العدد 3 - العالم
 

خلال الأشهر القليلة الماضية، قامت منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية بتوثيق العديد من انتهاكات قوانين الحرب، التي يرقى بعضها إلى مرتبة جرائم حرب، قبل وخلال وبعد الهجمة العسكرية الإسرائيلية على غزّة في كانون الأول/ديسمبر، وكانون الثاني/يناير. ودانت المنظمة التي أمثّلها وهي «هيومن رايتس ووتش»، إسرائيل لإطلاق النار وقتل مدنيين فلسطينيين يرفعون الرايات البيض، وللاستخدام غير المشروع لذخيرة الفوسفور الأبيض، مثلما دانت «حماس» لإطلاق الصواريخ دونما تمييز على مناطق مدنية في إسرائيل.

وقد رفض مسؤولون في إسرائيل و«حماس» على السواء هذه الانتقادات بوصفها متحيّزة ولا أساس لها، ولم يعرب أيّ من الطرفين عن استعداده لإجراء تحقيق فوري وشامل ونزيه حول هذه المزاعم، بحسب ما يقتضيه القانون الإنساني الدولي. كما لم يُبْدِ الطرفان رغبة في محاسبة المسؤولين عن إصدار الأوامر، أو القيام بتنفيذ الهجمات ضد غير المقاتلين، وذلك عبر مقاضاة منصفة وذات مصداقية.

تكمن أهمية إجراءات التحقيق والمقاضاة في أنها تضمن احترام المبدأ القانوني الخاص بالتمييز والذي يحكم قوانين الحرب - الذي يوجب على الأطراف المتحاربة، سواء أكانت جيوشاً نظامية أم جماعات مسلحة - أن تميّز على الدوام بين المدنيين والمقاتلين، وأن لا تُقدم على الإطلاق على استهداف المدنيين أو إلحاق الضرر بهم عشوائياً، وعندما تحدث انتهاكات خطيرة في هذا المجال، فإنّ من الضرورات الجوهرية إقرار العدالة للوصول إلى الحقائق، وتوفير آلية شرعية لإنصاف الضحايا، وتأديب المسؤولين عن الانتهاكات أو معاقبتهم.

كما أن إجراءات التحقيق والمقاضاة قد تردع السلوكيات غير القانونية، وتحمي المدنيين من الهجمات المدبّرة المتهورة، ومن الأمثلة المشهورة على الآثار الإيجابية للتحقيقات، ما شهدناه في العراق، ففي الفترة التي سبقت أوائل العام 2006، عندما تولى الجنرال «بيتر تشياريللي» قيادة عمليات الجيش الأميركي اليومية، أفادت التقارير عن قيام جنود الولايات المتحدة بقتل المدنيين العراقيين على نقاط التفتيش بمعدل يقارب قتيلاً في اليوم الواحد. وبعد أن أمر الجنرال «تشياريللي» بالتحقيق في حوادث إطلاق النار القاتلة تلك جميعها، انخفض معدل تواترها بنسبة 85 في المئة.

عندما تخفق الدولة في ممارسة التزاماتها بالتحقيق في المزاعم حول ما ترتكبه قواتها من أخطاء، فإنّ التحقيق والمقاضاة الدوليين هما البديل. وذلك هو المبرر الذي دعا إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، بيد أن إسرائيل ليست من الموقّعين على نظام روما الأساسي (الذي أُنشئت على أساسه المحكمة الجنائية الدولية العام 1998)، كما أن السلطة الفلسطينية قد لا تتمتع بمكانة ما في أوساط المحكمة، وذلك يعتمد على الكيفية التي سيختار فيها المدّعي العام للمحكمة أسلوب التعامل مع العريضة التي ستقدمها السلطة الفلسطينية وتطالبه فيها بالنظر والفصل في الدعاوى المتصلة بالحرب الأخيرة.

وإذا ما رفض ادعاء المحكمة عريضة الدعوى التي تقدمها السلطة الفلسطينية، فإنّ بوسع المحكمة الجنائية الدولية نفسها أن تتولى النظر، والفصل في الدعوى إذا قام مجلس الأمن الدولي بإحالة مسألة الوضع في غزّة إلى المحكمة الجنائية الدولية، مع أنه سيتعذر إتمام هذه الإحالة سياسياً، بالنظر إلى سلطة الفيتو التي يتمتع بها الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن.

الجسر المحتمَل لضمان إقامة العدالة هو لجنة تقصَّي الحقائق التابعة للأمم المتحدة التي يرأسها القاضي «ريتشارد غولدستون» من جنوب إفريقيا، التي من المقرر أن تعلن نتائجها وتوصياتها في أواسط أيلول/سبتمبر 2009 ، وكان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد أنشأ هذا التحقيق في كانون الثاني/يناير الماضي، ولكن بسبب التحيّز الصارخ في بنود التكليف بهذه المهمة - أي النظر في الانتهاكات الإسرائيلية المزعومة فحسْب - لم يوافق أيٌّ من المحققين المعروفين بحسن السمعة على المشاركة فيها. وفي أواخر آذار/مارس، وافق القاضي «غولدستون» على ترؤس التحقيق بعد أن أعيد التفاوض حول طبيعة التفويض ليشمل الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبها الفلسطينيون أيضاً. ومع ذلك، فإنّ إسرائيل رفضت التعاون، غير أن فريق «غولدستون» بعد أن نجح في الوصول إلى غزّة عبر مصر، استمع إلى شهادات من الإسرائيليين (وفلسطينيين من الضفة الغربية) في جنيف.

ولا نعرف طبيعة الخطوات المقبلة التي سيوصي بها فريق «غولدستون»، غير أن إحدى الوسائل المفيدة للمضي قدماً في هذه المسألة ستتمثل في قيام الأمم المتحدة بوضع آلية تتولى المراقبة والإبلاغ عن تنفيذ السلطات في إسرائيل و«حماس» لالتزامها بالتحقيق في الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبتها قوات الطرفين وبمحاسبة المسؤولين عنها لدى الطرفين. وينبغي على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الضغط على كل من إسرائيل و«حماس» لتنفيذ هذا الالتزام من أجل ضمان تحقيق العدالة بصورة ذات مصداقية حول الجرائم المزعومة.

وفي حالة إخفاق الطرفين في فعل ذلك، فإنّ على المجتمع الدولي أن يدعم، بقوة، المقاضاة الدولية.

وجه الخطر هنا لا يهدد تحقيق العدالة لضحايا انتهاكات قوانين الحرب في غزّة وإسرائيل فحسب، بل على العموم، جميع الجهود الرامية إلى ضمان محاسبة مرتكبي الجرائم الدولية الخطيرة. وقد جلبت المحكمة الجنائية الدولية على نفسها الانتقاد من جانب بعض الدول الإفريقية ودول أخرى، لأن التحقيقات وإجراءات التقاضي التي قامت بها تركزت حتى الآن على الإفريقيين مقترفي جرائم الحرب والجرائم المزعومة ضد الإنسانية، وفي مقدمتهم الرئيس السوداني عمر البشير، وإخفاق أيٍّ من اللاعبين الأساسيين، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في إقرار العدالة في جرائم خطيرة اقترفها حليف لهما مثل إسرائيل، سيؤدي إلى تعزيز الإدراك بأن لقوانين الحرب عواقبها على مَن لا أصدقاء أقوياء لهم، دون غيرهم.

هل من سبيل لتحقيق العدالة لضحايا حرب غزّة؟
 
01-Sep-2009
 
العدد 3