العدد 9 - محلي
 

بدا عليه الهدوء بعد «عاصفة التوجيهي» التي ثارت قبل عشرة أيام من لقائنا به. فالهدوء وصفاء الذهن صفتان ملازمتان لإبراهيم بدران كما يؤكد الذين زاملوه وعرفوه من قرب.

ثقافته الواسعة، وانتشاره في الفضاء العام عبر ثلاثة عقود، جعلا منه شخصاً «حاضراً» وفاعلاً في الفكر والبحث العلمي والأكاديميا، وفي اجتراح سُبل جديدة لتطوير مستوى التعليم في البلاد.

بدران الذي جاءته الوزارة متأخرة بحسب ما يرى مقربون وأصدقاء، يمتلك رؤية إستراتيجية للإصلاح والتحديث، ونظرة ليبرالية تقدمية تكشفها كتاباته ومواقف. لكن الزمن وحده كفيل بإثبات إن كان يستطيع أن يوظّف كل عوامل النجاح في سياق النهج الذي يقوده.

ے: أنت معروف بوصفك مفكراًَ وصاحبَ رؤى تنويرية، بعيداً عن مركزك المهني وزيراً للتربية والتعليم، كيف ترى التحديات التي تواجه واقع التعليم في الأردن؟

- التحدي الأساسي هو إعادة المدرسة لتكون قاعدة للتغيير. في الفترة السابقة كان التغيير يأتي بقرار من جهات عليا. الآن يجب أن تعود المدرسة لتكون أحد المحركات الأساسية للنمو الاجتماعي والاقتصادي.

ے: ما الذي جعل المدرسة تفقد دورها قاعدةً للتغيير؟

- هناك حالة سائدة هي التهميش الذي يمارسه المجتمع على المدرسة وعلى المعلمين. هناك استقواء عليهما، واستخفاف بهما. على المجتمع أن يعود ليصبح شريكاً للمدرسة، وحامياً لها، وداعماً لأنشطتها.

ے: وكيف يمكن أن يتحقق ذلك؟

- لدينا الكثير من النماذج الإيجابية لمدراء مدارس ومدراء تربية استطاعوا التواصل مع المجتمع وإشراكه في دعم المدرسة وسدّ النقص المتأتي من ضعف الموارد. هناك مثلاً مديرة مدرسة الجبيهة مريم اللوزي التي جعلت من المجتمع المحلي شريكاً أساسياً للمدرسة. مديرة ثانوية الحسينية في معان فاطمة الذيابات استطاعت هي أيضاً وبإمكانات قليلة، جعلَ مدرستها نموذجاً. قبل أيام حضرتُ افتتاح مديرية عمان الخامسة، التي تبرّع لها أهالي المنطقة بالأثاث، وذلك بفضل العلاقات الطيبة التي تربطهم بمديرها.

ے: هل تمتلك الوزارة خطة عمل واضحة لتعميم هذه النماذج الإيجابية على جميع المدارس؟

- الوزارة تقدّم حوافز مثل جوائز التميز للمدراء والمعلمين، والتركيز على تأهيل المدراء والمعلمين والمشرفين التربويين. نريد الوصول إلى مرحلة تقوم فيها الوزارة بالاختيار من بين هؤلاء وليس تعيينهم، والاتجاه يقوم الآن على التركيز على عملية التدريب والتأهيل. نظام التعليم في الأردن يقع في المقدمة بين أنظمة التعليم في الدول العربية، هذه شهادة للبنك الدولي في التقرير الذي أصدره عن واقع التعليم في الدول العربية العام 2008. لكننا مع ذلك نريد له أن يتطوّر أكثر ليصبح أكثر من مجرد جواز سفر للحصول على وظيفة.

ے: لكن العاملين في الميدان يقولون إن الواقع على النقيض مما ذكره تقرير البنك الدولي، وفي مناطق كثيرة في البلاد يشكو مدراء تربية ومعلمون من تردي الأوضاع التعليمية.

- نعم، لقد اطلعتُ شخصياً على حالات كهذه. ما أقوله هو أن مواردنا محدودة، وليس لدينا القدرة دائماً على الحصول على ما نريد، لذلك علينا أن نسعى إلى تطوير ما لدينا. عندما لا يكون بمقدورنا مثلاً بناء مدرسة جديدة، فإن علينا تحسين الشروط في المدرسة المستأجَرة.

ے: ما الصعوبات التي ترى أن الوزارة تواجهها؟

- الصعوبات عديدة، إحداها مثلاً تأمين الكفاءات للمناطق النائية، فهي مناطق طاردة للمعلمين، وبالتحديد لأصحاب التخصصات العلمية مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات. هؤلاء لا يستقرّون في هذه المناطق، وهناك حركة تغيير مستمرة لمعلمي المدارس فيها، ما ينعكس سلباً على مستوى الطلبة هناك.

ے: لكن التغيير يطال المعلمين في المدن أيضاً، وإن بصورة أقل.

- نعم، لأن هناك طلباً كبيراً على المعلمين الأردنيين في الخارج، ولأن هؤلاء يحصلون على فرصهم عن طريق التنافس فهذا يعني أن من يخرج هم أفضل معلمي الوزارة، ونحن نخسر سنوياً ما يقارب ألفَي معلم يذهبون للتدريس في الخارج.

ے: ما العبء الذي يترتّب على خسارة الوزارة لهذه الخبرات سنوياً؟

- يترتّب على ذلك أن الوزارة تضخّ سنوياً ما يقارب خمسة آلاف معلم جديد كل سنة، يدخلون إلى الميدان دون مهارات مهنية.

ے: والحلّ؟

- الوزارة تقوم بتدريب هؤلاء، لكنها بصدد تطوير عملية التدريب من خلال إنشاء المركز الوطني لتطوير التعليم، وهو مركز سيتولى ثلاث مهام: تدريب المعلمين، تطوير المناهج، وتقييم الامتحانات ومؤشرات الأداء.

ے: هناك معلمون يشكون من التدريب الذي يعدّونه عبئاً إضافياً عليهم، فهو يجري بعد الدوام الرسمي، ومن دون حوافز.

- يجب أن يمتلك المعلم الدافعية لأن يطوّر نفسه، وأن يدرك أن للتقدم ثمناً ينبغي دفعه.

المطالبة بحوافز مادية مقابل التدريب غير ممكنة حالياً، وكلنا تدرّبنا مجاناً. قبل فترة أصدرت الوزارة تعميماً طلبت فيه من المعلمين تمديد دوام يوم الخميس إلى الساعة الثالثة حتى يتمكن المعلمون من عقد لقاء حواري يتباحثون فيه في الأمور التي تتعلق بمهنتهم. المعلمون ثاروا وأرسلوا شكاوى إلى الصحف، من يقرأها يعتقد أن الوزارة تريد فقط تعذيبهم، في حين أن المطلوب هو أن يطوّروا أنفسهم.

ے: ولكن كيف يمكن الطلب من المعلمين أن يمتلكوا الدافعية لأن يطوّروا أنفسهم والعمل أكثر مما هو مطلوب منهم في ظل أعباء مهنة شديدة المشقة، ورواتب متدنية جداً، إضافة إلى حقيقة أن عليهم التزامات أُسَرية؟

- ندرك أن رواتب المعلمين متدنية، وأن المهنة شاقة وتستحق ثلاثة أضعاف الراتب الذي يتم تقاضيه، وسنسعى في أي فرصة لتحسينها، لكنّ هناك ضعفاً في موارد الدولة، وإجمالاً فإن الوضع ليس بهذا السوء عند مقارنته عالمياً. ثم إننا يجب ألاّ نهمل البعد النفسي في المسألة؛ المعلمات مثلاً يحققن نتائج أعلى من نتائج المعلمين رغم أنهن لا يتقاضين رواتب أعلى.

ے: التفسير الذي يمتلكه العاملون في الميدان لهذه الظاهرة، أن المعلمات أكثر التزاماً لأنهن أكثر خوفاً من كسر القوانين كما هي حال المعلمين.

- أعتقد أن الأمر غير ذلك. المعلمات يمتلكن دافعية أكبر للعمل. هذه حقيقة.

ے: شكوى المعلمين تمتد إلى طبيعة التدريب نفسه، فهم يقولون إنه يتمّ بصورة شكلية، وليس هناك إفادة حقيقية منه.

- أعتقد أن هذا الشعور مردّه إلى وجود تكرار في المضمون، لذلك تعمل الوزارة على تطوير عملية تدريب المدربين.

ے: هناك حديث عن البيروقراطية والترهل الإداري في الوزارة، هل ثمة توجه لتمكين البلديات ومؤسسات المجتمع المحلي من المشاركة في الإشراف على التعليم؟

- الوزارة وصلت حدّاً من التوسُّع لم تعد معه قادرة على النهوض بكل المهام وحدها. عدد المدارس في المملكة 5670 مدرسة، وعدد الطلبة في المدارس الحكومية وحدها مليون و200 ألف طالب، لكن إشراك البلديات غير مطروح حالياً، لأنها خطوة تحتاج إلى إمكانيات كبيرة وكفاءات حقيقية. اللامركزية هي الحلّ، هناك مثلاً 42 منطقة تعليمية، يشرف مدير كلٍّ منها على آلاف من الطلبة والمعلمين في منطقته، ويتمتع باستقلالية كبيرة.

ے: في الفترة الأخيرة تعالت الأصوات مطالبة بإلغاء امتحان التوجيهي؟ هل تدرس الوزارة خياراً كهذا؟

- فكرة إلغاء التوجيهي ما زالت غير ناضجة، والامتحان يتمتع بمصداقية عالية في الداخل والخارج، فهو امتحان لا تدخله الواسطة، ويُعَدّ إلى حد كبير مقياساً حقيقياً لقدرات الطالب. ومن المعروف أن خريج التوجيهي الأردني يستطيع اجتياز الامتحانات الدولية والالتحاق بأي جامعة دون صعوبة. المطروح هو التخفيف من العبء النفسي المرافق للتوجيهي، مثلاً التوجه نحو حذف بعض المواضيع المكررة، أما الجوهر الأساسي للامتحان فسيبقى على حاله.

ے: هل يمكن أن يُصار إلى إلغائه في المستقبل؟

- الإلغاء غير مطروح، لأننا يجب أن نعترف بأننا لا نستطيع فصل العملية التعليمية عن الامتحان، ولكننا نسعى إلى تطوير العملية التعليمية، المعلمين والكتب وأساليب التدريس، نريد أن يكون التفكير والتحليل والتركيب هو أساس التعليم. إذا حدث ذلك فإن هذا سينعكس إيجاباً على الامتحان. الخلاصة أنه لن يكون هناك إلغاء لامتحان التوجيهي، ولكن سيكون هناك تطوير له يتم بهدوء وتدريج.

ے: وأخيراً، ما التطوير الذي تنشدونه؟

- نريد في الوزارة أن يكون ما نسعى إليه من تغيير حقيقياً، يصل إلى المدارس وينعكس بشكل ملموس على أدائها. لا نريد أن تكون عملية التطوير مجرد حركات داخلية تخدم الوزارة نفسها بها، وتقوم فقط على تحبير الأوراق والتقارير دون أن تطبَّق فعلياً في الميدان.

بدران في حوار مع ے
 
01-Mar-2010
 
العدد 9