العدد 9 - راحلون
 

بالأمس ترجل فارس من فرسان الكلمة الحقة، كان دوماً يثير العقل والفكر والضمير لينير الطريق أمام تلامذته ومحبيه.. كالمصباح الدافق الذي يشع بعلْمه وفكره وإنسانيته، يملأ كيانهم بالقيم والمثل الداعية لمحبة الوطن العربي الأكبر، ودرء كل ما قد يعْلَق بتراثه الحضاري الخالد من تضليل أو تشويه. لقد رحل عنا العالم الجليل محمد عيسى صالحية كلمح البصر، ودون أن يتسنى أن نقول له: وداعاً.

أبو الرائد، كان قمة من القمم الفكرية الراسخة، امتلك القدرة التحليلية الواعية لمقومات الحضارة العربية الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية العربية الأصيلة، فجاءت كتاباته العديدة حول المحاور الاقتصادية الاجتماعية لمسار التاريخ العربي الإسلامي لتسلط الأضواء على الدور الريادي العرب والمسلمين في مختلف المجالات العلمية والطبية والهندسية. كما كان لعالِمنا الفقيد دور كبير في تحقيق وإعادة نشر العشرات من المخطوطات التراثية الثمينة، بخاصة تلك المتعلقة بالأرض والسكان، بالإضافة إلى قضايا المياه والفلاحة والحِرَف اليدوية والمهنية وغيرها.

أمضى أبو الرائد ما يقارب العقدين من الزمن محاضراً وباحثاً متنقلاً بين جامعات ليبيا والكويت وماليزيا وتركيا وبريطانيا، إلى أن انتهى به المطاف العام 1991 أستاذاً بجامعة اليرموك، حيث استقر متصومعاً في دارة له شيدها على رابية من روابي بلدة كفرخل المجاورة لمدينة إربد، أضحت مقصداً للعديد من الباحثين والدارسين الأردنيين والعرب، يغرفون من علم صاحب الدار ومن مكتبته المتخصصة التي تضم آلاف المصادر والمراجع والوثائق التي أوصى قبل رحيله بأن تظل من بعده هي والدارة وقفاً للدارسين وطلبة العلم.

كان -رحمه الله- يردد دائماً: «رأيت النور أول ما رأيته في بلدة عنابة بفلسطين العام 1941، وبقيتْ حلمي السرمدي الدائم، أما بلدة كفرخل بالأردن التي ضمّتني بين جوانحها، فسأودعها كل ما حباني الله من مقتنيات علمية وتراثية».

ظل صالحية معادياً ورافضاً للوجود الصهيوني بجميع أشكاله وفي مختلف الظروف. أمضى سنوات شبابه مناضلاً ومحارباً الظلمَ والعسف والاحتلال، وحينما أثقلت عليه صروف الدهر لجأ إلى صومعته عائداً لا يملك إلا سلاح النظرية والمنهج؛ سلاحه الوحيد المتبقي ضد التمويه والكذب على النفس، يضع المتاريس ويحارب عدواً قبع في خندقه. وقد نشر العديد من الدراسات والتحقيقات المتعلقة بتاريخ فلسطين ومدنها، أرضها وسكانها، منذ مجيء العثمانيين حتى مطلع القرن الماضي. كما تناول بالدراسة والتوثيق الطرق والأساليب التي أنتجها الصهاينة للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية واحتلالها. وكان عالِمنا قد أفرد قبل ذلك مجلدات عدة في دراسة وثائقية شاملة لأحوال اليمن الاقتصادية والاجتماعية منذ حملة سنان باشا حتى نهاية حكم الإمام يحيى حميد الدين.

حينما اشتدت عليه وطأة المرض الخاطف، عادت بي الذكرى إلى تلك الهمسات الغالية لأستاذنا المرحوم هشام شرابي وهو على فراش المرض: «الطَّرْق الخفيف يذكّرني بأن الحياة لا تفضى إلى شيء، تتوقف فجأة كالشريط السينمائي فلا تفسح لنا مجالاً لمغادرة لائقة أو كلمة أخيرة».

رحمك الله يا أبا الرائد، فقد كنت عَلَماً من الأعلام، مرناً تساير روح التقدم وتساعد على البناء لا الهدم. سنفتقد فيك الشموخ القومي في زمن بات يتنكر فيه الكثيرون لعروبتهم وأصالتها، سنفتقد فيك ذاك التصميم الرافض لكل القيود النفسية والفكرية. ستظل يا أبا الرائد، أنت وفكرك وإنسانيتك وشجاعتك، أنشودة خالدة لنا نردد معها: يا جبلاً أُرسي على نعشه أعجب كيف طاق النعش حمْلَه!

أمين محمود

وزير ثقافة أسبق

محمد عيسى صالحية مصباح دافق وأنشودة خالدة
 
01-Mar-2010
 
العدد 9