العدد 9 - مساحة حرّة
 

النقاش والحوار حول إدارة الدولة والوضع السياسي العام في الأردن، يكاد يسيطر عليه سؤال واحد: ما شكل قانون الانتخاب الجديد الذي سوف تُجرى الانتخابات النيابية على أساسه؟

منذ نحو عقدين من الزمن والنقاش يدور حول تغيير قانون الانتخاب أو تعديله، وعلى مدار الفترة نفسها والخطاب العام سواء كان رسمياً أو حزبياً أو نخبوياً أو حتى شعبياً، يستخدم، وبإفراط، مفردات وتعابير مثل: عملية الإصلاح السياسي، عملية تعميق التحول الديمقراطي، ترسيخ الانفتاح السياسي ومأسسة الحياة السياسية.

ورغم التباين والاختلاف في الإطار المعرفي لاستخدام تعابير التحول الديمقراطي والانفتاح السياسي من جانب التوجهات المختلفة في المجتمع الأردني، إلا أن هنالك توافقاً عاماً على أن تحقيق هذا الهدف يجب أن يتم من خلال الدولة. ولعل التوافق على هذا يُعزى إلى عاملين مترابطين: الأول؛ أن دور الدولة في المجتمع في حالة الأردن دورٌ طاغٍ تاريخياً، فتأسيس الدولة كان أسبق من تأسيس المجتمع، كما أن الإمكانيات المتاحة للدولة مقارنة بتلك المتاحة للمجتمع أدت إلى تطوير مؤسسات الدولة الحديثة بوتيرة أسرع مقارنة بتطور التكوينات الاجتماعية، حتى أصبحت الدولة عاملاً أساسياً ومؤسسياً في إعادة ترتيب التكوين الاجتماعي، بخاصة في ظل زيادة انخراطها بوصفها لاعباً اقتصادياً في النصف الثاني من القرن العشرين. أما العامل الثاني؛ فهو ضعف الأطر والقوى الاجتماعية والسياسية الشعبية القاعدية الضاغطة من أجل إنجاز انفتاح سياسي أو تعميق التحول الديمقراطي.

وقد أسَّسَ ترابط هذين العاملين إلى أن يكون الخطاب الداعي إلى التحول الديمقراطي، سواء أكان الخطاب شعبياً أم نخبوياً، ضمن آلية واحدة هي قيام الدولة بإدارة دفة القيادة لمثل هذا التحول؛ أي أن يتم الإصلاح «من أعلى إلى أسفل». وأسهم وجود هذين العاملين وتقاعُس حتى النخبة عن التأسيس لأطر شعبية قاعدية ذات جذور تطالب بعملية الإصلاح السياسي، إلى حدّ كبير، في أن لا يكون خطاب الدولة حول الانفتاح أو الإصلاح السياسي أو إعادة بناء خريطة العملية السياسية، ضمن الأولويات الملحّة على أجندتها، بل كان في بعض الأحيان، خطاباً مكرَّساً للاستهلاك الداخلي النخبوي ولضرورات سياسية مؤقتة.

كما أدى استمرار الخطاب دون قيام أي طرف بالجهد اللازم لتهيئة الظروف لتحويله إلى إطار مؤسسي وتراكمي عملي يسهم في تحقيق أهداف التحول الديمقراطي، إلى التركيز المجزوء على بعض مفردات الإصلاح السياسي التي تختلف باختلاف الطرف الذي يتناول الفكرة، أو بحسب طبيعة المرحلة السياسية السائدة، فيصبح كل التركيز قائماً على معالجة جزئية ما، وتتعدد بذلك عناوين المرحلة، فيصبح العنوان «تمكين المرأة» ليتحول ويصبح «تمكين المجتمع المدني» في مرحلة أخرى، ثم ما يلبث أن يتغير العنوان ليصبح «حرية الإعلام». ولأن التعامل مع الإصلاح السياسي محدود الإنجاز، لا تتحول هذه العناوين الجزئية إلى عناوين ذات طابع شمولي تتناول طرح أفكار وسياسات جديدة، بل تبقى في أطر قطاعية غير مترابطة وذات قواعد اجتماعية محدودة.

عدم المضي في التحول الديمقراطي وإبقاؤه في سياقات مجزوءة له كلفة عالية على المجتمع والدولة على حد سواء. ويمكن رصد تحولين رئيسيين: الأول؛ تغليب الانتماء التقليدي غير الطوعي على الانتماء الطوعي والجمعي المرتكز على الأسس الاقتصادية والاجتماعية والفكرية للأفراد؛ أي تشطير المجتمع وتمرُّسه على أسس الانتماءات الثانوية التقليدية لتصبح هي الإطار الاجتماعي والسياسي وأحياناً الاقتصادي في العلاقة الاجتماعية البيئية أو علاقة المجتمع بالدولة.

الثاني: في ظل غياب الإصلاح السياسي الفعلي، أي ما فوق الخطابي، ضعفت المؤسسية في الدولة، وأدى ذلك إلى تعدد مرجعيات صنع القرار، بحيث ترسّخَ الانطباع أن الدولة نفسها تشطرت إلى مراكز قوى ذات أجندات مختلفة، وأحياناً متضاربة تعكس الانشطار في المجتمع.

فالإصلاح السياسي في ضوء هذه المتغيرات خرج عن إطار الترف الفكري والحوار اللانهائي حول جدواه، ليصبح المخرج الوحيد لعملية الانشطار اللانهائية، بحيث يعيد العمل السياسي إلى إطاره المؤسسي، وضمن أسس توضح المسؤولية، وتقسم الاختصاص في إطار الدولة، وفي بناء أسس جديدة لعلاقة المجتمع بالدولة، وفي معالجة انطباع أن الدولة مجزوءة ومنشطرة.

تكلفة تأخير حزمة الإصلاح السياسي الشمولي، وفي المجالات كافة، وخِيمةٌ على المجتمع والدولة، بل إن تقدير هذه التكلفة غير معروف البتة، ويمكن أن يكون الاستقرار والأمن والسلْم الاجتماعي.

وعليه، فإن الإصلاح السياسي لن يكون في إطار تغيير قانون الانتخاب فقط، على أهمية ذلك، بل يجب أن يتجاوز هذه الجزئية إلى الحاجة إلى ميلاد حزمة الإصلاح السياسي التي يكون أحد عناوينها الرئيسية تغيير قانون انتخاب يضمن بالضرورة معالجة الانشطار الاجتماعي، وإعادة هندسة المجتمع على أسس المصالح الاقتصادية والاجتماعية والفكرية للأفراد؛ أي على أسس طوعية وليست جهوية أو قرابية، بما يعني إعادة النظر في الصوت الواحد، وإمكانية طرح القوائم الانتخابية، وتوسيع الدوائر الانتخابية لتلافي الخلل في قانون 2001 الذي مأسس للقواطع الانتخابية على أسس وتحالفات قرابية.

حزمة الإصلاح السياسي لا بد أن تتضمن التفعيل العملي للتشريعات، وحق المواطن والمؤسسات في الحصول على المعلومة، وأن تكون الحرية المطلقة غير المقيدة من جانب المؤسسات فوق القانونية هي الإطار الناظم للصحافة والإعلام، وأن يكون أحد أسس اللعبة السياسية تصريحُ العمل السياسي على إطلاقه على قواعد الإعلان والإشهار وعدم ضبطه بمتطلبات العدد والجهويات.

إن حماية التعددية الفكرية والسياسية للمجتمع، وتوسيع الإطار العام لمناقشة القضايا كافة، أمرٌ أساسي لخلق مجتمع نابض ديناميكي قادر على عقد الصفقات والوصول إلى توافقات. وتُعَدّ إعادة تعريف الدولة في إطار من المؤسسية التي تضمن التوازن بين سلطات الدولة، ووضوح آليات صنع القرار، أمراً لا مفر منه في عملية صياغة علاقة صحّية بين المجتمع والدولة.

تجزئة الإصلاح السياسي: تكلفة باهظة
 
01-Mar-2010
 
العدد 9