيبدأ اقتصاد دول الخليج في استعادة حيويته، وبعدها بثلاثة أشهر ستصل أمواج هذا التحسن إلى الشواطئ الأردنية، وتتحرك المياه الراكدة في الاقتصاد الأردني. وهكذا، تبدأ التوقعات بفترة أكثر نشاطاً تعم أوساط المستثمرين، فيعودون إلى الإنفاق، وتعود البنوك للإقراض.

ولعل النشاطات المرشحة للعودة في البداية، هي قطاعات تجارية، مثل الملابس والأثاث ومواد البناء. وكذلك سنشهد نشاطاً سياحياً أكثر، مما يعني أن قطاع الفنادق والمطاعم وأماكن الترويج سيشهد إقبالاً متزايداً. وسوف نرى تحسناً في أسعار الفوسفات وأملاح البحر الميت. ولربما أيضاً تشهد المشروعات الكبرى بدايات واضحة للتنفيذ خلال الربع الثالث.

إذا حدث كل ذلك، ونشطت قطاعات الصحة والتعليم الخاص، ودبّت الحياة في إقليم العقبة، فإنه من الواضح أن جزءاً عريضاً من المواطنين سيلحظ تحسّناً.

وهكذا تزداد المداخيل، وتتحرك السيولة في شرايين الاقتصاد، وتتحسن إيرادات الحكومة، وتعود لإكمال بعض المشروعات، ولربما يأتي المستثمرون العرب، وتتحرك المصارف، وتخرج بعض الشركات المتعثرة من الحفرة الواقعة فيها.

كل هذا ممكن، ولكن يجب أن ترافقه سياسة حكيمة.. ومتى حدث هذا، فإن النشاط في الأشهر الأخيرة سيرفع من نسبة النمو المتدنية، وسيدعم معدل دخل الفرد إذا زادت فرص العمل، وقدمت الحكومة برنامج شبكة اجتماعية مدروسة ومنفّذة بحكمة وفاعلية واقتدار.

ولا بد من الانتباه هنا إلى نقطتين رئيسيتين: الأولى أن النمو الاقتصادي في النصف الثاني من العام ربما يكون منحازاً ضد متوسطي الدخل والأقل حظاً. فارتفاع وتيرة النمو، وزيادة تدفق الدماء سوف يصيب قطاعات البنوك، والسياحة، والعقار، والصناعات الكبرى، وبعض الصناعات المتوسطة، والتجارة وبخاصة في الآليات ومواد البناء والأثاث. والنمو في هذه القطاعات يصبّ عادة في صالح المستثمرين الكبار وتجار الجملة والصناعات الكبيرة. وبالطبع، فإن بعضاً من هذه المداخيل سوف ينقّط على أولئك الأقل دخلاً من الفئات العاملة في هذه النشاطات، ولكن البداية لن تكون كافية لكي يشعر بها متوسطو الدخل.

على الأرجح ألاّ يُحدث النشاط الإضافي في هذه القطاعات تحسناً كبيراً في أوضاعها، بل سيكون تحسناً محدوداً، يعطي المستثمرين بعض الطمأنينة، ويمنحهم الأمل بأن الأمور في العام 2011 ستكون أفضل.

لذلك، فإن العام الجاري لن يشهد انفراجاً وبسمات على وجوه أصحاب المداخيل المحدودة. بل ربما تشهد أوضاعهم بعض التراجع إن بدأت مستويات الأسعار بالارتفاع، بخاصة إذا عاد النشاط الاقتصادي للعالم. وقد يَحُول دون ارتفاع الأسعار إلى مستويات مؤلمة أمران: الأول خارجي ناتج عن ارتفاع سعر تبادل الدولار مقابل العملات الأخرى. وحيث أن الدينار الأردني مربوط بالدولار، وحيث أن معظم مشترياتنا الخارجية بالدولار، فإن بعض الارتفاع في الأسعار قد يمتصه ارتفاع الدولار والدينار قياساً إلى الين الصيني، واليورو الأوروبي، وغيرها من العملات التابعة للدول التي نستورد منها بغير الدولار.

من هنا، فإن بعض المحللين سوف يعود ليثير موضوع صلاحية معدل دخل الفرد الأردني من الناتج المحلي كمؤشر على مستوى الرفاء الاجتماعي. فقد يتحسن مجموع الناتج المحلي الإجمالي بشكل أسرع من النمو في السكان، وهذا يعطي الانطباع أو النتيجة الحسابية بأن كعكة الناتج المحلي قد كبرت أسرع من الآكلين لها. مما يعني أن حصة كل آكل سوف تزيد. وسيقول هؤلاء إن مثل هذا الاستنتاج الرقمي غير مطابق للواقع. وهذا الاستنتاج بحد ذاته صحيح، لأن النمو في كعكة الإنتاج والدخل سيكون منحازاً لأصحاب الدخول الأعلى.

النمو لن يكون صديقاً للفقر ولا للبطالة. لذلك فإن الحكومة مطالَبة بالانتباه لهذا الأمر إذا أرادت تحريك الاقتصاد بشكل أسرع، لأن أصحاب الدخول العليا ليسوا بحاجة لمزيد من الإنفاق، أما أصحاب الدخول الدنيا فهم بحاجة إلى مداخيل إضافية كي ينفقوها على توفير حاجياتهم الأساسية. وهذا البعد، أي بعد عدالة التوزيع، لن يتأتى بحكم التطورات المتوقعة في النشاط الاقتصادي، بل هو بحاجة إلى سياسات موجهة بشكل محدود نحو الفقر.

الناتج المحلي الإجمالي لم يولد أمس كمؤشر. والاقتصاديون أدرى الناس بنواقصه وبإمكانات إساءة استخدامه كمؤشر على النشاط الاقتصادي، أو الرفاء الاجتماعي، أو النمو الفعلي. ومعدل دخل الفرد هو نسبة، أو حاصل قسمة الناتج المحلي على عدد السكان. بمعنى أنه معدل حسابي إن أُخذ منفصلاً يُخفي أكثر مما يُظهر. ولذلك ابتدع الاقتصاديون كثيراً من المؤشرات الاجتماعية والنسب لقياس عدالة التوزيع. ولعل أشهرها هو منحنى لورنز. ومن هذا المنحنى تظهر لنا نسبة مثيرة، نتيجة قسمة مجموع دخول أعلى 10 في المئة من السكان على دخول أدنى 10 في المئة من السكان. وهذه النسبة تساوي حوالي 1:5 في الدول العادلة مثل الدول الإسكندنافية، و1:7 في بعض الدول في شمال أوروبا وجنوبها. وتسوء في الدول النامية، حيث تصل في بعض الدول العربية إلى 1:70، وفي الأردن قد تصل 1:25. والمعضلة أنه ليس لدينا مسوحات حديثة عن توزيع الدخل في الأردن. وفي السنوات الصعبة مثل العام الجاري قد ترتفع النسبة إلى 1:25، وهذا توزيع غير سوي للدخول.

النتيجة التي يمكن الخلوص إليها أن عدالة التوزيع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتنمية المستدامة. أما الاعتماد على وجود طبقة محدودة مرفهة، وجماهير من الفقراء، فهذا قد يحقق التنمية لفترة قصيرة، وهو أشبه بالبئر الجافة، عندما تُلقي فيها حجراً فإنك لا تحصل سوى على صوت ارتطامه في قاع البئر.

لا يجوز التسرع في الحكم على الناتج المحلي الإجمالي، بل يجب التعامل معه بانتباه، والبحث عن بقرة مقدسة جديدة غيره، فهو أفضل الموجود كمؤشر على النشاط الاقتصادي.

النمو المتوقَّع وتوزيعه بين فئات الشعب
 
01-Mar-2010
 
العدد 9