العدد 8 - بورتريه | ||||||||||||||
لم تقف عند محطة واحدة، لأن المثابرة والإصرار والمعرفة هي المنظومة التي تختزل الحياة. تبدأ العمل معلّمةً وتصرف عقداً ونصف العقد من الزمان، وتواصل الدراسة لنيل الدكتوراه العام 2003، وتنخرط خلال ذلك في الأدب لتعمل في النهاية بالسياسة، وتترشح للنيابة العام 2003، فتفوز بالخسارة التي تمنحها فرصة المحاولة. تقيم بين الخليل والكرك والعاصمة والجنوب، وتنسى في غمرة الطموح ظلالَ البيت، لتعود بُعيد منتصف الطريق دون أن تفقد علامة البداية، وتدرك أن النقد سلطة توفر للمرأة حضورها في مجتمع بنى مداميكه على ذكورية النحو. تستعيد رفقة دودين، تلك اللحظات التي مضت، ولكن بوعي اللحظة الراهنة، وتدعو إلى التعامل مع الذات بما هي ذوات عدّة تشتمل الأنا والآخر، متأملةً: «كلٌّ منا يحمل ضدّه». أثّرت فيها معلماتها كثيراً، في مراحل الدراسة الأولى، حيث الكرك مدينتها، تمتاز بتعايش ديني جعلها من أوائل المدن في البلاد التي تحتضن العلم وتعنى بتشييد المدارس، ومدرسة الكرك الثانوية شاهد عيان في هذا المجال. وهناك تلقّت دودين دروسها الأولى على أيدي أساتذة من خريجي الأزهر ودمشق وبغداد، و«أدى هذا التلقي دوراً في بناء معمار الذات العلمي، المستند إلى خبرات مدينية وتنوع مُثْرٍ»، بحسب ما ترى. تستذكر دودين في مدرسة الربّة الثانوية: وجيه القاسم، أحمد الفرخ، لحظة المجالي، زحلة الحوراني.. وتصف الربة، القرية التي تتجاور فيها العشائر المسلمة والمسيحية، بـ«المتمدنة»، قياساً بـ«الفلح من قضاء الخليل الذين ساروا في أثر عرام القمح إلى الكرك أول الفتح وأول القمح، وليغنّي ماجد المجالي هذا المضمون التلاحمي: أنا الوجع الخليلي المؤابي». وترى أن الرحلة إلى العلم تقع بين الحياة والنور. تقول: «في المدرسة أحسست أنني أحيا، وعندما التحقت بالجامعة الأردنية شعرت كأنني خرجت من الظلمات إلى النور، إذ إن تعليم المرأة في ذلك الوقت كان يضحَّى به، فإذا ما (طِولت) الفتاة، يُقال لأهلها: صارت البنت طويلة، ولا بد أن تخرج من المدرسة»، وتضيف بحسرة: «يبدو أننا نعادي القامات». أدركت دودين مبكراً أن رهان التغيير يقترن بالتعليم، فقررت خوض معركة التفوق منذ الصفوف الأولى إلى المرحلة الجامعية وانتهاء بالدراسة العليا. تقول: «لم أصدّق نفسي وأنا أقف أمام المسجل الذي اختار لي مواد الفصل الأول، وجلّها مداخل إلى التاريخ والجغرافيا واللغة العربية وعلم الاجتماع الذي نلتُ في امتحانه الأول علامة كاملة». أفرحها وجود اسمها على لوحة الشرف في بهو كلية الآداب، بوصفها من أوائل الكلية. لذا قَرَّ في يقينها أن التعليم هو الرهان لبلوغ المرأة مقاماً كريماً، وتضيف: «أحياناً لا أصدّق أنني وصلت إلى هذه المرحلة»، لأن الجدّ في العائلة الممتدة بحسب ما ترى، يصرّ على زرع القيم في نفوس أفرادها وأجيالها، فيما تصرّ الأم في سلّم التراتب الهرمي الأبوي، على تبديد قوة هذه المركزية، لتنفرج قليلاً على سلوك نساء العائلة. وعلى ما تُشكّل الطفولة من نبعٍ للمبدعين، تقول دودين: «كثيراً ما غابت عني الطفولة»، مستدركةً أن «البيدر مصدر القيم، وهو أول الخيط في علاقات الإنتاج والتبادلية»، فـ«عند كيل الصلايب، تحمرّ الوجوه»، وهي تستغرب من لغة العدّ. «أول مكيال هو نص مدِّ الخليل، يوزع ثواباً في حجور الصغار الذين سيهرعون نحو الدكاكين عائدين بالحلقوم والكعكبان والحامض حلو، وهو مكيال: الله واحد، ثم يأتي المكيال الثاني واسمه: ماله ثاني، والمكيال الثالث هو: بركة، ثم تبدأ الأرقام بالحضور». في الرابع الابتدائي كتبت أول محاولة إبداعية، بعنوان: «هذه أسطورة كركية»، سارت فيها على منوال قصة الراعي الذي استطاع بمزماره أن يجمع الفئران التي هاجمت حقول القرية، ويجرّها ضاحكاً عليها بالتطريب إلى البحر، وكان لجدّها الشاعر الشعبي دور مهم في بناء ذاكرتها التاريخية، ما أسهم في صوغ مفردات ذاكرتها جمالياً، وأبقاها في منطقةٍ بين فصيحة نخبوية بنبرة كالصهيل، وعامّيةٍ بجماليات ثرّة وسرديات شفاهية لا تقل أهمية عن أدبيات السرد الحديثة. كتبت في الإبداع والنقد مؤلفات، منها: قلق مشروع، مجدور العربان، أعواد ثقاب، سيرة الفتى العربي في أميركا التي فازت بجائزة عمّان عاصمة للثقافة العربية 2002، توظيف الموروث في الرواية الأردنية المعاصرة، وخطاب الرواية النسوي. عندما ناقشتْ أطروحتها التي حملت عنوان الخطاب في الرواية النسائية العربية المعاصرة، تقنيات وثيمات، شعرتْ «بشيء يشبه اكتمال الفرحة»، لقرار لجنة المناقشة التي رأسها عباس علي علوان، على منحها درجة الدكتوراه بلا أي تعديلات على الأطروحة، وتذكر أن الأكاديمي محمد شاهين قال: «أعجبني أن تطلع مثل هذه الأطروحة من الأطراف». تعود إلى معركةِ خوضها الانتخابات النيابية على الكوتا النسائية، والتي مُنيت وقتها بخسارة تناوش الفوز، لافتةً إلى أن هذه التجربة «غنية، رغم ما حملت من آلام»، إذ أثْرَت تجربتها الحياتية والفكرية والابداعية، ومنحتها «فرصة التعرف أكثر على المسكوت عنه في مجتمع بداوة وفلاحين وحضر». وعن طريقة ترويجها لبرنامجها الانتخابي وقتذاك، تتذكر: «كنا ندخل إلى شقّ الحريم المتلثمات من أي طارئ، ولمّا ينشف ريقي وأنا أتحدث وأروّج وأعدّ وأزرع البحر مقاثي، يقلن لي ببرود: كلمتنا عند رجالنا». لم تحبط بعد الانتخابات، ولكنها لا تخفي: «تألمت وحزنت واختليت بنفسي، وكان ردّ فعلي المزيد من العمل التنموي في صفوف النساء لأصنع فرقاً، وكانت الكلمة ملاذي ومنجاتي». وتخلص إلى أن معركة المرأة ليست تحديداً مع الرجل، بل هي تكمن في «ميراث التفرقة الهائل، الذي انحدر عن خمسة آلاف سنة من الأغلال التي قيدت المرأة ورهنتها لثنائية مرعبة تتناوب الحضور ما بين ملاك المنزل والشيطان». |
|
|||||||||||||