العدد 9 - الملف
 

التقى فريق من ے، وزير الداخلية نايف القاضي في مكتبه بوزارة الداخلية في حوار امتد قرابة ساعة ونصف، خرج منه الفريق بحصيلة دسمة حول أكثر الجوانب السياسية والأمنية التي تشغل البلاد هذه الأيام، من الانتخابات النيابية وقانونها الذي يجري العمل على إعداده إلى الحملة الأمنية المستمرة التي تغطي المناطق والبؤر الساخنة وحتى الأقل سخونة.

أعد الحوار للنشر: حسين أبو رمّان

القاضي شخصية دبلوماسية دمثة، لكن الإعلام لا يعكس هذه الصورة. فإن لم تكن تعرفه، وقرأت له تصريحات في الصحف، تخرج بانطباع أنك أمام مسؤول تقليدي متشدد. غير أنه في الواقع يُبدي خبرة دبلوماسية امتدت إلى نحو عقدين، ويتحلى بأدب الحوار والإصغاء إلى الآخر.

القاضي يحمل رؤية واضحة ومحددة يدافع عنها بقوة حين يتعلق الأمر بالأردن وتحولاته الداخلية والديمقراطية وحركته في الإقليم.

وهو مثل أبناء جيله من الأردنيين الذين وقفوا سياسياً وعاطفياً مع العرش الهاشمي على امتداد أربعة عقود منذ مطالع الخمسينيات من القرن الفائت، حيث كانوا يؤمنون بأن العرش مهدد باستمرار من قوى خارجية تحرّك فئات وأفراد ضد البلد وضد العرش.

لهذا السبب يربط القاضي ورموز عديدة من أبناء جيله بين توسيع المجال العام عبر دمقرطة التشريعات وإتاحة مجال أوسع للناس للانتظام في أحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وبين تكاثر حالات الخروج عن القانون حدّ الجريمة، والنشاط السياسي الذي يخشون أن يهدد الاستقرار.

بناء على ذلك كلّه، حينما يتم الحديث مع القاضي في موضوع تحديث التشريعات لإفساح المجال أمام تأطير حركة المجتمع ضمن مزيد من الانفتاح السياسي، يقول في مداخلته: أريد ضمانات ولا أريد رؤى مفكرين لا يمكن تطبيقها، أريد ضمانات لأن الأمور يجب أن لا تعود إلى الخلف.

من هنا يتموضع القاضي سياسياً مع أقرانه من النخبة السياسية الذين عملوا في الدوائر السياسية العليا، يأخذون مواقف سياسية ضد المنظومة التي ترى أن مزيداً من الانفتاح يؤدي إلى مزيد من الاستقرار وتحسين قدرة المجتمع على فرض سيادة القانون.

لكنّ لدى القاضي في الوقت نفسه التزاماً في الدفاع عن هيبة الدولة. وفي أحداث العنف الجماعي في الصيف الماضي، كان ضد أن تدفع الدولة تعويضات للأضرار التي يتحمل مسؤوليتها أفراد أو جماعات. وكان مع اعتقال الخارجين على القانون، وكان من أكثر المسؤولين حزماً في تطبيق القانون وصد محاولات كثيرة لتكفيل المطلوبين.

في الوقت نفسه، لا يقبل القاضي النقد للسلوك العشائري بمختلف تفرعاته، وهو لديه إجابة حاسمة بأن السلوك العشائري ليس سوى ما تربى عليه من عادات وأعراف حميدة، وبالتالي، فإن أي حركة جماعية تحركها هوية فرعية من مثل تحرك عشائر ضد أخرى وكسر القانون، يرفض بمنهجيته الخاصة أن يسميها تحركاً أو سلوكاً عشائرياً.

وبذلك يضع القاضي وأقرانه من النخبة السياسية في تعارض مع جيل جديد بالمعنى السياسي للكلمة انبثق منذ انفراج العام 1989 تحت مظلة عقد اجتماعي جديد مثّله الميثاق الوطني الصادر في العام 1991، والذي أدخل كل مكونات المعارضة، أحزاباً وقوى وشخصيات تحت سقف الدولة الأردنية التي انخرطت في عملية تحول ديمقراطي منذ انتخابات 1989.

وهؤلاء يتبنون نظرية سياسية اجتماعية مغايرة مفادها أن تعميق الديمقراطية والوصول إلى مجتمع يقوم على المواطنة وسلطة القانون وتسوده العدالة وفضاء عام غير مقيد، يؤسس لاستقرار سياسي مستدام.

ورغم أن المسار الديمقراطي لا يسير بثبات في طريق مستقيم، إلا أن الأردنيين لا يمتلكون سوى الأدوات التي جربتها شعوب أخرى مرت بمراحل انتقالية مثل التشيلي وغيرها، وهي الاحتكام إلى دولة القانون والمؤسسات، والاحتكام إلى سيادة القانون والمواطنة لتنظيم علاقة المواطنين فيما بينهم وعلاقة الفرد منهم بالدولة.

لم يسلّم القاضي بوجود خلاف حول قانون الصوت الواحد، ويقول إذا كان الأردنيون يريدون الصوت الواحد، فنحن وأنتم معه. وإذا أراد الأردنيون شيئاً آخر سنكون معهم أيضاً. وتابع قائلاً:

في كل الأحوال، لن نفرض رأينا على ستة ملايين ونصف أردني. هذه لغتنا على مدى العشرين سنة الماضية، فنحن دولة لها اعتباراتها، وشعب له تجربته.

نريد أن تكون الانتخابات القادمة مرضية لكل أردني، وأن يتحقق ما نطمح إليه ضمن ما هو مسموح به في الدستور والقانون. وسيكون موعد الانتخابات حتماً في الربع الأخير من هذا العام، وربما بعد شهر رمضان مباشرة. اللجنة الوزارية العليا اجتمعت حتى الآن اجتماعين، لكن وزارة الداخلية تعمل ليل نهار لتحضير ما هو جديد بكل توصيفاته. ويتركز جهدنا على تحسين الإجراءات ذات الصلة بالعملية الانتخابية وتبسيطها بالكامل. وسنلغي تقريباً كل ما من شأنه أن يعرقل ذهاب المواطن إلى صندوق الاقتراع، ما يعني أن أموراً كثيرة ستصبح أكثر سهولة.

ونعمل الآن على تجميع الآراء التي تصل من كل الجهات. لا نستطيع أن نفرض رأينا على كل الأردنيين. ومن المتوقع أن تكون التعديلات على قانون الانتخاب جاهزة بخطوطها الأساسية بشكل كامل مع نهاية نيسان/أبريل القادم.

الموضوع المحوري في حوار ے مع وزير الداخلية كان يستهدف إجراء قراءة معمقة لمسألة المناطق الساخنة وتفاقم ظواهر الخروج على القانون. وقد اتيح لنا أن نقلّب هذه المسائل من وجوه عدة في مداخلة الوزير المطولة بهذا الشأن:

في المرحلة الأخيرة، وخاصة في السنوات الخمس الفائتة، وجدنا فهماً خاطئاً لدور الدولة بضبط النظام والقانون في البلد، فإذا تشددنا في موضوع الجريمة والمجرمين، ُيفسر ذلك بأنه يُفقدنا هيبة الدولة. ومع ازدهار هيئات المجتمع المدني، صار العالم يصور أي موقف لنا إزاء شخص موقوف، بأنه ضد الحريات. هذا أدى إلى بعض التقاعس من قبل أجهزتنا لملاحقة المخالفين. فزادت عمليات التهريب، والتجاوز على القانون، والجريمة. وكانت أجهزتنا في الحقيقة آنذاك في ضيق إداري لأننا لم نكن نستطيع التصرف بأريحية.

في الفترة الأخيرة، زادت الأمور سوءاً، وشعرنا أن هناك تجاوزاتٍ خطيرة وخاصة من جماعات الخارجين على القانون وأصحاب السوابق. ومشكلتنا مع أصحاب السوابق تكمن في موضوع التوقيف الإداري الذي هو من حق الحاكم الإداري، وهو ما ترفضه كلياً منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني وأحزابنا ونقاباتنا، وينعتون ذلك بأنه عرفي.

لكن ما يحصل، أن أحدهم يُخرج من السجن اليوم، مثلاً، فيجد الحاكم الإداري أن هذا الشخص يعتزم تنفيذ جريمة قتل بحق ابن عمه، فيقوم باحتجازه بالاستناد إلى معلومات موثوقة، فتقوم القيامة ولا تقعد. ثم يأتي القاضي في اليوم الثاني ليطلب إطلاق سراحه. والقضاة في هذه الناحية منصفون ومنفتحون ومتحمسون، ولا يريدون أيقاف أحد أكثر من خمس دقائق.

بعد أحداث حي الطفايلة، تم في ليلة واحدة إحضار 32 شخصاً من أصحاب السوابق المعروفين لنا ممن كسّروا السيارات والمحلات واعتدوا على الناس، وأُرسلوا إلى الحاكم الإداري، وبعد نصف ساعة جاء المدعي العام وأطلق سراحهم جميعهم. وعندما تحدثت مع المحافظ، قال لي «شوفة عينك»، لو قلنا لهم لا، ستقوم علينا القيامة. هذه بعض الأمور التي ساعدت في الوضع الذي نحن بصدده. لكن الوضع لم يعد محتملاً، وأمام صيحات الناس والمسؤولين، بدأنا بتنظيم حملات القاء القبض على المطلوبين.

في الحوار معه حاولت ے الوقوف على ملامح ما يمكن تسميته بالعقيدة الأمنية التي تحكم التعامل مع المناطق الساخنة، وآلية تنفيذ الحملة الأمنية للقبض على المطلوبين، ووفّرت مداخلات القاضي أبرز عناصر هذه العقيدة:

لقد اتفقنا أن تتم عمليات القبض على المطلوبين بطريقة هادئة لا تثير أي انتقادات. فالقوة الأمنية مطلوب أن تذهب خفية، بطريقة انفرادية، وفي وقت ملائم، دون إثارة الناس من حول المطلوبين، سواء على صعيد عائلاتهم أو في الشارع، وذلك من أجل القبض عليهم بأبسط الطرق وليس بأعقدها، ودونما حاجة لاستخدام القوة في أي ظرف من الظروف.

بدأنا بهذا الكلام في معان، واستطعنا أن نقبض على عدد هائل من المطلوبين. والحقيقة أن العائلات والأسر المعانية، كانوا يحضرون المطلوبين الذين يستطيعون إحضارهم، ويسلمونهم بكل احترام. ومع أن هذا الجيب كان يشكل عبئاً أمنياً في السنوات السابقة بصفته كان خارجاً عن سيطرة الأمن مرات كثيرة، وجدنا أن الناس هناك هم الأقرب إلى القبول وتفهم هذه العمليات. انتقلنا بعد ذلك إلى الشونة الجنوبية وكانت الأمور جيدة وحصلنا على رضا غير طبيعي من الناس، وعلى تأييد وتشجيع منهم.

الحملة الأمنية مستمرة ولن تنتهي. والأهالي يطالبون ببقاء الدوريات وأن تصبح ثابتة، لأنهم تنفسوا الصعداء، بعد أن تأكدوا أن الخارجين على القانون الذين كانوا يرونهم في الليل والنهار بأعينهم، أصبح بالإمكان ضبطهم.

وأمام إلحاح ے في شأن الاستفسار عن الرؤية الأمنية المتكاملة، شدّد القاضي على أن هذه الرؤية تنطوي على الحفاظ على الأمن الوطني بمفهومه الشامل، والحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين بالتفاعل المستمر مع مؤسسات المجتمع المدني، وأضاف:

سوف يتم في المرحلة القادمة بعد تطبيق اللامركزية، إيلاء المحافظين دوراً في الإشراف والمتابعة لخطط التنمية. فالعلاج بعيد المدى لبؤرة مثل معان تتم بإقامة المشاريع التنموية فيها، بحيث يستطيع أي شخص بدل الاعتماد على تاجر المخدرات أو عصابة التهريب، أو الدخول من بوابة التعصب أو التطرف، أن يصبح مواطناً مسؤولاً يسلك السلوك الاجتماعي الصحيح حتى يعيش وتعيش أسرته بكرامة.

رسالتنا ليست جديدة، فهي رسالة مستمرة وواضحة، والهدف أن تصل إلى المواطن ومؤسسات المجتمع المدني التي يجب أن تكون شريكة في الحفاظ على أمن الوطن والمواطن.

لقد تعلمنا شيئاً جديداً وهذا منهج سياسي أردني هو مبدأ الشفافية الذي يتحدث فيه سيدنا وحكومتنا كلها. وسنكون واضحين في ما يتصل بسلامة وأمن المجتمع.

الخطط الأمنية هدفها اجتثاث الجريمة وتطبيق النظام والقانون. وفي المستقبل ليس عندنا وسيلة أخرى سوى التنمية، والتنمية يكون أساسها التعليم، فالتعليم هو الذي ينقذ أي بلد من كل المشكلات التي يمكن أن تعيق حياته أو تطوره أو تقدمه إلى الإمام.

لقد طلب منا سيدنا أن نكون جديين وأن نكون شفافين، وفي نهاية المطاف هناك مساءلة. والمساءلة تنطبق على المسؤول أكثر من المواطن.

حينما حملت ے سؤالها المباشر له، حول الحملة الأمنية، مهد القاضي لرده بمرافعة تاريخية حول مسار تطور الدولة الأردنية والتحديات التي واجهتها، قال فيها:

نحن ورثنا عبر السنوات الماضية مجموعة المخالفات والخروج على القانون والنظام. والحقيقة أنه يجب أن نعترف كدولة أن قضية الديمقراطية بالنسبة للأردني لم تكن قضية مفاجئة. فقد عاش جيلي موضوع الديمقراطية منذ الخمسينيات، وتوقفنا عندها. وكانت الأحزاب السياسية في تلك الحقبة تعمل على قدم وساق.

وبعد انتهاء تلك المرحلة، دخلنا مرحلة ضبط أنفسنا خلال عقدين من الزمان، تعود الأردنيون خلالها على نظام منفتح، لكن برزت حولنا أنظمة ديكتاتورية. وحتى نحفظ أنفسنا من الانقلابات من حولنا، والتي كان يمكن أن نتأثر بها، بخاصة أن شعبنا حيوي وغير معزول، وكان معظمه عنده توجهات قومية، أو أممية يتبناها الشيوعيون، إضافة إلى أحزاب دينية أو أحزاب ترفع شعار الإسلام من جماعة الإخوان المسلمين إلى حزب التحرير.

كل هذا ترك أثره ما بعد الستينيات، ثم دخلنا مرحلة السبعينيات وكانت سنوات عجافاً. ودخل إلى الأردن في تلك المرحلة 52 منظمة كلها تتبع جهات غير أردنية. وبقينا منذ أواسط الخمسينيات حتى أوائل السبعينيات تحت تأثير تلك المرحلة التي خلّفت وراءها أشياء كثيرة، نجم عنها وجود بطء أو عجز في تطبيق القانون خاصة في المواضيع الأمنية.

أما بالنسبة للأمور السياسية، فقد كنا مرنين؛ منفتحين في فترات ومتشددين في فترات أخرى. لكن موضوع التجاوزات على القانون وعلى النظام من بعض الجهات بقي يراوح مكانه.

على خلفية ما أثاره القاضي بشأن عدم التفريق بين نشاط المجتمع المدني وزيادة أنشطة الخارجين على القانون، ارتأت ے أنه لا يمكن مقارنة النشاط الديمقراطي للمجتمع المدني مع دخول الخارجين على القانون في الفضاء العام، لكن القاضي كان له رأي آخر:

نحن لا نستطيع أن نفصل بين الأشياء. فإذا أنا أعطيت مدىً لحرية معينة، فإن الكاتب والأديب والمفكر ينشط ويعطي، فيما يصبح الحرامي أكثر قدرة على السرقة ومخالفة القانون. مجتمعنا الأردني حينما كان مجتمعاً صغيراً، كنا نعرف فيه بعضنا بعضاً، كنا نستطيع أن نتخاطب معاً حتى في فترات القلق السياسية والاجتماعية، وكنا نسيطر على أمورنا بسرعة متناهية. لكن نحن الآن أمام مجتمع تغيّر كلية، وكبر كليّة.

فلمّا بدأنا وحدتنا مع إخواننا الفلسطينيين، لم نكن نتجاوز معاً 550-600 ألف نسمة. أما الآن فقد ارتفع عدد السكان إلى 6.5 مليون نسمة. وعندنا إلى جانب ذلك، أكثر من مليون ونصف من الرعايا العرب والوافدين من عراقيين ومصريين وسوريين وفلبينيين وسيريلانكيين وغيرهم. وفي ظل حيوية المجتمع، وخطنا المنفتح في الديمقراطية بمفهومها السياسي، تصبح هناك فرصة لمن يرغب في مخالفة القانون.

الربط الذي أجراه القاضي بين توسع الجريمة وتوسع المجال العام، استدعى سؤالاً آخر عن العلاقة بين البؤر الساخنة والديمقراطية في بلادنا، ما دام أن منطقة ساخنة مثل معان مشكلتها قديمة. القاضي قال إن هذا صحيح، لكنه أضاف:

يجب أن لا ننظر للجانب السياسي فقط، بل يجب أن ننظر إلى الجانب المجتمعي أيضاً. هناك مناطق في الأردن كانت على الدوام ذات أبعاد خاصة بها، منعزلة أو حصرية أو منغلقة على نفسها. فالرمثا اشتهرت مثل معان بكونها منطقة حدودية، المعانية والرماثنة كانوا يحلّون معظم مشاكلهم في السعودية وفي سوريا. حتى إن «البحّارة» في الرمثا يتصرفون باعتبارهم اصحاب حقوق مكتسبة، وهذه الحال لا بد لكل حاكم إداري في المنطقة أن يدركها، لأنها قائمة منذ 50 سنة. ولذلك كان أهالي هذه المناطق يتصرفون باعتبارهم خارج القبضة المفاجئة.

سحاب مثلاً، هي من زمن بعيد أقرب لمعان والرمثا، وهذا له أساس اجتماعي. مناطق اللبن مناطق مغلقة منذ زمن. والأمر نفسه ينطبق على الشونة الجنوبية.

ثم وقع هناك تغير على المستوى الاقتصادي، وأصبحت هناك تفاوتات معينة، وبرزت كذلك حاجات معينة، فحافظت مناطق على فاعليتها التهريبية، ودخل عليها جماعة المخدرات والحرامية، لكنها الآن بعين الدولة وبعين الأمن العام وأجهزة الرقابة. صحيح أننا نلقى شيئاً من المقاومة لكننا بحاجة فقط إلى القليل من الصبر.

مقابل رؤية أن المخاوف من الانفتاح في الخمسينيات والستينيات كان لها ما يبررها، بينما لا يوجد إثبات مادي الآن بأن مزيداً من الانفتاح السياسي سيؤثر على الاستقرار السياسي في البلاد، وأنه رغم وجودنا في إقليم عاصف، إلا أن نظامنا أقوى مما يبدو، علّق القاضي على ذلك بالآتي:

نحن واقعيون. المفكر يسبق غيره في رؤيته للأشياء، لكنه لا يعطيك رأياً حاسماً أين يمكن أن تنتهي الأمور. المسألة تختلف بالنسبة للمسؤول الذي يتحوط لكل الضمانات حتى لا تفشل خطواته.

حدود مسؤولية رجل الدولة تنتهي عند مسؤولية الأعلى منه. أما المفكر فيطرح رؤيته وأفكاره، لكنك لا تضمن تطبيق أي منها في المستقبل.

نحن نريد أن يدرك الناس وضعنا وإمكاناتنا في الأردن، وحالة التهديد المتواصل التي نعيشها مع الجوار. فهي من أخطر ما يمكن أن يواجهه شعب أو دولة. لقد صار لنا 62 سنة، ونحن نعيش واقع الاحتلال إلى الغرب منا، فقد نشأنا في خطر. نحن بلد يلغي أعراسه وأفراحة أمام كل حادث خطير في فلسطين.

في مناقشته ما أكدته ے من أهمية سيادة القانون كناظم للعلاقة بين الناس في معالجة المشكلات الأمنية التي تواجهها البلاد، أشار القاضي إلى أن القرار الأمني له أبعاد سياسية، لكنه شكا من حساسية بعض الأطراف في تفسير الأمور، وتوقف في هذا السياق أمام موضوع فك الارتباط والجنسية ليوضح ما يلي:

هذا قرار سيادي صدر العام 1988 استجابة لقرار الأمة العربية وطلب منظمة التحرير الفلسطينية، ونحن في الأردن قبلناه قسراً في تلك الفترة. واستثني من تطبيقه الأردني من أصل فلسطيني، على أساس أن يطبق القرار على أبناء الضفة الغربية والقدس الموجودين على أرضهم، وأبناء قطاع غزة لاحقاً. كان الهدف تثبيت الأهل في الضفة والقدس في أراضيهم لأن إسرائيل كانت تعمل منذ فترة طويلة على إقامة المستوطنات، وجلب المستوطنين اليهود من الاتحاد السوفييتي السابق وغيره وزرعهم في الأرض الفلسطينية.

بالنسبة للفلسطيني الأردني، فحقوقه كأردني ليست موضع نقاش، لكن يوجد هناك جهات وناس تحرض أبناء الضفة الغربية الذين هم تحت الاحتلال على أخذ الجنسية الأردنية وحقوقها في الأردن، بينما نحن نريد تثبيتهم على أرضهم. نحن نقول للإخوة في الضفة الغربية من يرغب بالقدوم للإقامة في الأردن أهلاً وسهلاً به، وإذا كان يريد جواز سفر مؤقتاً للذهاب إلى أي مكان في العالم، فنحن جاهزون لتوفيره له. لكن نحن لا نريد أن نكون سبباً في حرمانه من حقه في فلسطين وفي القدس، هذا موضوع حسمناه في العام 1988 حسماً كاملاً.

الأصوات التوطينية ارتفعت مع المطالب الإسرائيلية، يريدون تحويل البلد إلى فلسطين، وإبعاد الفلسطينيين عن أرضهم، بمن ذلك العرب في إسرائيل. وهناك جهات مشبوهة هدفها التفريق بين الناس في الأردن وضرب وحدته الوطنية، ومحاولة تهجير الفلسطينيين حتى من القدس التي أصبحت فيها أعدادهم قليلة بمن في ذلك المسيحيون الذين باتت نسبتهم ضئيلة فيها. ولذلك نحذر من كل هذا، ومن إبعاد الناس من هناك.

إن أي إنسان أردني أو عربي أو مسلم مخلص، يجب أن لا يسير وراء الدعوات التوطينية التي تقودها إسرائيل في الكنيست وخارجه. ونحن نطبق قرار فك الارتباط منذ العام 1988، ونقول روحوا شوفوا كم من الناس حصلوا على البطاقة الصفراء مقابل الخضراء، لتتأكدوا من أن نوايا البلد طيبة وموقفها صادق. لكن هناك موقف رمزي كنا نمارسه لتثبيت الفلسطيني على أرضه، حتى لا نسهم في عملية التوطين. وفي كل الأحوال، نحن لا نطبق إلا القرار الصحيح، في مصلحة فلسطين أولاً والأردن ثانياً، فمصلحتنا مشتركة ولا يوجد قوة يمكن أن تفصم عراها.

استناداً إلى توجيه القاضي أصابع الاتهام إلى ما أسماه مشبوهين، ذكّرته ے بأنه تحدث أيضاً قبل فترة في تصريح له عن جهات تتسلم صرراً من الخارج، فسألَتْه إن كان عنده، كونه وزير الداخلية، ما يدين هؤلاء، فكان الجواب:

نعم. وأود الإشارة إلى جهات انتقدت في تلك الفترة ما صرحنا به، وعادت لاحقاً وقالت لقد ثبت الآن أن كلام وزير الداخلية الذي لم نصدّقه عندما تحدث عن هؤلاء الناس، صحيح. نحن نعرف هؤلاء، لكن لا نفكر بإعلان ذلك على الملأ، وإلا أصبحنا غير الأردن، ونحن لا نريد أن نعمل هزات في المجتمع.

لاحظوا مثلاً أنه تم توقيف اثنين قبل أيام، وكان كل الجيش العربي مستاء وغاضباً من موقفهما ومن النعوت التي أطلقاها على الشهيد الشريف علي بن زيد وعلى القاتل الأردني. والمتقاعدون العسكريون هم الذين رفعوا الدعوى ضدهما أمام الجهات القضائية، وليس الحكومة. ومع ذلك، تدخلنا وأفرجنا عنهما، تنفيذاً لرغبة سيدنا بعدم توقيف أي كاتب أو صحفي على خلفية قضية رأي. وجلالة الملك يطالبنا بتعديل القانون وشطب ما يتيحه من توقيف الصحفي في قضايا رأي.

خصّ القاضي موضوع حرية التعبير لدى الصحفيين، ثم مشاركة الأردن في قوات حفظ السلام وفي محاربة الإرهاب جانباً من الحوار، حيث قال:

هذه الحكومة ليس لها أي موقف مسبق من أي صحفي في المملكة. وواهم من يعتقد أن بإمكانه تحريض الحكومة ضد الصحفيين. نحن في قارب وطني واحد، ولا نسمح لأي جهة أن توقع به تلفاً. وإذا كان هناك قضايا مطروحة، فلتواجهنا الصحافة بها ونحن سنرد، أما إذا وجدنا في الصحافة أشياء مشوشة، فإننا سنقول رأينا، لا بل إن دولة الرئيس أضاف في مؤتمره الصحفي، 18شباط/فبراير 2010، بأنه ليس لدى الحكومة إلا الموقف الإيجابي تجاه أي صحفي أو صحيفة أو موقع إلكتروني، متجاوزاً قولي بأنه ليس لدينا موقف سلبي من الصحافة.

نحن نريد أن نكون في الحكومة شركاء مع الصحافة في إيصال حقيقة الموقف الأردني الداخلي والخارجي إلى المواطن بكل موضوعية، وليس لدينا ما نخفيه. عندما سُئلنا: ماذا نعمل في أفغانستان؟ شرحنا ماذا نعمل، وقلنا إننا شركاء لكل طرف في العالم يقاوم الإرهاب. ونحن سنقدم بقدر ما نملك، لكن لن نقف مكتوفي الأيدي بانتظار أن يصل الإرهاب إلى عقر دورنا ليقتل أطفالنا ونساءنا ويهدم فنادقنا.

مشاركتنا في قوات حفظ السلام تعود إلى الستينيات. جاءني وفد فنلندي قبل أيام قال إن بلدهم بعثت قوات دولية إلى قناة السويس في حرب 1956 تعدادها 20 ألفاً. قلنا لهم نحن، وإن كنا دولة صغيرة، موجودون منذ تلك الأيام في كل أنحاء العالم للإسهام ضمن قوات حفظ السلام في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، حتى لا نكون ضحية لتطورات الوضع في العالم والمنطقة عبر العقود الخمسة الماضية. ونحن لا نتخفى خلف أصابعنا، جنودنا الذين نبعث بهم إلى الخارج ليسوا مرتزقة، هؤلاء أبناء الأردنيين والأردنيات القادمين من كل مدينة وقرية وبيت شعر يتوزعون في العالم من هاييتي إلى أفغانستان. فنحن لنا دورنا، ولولا هذا الدور لفقدنا أشياء كثيرة.

في حوار موسَّع مع وزير الداخلية القاضي: الانتخابات بعد رمضان والقانون أواخر نيسان والحملة الأمنية مت
 
01-Mar-2010
 
العدد 9