العدد 9 - محلي
 

بعد أقل من شهر على مواجهة الحكومة مع منظمة فريدوم هاوس freedom house الأميركية على خلفية تقريرها الذي اتهم الأردن بالتراجع في مجال الحريات العامة، نشبت مواجهة جديدة مع منظمة أخرى هي هيومن رايتس ووتش Human rights watch التي أصدرت مؤخراً تقريراً سلّط الضوء مجدداً على قضية سحب الجنسية من مواطنين أردنيين من أصل فلسطيني، وأدان موقف السلطات الأردنية التي قالت المنظمة إنها انتهكت حقوق الإنسان بحرمانها مواطنين فيها من جنسيتهم.

هي معركة أخرى راوحَ فيها الأداءُ الرسمي مكانه، ولم يقدّم جديداً، فكما حدث في كل مرة، استخدمت الحكومة لغةً عاطفية انفعالية، بلغت ذروتها عندما دعا الناطق الرسمي باسمها نبيل الشريف إلى «هبّة» في مواجهة هيومن رايتس ووتش، التي ألمح إلى أن تقريرها جزء من مؤامرة على الأردن.

التقرير الذي أطلقته المنظمة مطلع شباط/فبراير 2010، بعنوان «بلا جنسية من جديد: الأردنيون من أصل فلسطيني المحرومون من الجنسية»، اتهم الحكومة بأنها خرقت قانون الجنسية الأردني للعام 1954، عندما قامت وابتداء من العام 1988، بسحب الجنسية من مواطنين أردنيين من أصل فلسطيني. وجاء فيه أن هذه العملية ارتفعت وتيرتها في السنوات الأخيرة، عندما قامت السلطات ما بين العامين 2004 و2008، بسحب الجنسية من أكثر من 2700 شخص. وبحسب المنظمة، فإن الحالات الفردية التي تحققت منها كشفت أن ذلك تمّ «بشكل متعسّف»، إذ كان هؤلاء يفاجأون باتخاذ هذا الإجراء بحقهم أثناء إنجازهم لمعاملاتهم الرسمية.

القضية كما طرحها التقرير ليست سياسية فقط، ولكنها إنسانية أيضاً، فقد أوردَ أمثلةً على العديد من الحالات الإنسانية لعائلات انقلبت حياتها رأساً على عقب عندما فقدت حقّها في المواطنة على حين غرّة، ومنها حالة درويش قواسمة، الذي وُلد في الخليل العام 1950، وقدِمَ إلى الأردن وعمره شهران، حيث عمل والده 25 سنة في الجيش الأردني.

قواسمة كان يحمل بطاقة صفراء، ولكنه لم يجددها منذ زار الضفة الغربية آخر مرة لحضور جنازة جده في العام 1984،. وعندما أراد تجديد جوازات السفر للعائلة في العام 2007، سُحبت منه الجنسية هو وأبناؤه الأحد عشر الذين وُلدوا جميعهم في الأردن.

هناك أيضاً يوسف داودية الذي وُلد في يافا العام 1939، وانتقلت عائلته إلى الأردن العام 1948، وحصلت على الجنسية الأردنية العام 1951. في العام 1961 بدأ داودية العمل مع الأونروا في عمّان، التي نقلته للعمل في الضفة الغربية العام 1968، وفي العام 1984 أعيد إلى عمّان حيث مُنح على الجسر بطاقة خضراء قيل له وقتها إنها لتسهيل تنقّله بين الضفتين. لكنه فوجئ العام 1990 بسحب جنسيته الأردنية، لأنه كما قيل له، «من حمَلة البطاقة الخضراء».

خبير القانون الدولي أنيس قاسم، الذي عمل مستشاراً قانونياً للوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن، ومؤسس الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن، قال لـے إنه بحكم عمله في سلك المحاماة اطّلع على كثير من حالات سحب الجنسية، ومنها حالة مواطنة عمرها 60 سنة تقيم في الأردن منذ 40 عاماً، أرادت استصدار جواز سفر لتعتمر، ففوجئت بسحب رقمها الوطني، وعندما ذهب زوجها ليراجع في الأمر سُحبت جنسيته هو الآخر، وتم تبرير ذلك بأن بطاقته الصفراء غير مجددة منذ 25 سنة، وقد ترتب على ذلك فقدان أبنائه وبناته وأطفالهم الجنسية، ما يعني أن عائلة مكونة من 30 فرداً فقدت دفعةً واحدة حقها في المواطنة.

قاسم الذي اتّخذ مواقف ناشطة ضد إجراءات سحب الجنسية، كشف أن الحالات الكثيرة التي اطّلع عليها من قرب، هي من التنوع والاختلاف بحيث أنه لم يتمكن «من استخلاص معايير محددة يمكن القول إن الحكومة تتبعها في إجراءاتها»، والتفسير هنا هو أن الحكومة في هذه القضية «تتخبّط» بحسب ما يرى.

هذا يؤكد ما ذهب إليه تقرير هيومن رايتس ووتش من أن الأمر لن يتوقف على من سُحبت جنسياتهم، بل إن مئات الآلاف مهددون بذلك، لأن إجراءات سحب الجنسية بحسبه، تفتقر إلى «الأساس القانوني الواضح»، وتستند فقط إلى «تفسيرات غامضة» لقرار فك الارتباط الذي صدر العام 1988.

هذا ما دعا المنظمة إلى مطالبة الحكومة الأردنية بإصدار تعليمات علنية وواضحة حول الوضع القانوني للأردنيين من أصل فلسطيني الذين يعيشون خارج الضفة الغربية، وتشكيل لجنة لمراجعة جميع الحالات التي سُحبت فيها الجنسية ابتداء من العام 1988، وإلى تقديم «تعويضات عادلة» عن الخسائر التي تكبّدها هؤلاء سواء كانت خسائر مالية، أو فرصاً ضائعة على صعيد التعليم أو العمل أو الحياة الأسرية.

المنظمة طالبت الحكومةَ الإسرائيلية أيضاً بعدم شطب الفلسطينيين الذي يعيشون في الأردن، والأردنيين من أصل فلسطيني، من سجلات السكان في الأراضي المحتلة.

اللافت في رد الحكومة الأردنية على التقرير هو ارتكازها على فرضية أن التقرير جزء من مؤامرة ضد الأردن. الناطق الرسمي الذي وصف التقرير بأنه ينطوي على الكثير من «المغالطات والادعاءات غير الصحيحة»، تساءل في تصريحات لوكالة الأنباء الرسمية بترا عن السر في تزامن «الهجمة الشرسة» على الأردن في ما يتعلق بقضية سحب الجنسية مع «المخططات الرامية لشطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين»، ودعا «مؤسسات المجتمع المدني والقوى السياسية إلى هبّة».

لكن الأسلوب الذي اتبعته الحكومة في الرد على التقرير وُوجه بانتقادات قاسية. فقد رفض العين مروان دودين في مقابلة مع برنامج «ستون دقيقة» الذي تقدمه في التلفزيون الأردني عبير الزبن، اللغةَ الاتهامية التي استخدمتها الحكومة، ورفضَ التشكيك بمصداقية هيومن رايتس ووتش، ونوّه إلى أن هذه المنظمة هي من كشف للعالم فضيحة الممارسات الأميركية في سجن أبو غريب العراقي.

في السياق نفسه، وصف قاسم الردَّ بأنه «طفولي ولا يليق بحكومة»، وتساءل عن المنطق في اتهام المنظمة باستهداف الأردن، في الوقت الذي تُصدر فيه هذه المنظمة تقارير تنتقد فيها انتهاكات حقوق الإنسان في بقاع الأرض المختلفة، كما تساءل عن المنطق في أن تتآمر -وهي منظمة حكومية أميركية- على الأردن الذي تقدّم إليه الولايات المتحدة مساعدات تصل إلى بليون دينار سنوياً، وترتبط معه بصلات أمنية وثيقة.

المفارقة أن الرد الحكومي على التقرير طالته انتقادات حتى من منتقدي التقرير، فقد كتب فهد الخيطان في العرب اليوم، 4 شباط/فبراير، يقول: «التقرير مليء بالثغرات والاختلالات التي يمكن تفنيدها بطريقة علمية ومنهجية من دون اللجوء إلى هبّة وطنية، لكن أسلوب الحكومة في الرد وضعها في موقف دفاعي ضعيف».

انتقاد آخر وُجّه إلى الحكومة يتعلق برفضها التعاون مع معدّي التقرير. فقد جاء في التقرير أن معدّيه توجهوا للحكومة مرتين طالبين تزويدهم بمعلومات، المرة الأولى في أيار/مايو 2009، والثانية في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، لكنهم لم يتلقّوا أي رد، ما دفعهم إلى اعتماد مصادرهم الخاصة، حيث التقوا بمسؤولين سابقين في وزارة الداخلية وصحفيين وناشطين في مجال حقوق الإنسان في البلاد، إضافة إلى أشخاص سُحبت جنسياتهم.

تعاوُن الحكومة جاء متأخراً؛ فبعد صدور التقرير، أعلن الباحث في قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة كريستوف ، أنه التقى وزير الداخلية نايف القاضي الذي زوده بـ«بعض الردود» عن الأسئلة التي كانت المنظمة قد وجهتها إلى الحكومة. ووفق الأرقام التي قدمتها وزارة الداخلية، فإنه مقابل 2750 حالة سحب جنسية تمت خلال الفترة ما بين 2004-2008، كان هناك في الفترة نفسها 91 ألف حالة ثُبّتت لهم الجنسية وذلك عن طريق استبدال بطاقات صفراء ببطاقاتهم الخضراء.

امتناع الحكومة عن تزويد معدّي التقرير بالمعلومات التي طلبوها أثناء إعداده، كان بحسب الخيطان العائق أمام خروج التقرير «أكثر توازناً وموضوعية»، لكن قاسم يعزو هذا الامتناع إلى عدم رغبة الحكومة في الكشف عن الخروقات التي ترتكبها لقانون الجنسية الأردني، وللقوانين الدولية التي نظمت هذه المسألة، ذلك أن المقولة التي تواصل تكرارها حول أن ما يجري هو عملية «تصويب أوضاع» تطبيقاً لقرار فك الارتباط الذي صدر العام 1988، مقولة «غير مقنعة»، لأنه من غير المعروف، كما يقول قاسم، إن كان هناك أصلاً «قرار رسمي» بفك الارتباط، فكل ما هو معروف هو «خطاب الملك الحسين الذي أعلن فك الارتباط»، ولم يعلن قطّ عن صياغة قانونية لهذا الإعلان. «القانون الوحيد الذي نُشر في أعقاب الخطاب كان ذلك المتعلق بإغلاق جميع الفروع والأقسام التابعة لمؤسسات الدولة في الضفة الغربية باستثناء وزارة الأوقاف ودائرة قاضي القضاة، وما عدا ذلك كان كله عبارة عن تعليمات غير معلنة».

انتهاك القانون لا يتوقف عند سحب الجنسية فقط، بل يتعداه إلى حرمان الأشخاص الذين سُحبت جنسيتهم من حقهم القانوني في الطعن في القرار، بحسب قاسم، وجّهت الحكومة العام 1989، كتاباً إلى النائب العام المدني التابع لمحكمة العدل العليا، منعت بموجبه قبول دعاوى تتعلق بقرارات سحب جنسية من أردنيين من أصول فلسطينية بوصف هذه القرارات «عملاً من أعمال السيادة».

ويشير قاسم هنا إلى مفارقة، هي أن شخصاً عربياً مُنح الجنسية الأردنية ثم صدر قرار بسحبها منه لثبوت جرم التزوير عليه مثلاً، يملك الحق في الطعن في القرار رغم أن القرار يكون مصادقاً عليه من رئاسة الوزراء و«موشّحاً بالإرادة الملكية» ومنشوراً في الجريدة الرسمية، في حين يُمنع الطعن في قرار سحب الجنسية من أردنيين من أصل فلسطيني، ولا يكون قد مرَّ بمثل هذه الإجراءات القانونية.

المطلوب كما كتب طاهر العدوان في العرب اليوم، 3 شباط/فبراير، هو «طيّ الملف»، فالحكومة الأردنية التي لم تتخذ مواقف علنية بسحب الجنسية في «المفاصل التاريخية» التي كان يتمّ فيها التأكيد على دور منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين، دون أن يزعزع ذلك موقف الأردن «الرسمي والشعبي في رفض الوطن البديل»، ليس عليها أن تتخذها الآن في مناخ يخيّم على المنطقة العربية، ويتّجه إلى خلق وتغذية «النزعات التقسيمية» في كل بلد.

«سحب الجنسية» على الطاولة مجدداً - الحكومة تعتمد لغة العاطفة رداً على «حقائق» هيومن رايتس ووتش
 
01-Mar-2010
 
العدد 9