العدد 8 - اجتماعي
 

كانت شجرات الصنوبر المحيطة بمزرعة عبد الله العتوم تصدّ ريح الليل، وهي تحرس وليمة حضرها رئيس الوزراء الأسبق معروف البخيت الذي كان حينها منسقاً للمفاوضات الأردنية الإسرائيلية. وعند المغادرة وانفضاض الجمع، هَمَّ صحفي كان الجميع يداعبونه بإطلاق لقب «المخبر» عليه، ليقتعد الكرسي الخلفي لسيارة المرسيدس التي يقودها البخيت يجاوره أكاديميّ كان مدعواً على العشاء. عندها فتح العتوم الباب الخلفي للسيارة، وطلب من «المخبر الصحفي» النزول، لأنه لن يستفيد شيئاً، ولن يتمكن من كتابة سطر في تقريره، فـ«الهرجة طول الطريق» بحسب العتوم، ستكون «بالإنجليزي».

هذه الواقعة الطريفة تصلح مفتاحاً للحديث حول الولائم، التي بدأت في البلاد خاليةً من الشوائب المصلحية، لكنها أصبحت بمرور الزمن مؤسسة تُبعَث من خلالها وتُستقَبل الأخبار والرسائل من النخبة إلى الدولة وبالعكس، أو مصدراً لا ينضب للحكايا والقصص القابلة للنقل والتحليل كما يرى عمدة عمان الأسبق والنائب عن دائرة عمان الثالثة قبل حل مجلس النواب الأخير، ممدوح العبادي.

فما إن تقع يداك على مادة صحفية تنطوي في جوانب منها على أسرار وخبايا، أو تتابع تسلسل أحداث قضية مهمة يتداولها الجميع، أو تستمع إلى تحليل ساخن غنيّ بالتكهنات، ستصطدم بعد خطوتين على أبعد تقدير، بحقيقة أن «المنسف» كان حاضراً، فالأردنيون يتحدثون بأريحية أقرب إلى البوح على الولائم، إن لم تكن الولائم متنفسهم الوحيد بعد غياب الأطر السياسية والمؤسسات الحزبية، وتركِها المجال رحباً لغرف السفرة وصالونات النميمة وخيام الأفراح والعزاءات، ليفضفض الناس ما في جعبتهم من حكايا وأسرار كما يقول رئيس الوزراء الأسبق علي أبو الراغب.

الصدفة ليست وحدها المسؤولة عن الرواج القوي والمؤثّر لمفهوم «المطبخ والطبيخ» في البلاد، الذي صنع مؤسسة متينة القوام اسمها مؤسسة «الولائم الأردنية»، على حد تعبير مسؤول رفيع شغل منصب رئيس الدائرة الإعلامية في الديوان الملكي، «بعد أن أثبتت الولائم نجاعتها في إيصال العديد من المتسلقين إلى مواقع مهمة»، حسب قوله، والأهم نجاحها في إزالة خصومات أو رواسب في العلاقات، مثلما فعلت وليمة أحمد سلامة لرئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة، التي أنهت حقبة طويلة من الاختلاف بعد الموضوع الذي نشره سلامة بعنوان «عبد الرؤوف والنهي عن المعروف»، وكذلك وليمة خليل عطية التي جمعت محمد الذهبي مع محمد دحلان.

وإذا كان المعجم الوسيط قد عرّف الوليمة بأنها كل طعام صُنع لعرس وغيره، وجاءت «أولَمَ» بمعنى عملَ وليمة واجتمع خَلقه وعَقله، واجتماع الخَلق والعَقل يفتح المجال لإخضاع الوليمة وفقاً للعبادي، لحسابات اجتماعية نبيلة ومطالب صغيرة لا يمكن أن تُحَلّ إلا من خلال كونفرنس اجتماعي تحققه الوليمة الأردنية بامتياز. ويستذكر العبادي أنه استجاب لمطالب كثيرة على موائد دُعي إليها، مثل تعيين عامل أو موظف، أو تعبيد شوارع. ومؤخراً، انتهز عمال مياومة في وزارة الزراعة، فرصة مشاركة وزير التربية والتعليم إبراهيم بدران في وليمة دعي إليها في مأدبا، وحمّلوه رسالة لرئيس الوزراء سمير الرفاعي تتضمن مطالبهم.

الولائم كما يقول أبو الراغب عُرفت منذ قيام المملكة، وكانت «لمن يمر في الطريق»، أو «وليمة المساكين» كما يصفها وزير التنمية السياسية الأسبق ونقيب الأطباء الأسبق محمد العوران، وذلك قبل أن تصبح شكلاً من أشكال الوجاهة والبروز الاجتماعي، فهي جزء من تحديد تراتبية الأعيان في المناطق، و«صارت قيمة الرجل تُقاس بمن حضر وليمته من ذوات، وما خرج فيها من مناسف»، كما يقول أكاديمي يعكف على إصدار كتاب عن «سيكولوجيا الولائم».

تأكيداً لما قاله أبو الراغب عن فلسفة «مارق الطريق» في الوليمة، فإن الأكاديمي يذكر عدداً من أصحاب الولائم الدائمة، مثل محمد بن منيزل بالكرك، وصالح أبو جابر في اليادودة الذي كان يلعن الجائع الذي لا يدخل مضافته، وقصر جاسر في بيت لحم.

إثبات الحضور و«التشكّرات»

حديث المسؤول الإعلامي يتقاطع مع عبرة إستراتيجية للعين طاهر حكمت الذي يقول إن روافع القيمة الاجتماعية والوصول إلى المنصب، تتطلب المعرفة إما بثقافة المطبخ، أو بثقافة «التخت»، أي: ماذا تولم ولمن، ومن تصاهر وتناسب.

براءة البدايات التي صاحبت الوليمة بحكم تكاتف الأردن مع الجزيرة العربية والصحراء، أنتجت الكرم كحاجة موضوعية كما يقول وجيه عرب التعامرة الشيخ محمود الخلايلة، فمن يقطع الصحراء ويتنقل فيها لا يستغني عن الجار والكرم، لأن «من تستضيفه الآن قد تحتاجه غداً»، لذا «وجب تقديم السبت حتى تلقى الأحد». فالكرم حالة تبادلية حسب الخلايلة، قبل أن يتحول إلى سلوك وغاية مع ظهور الحواضر والمدن. وتَرِدُ هنا قصة أوردها غالب باشا الموازرة، ووقعت أحداثها في ماعين، تكشف أن الكرم كان لأجل الكرم. فقد استظل في مدخل بيت مع صحبته في المدرسة من أمطار الشتاء، فجاء صاحب المنزل وهو من عائلة الجمعاني، ونهرهم طالباً منهم دخول «المضافة»، ثم استدعى اللّحام وأعدّ لهم غداء دسماً، وهم بعدُ أطفال.

يستذكر الخلايلة أن ولائم القرى كانت تقام في الأفراح والأتراح بشكل رئيسي، أما الولائم الاجتماعية التي تعكس الهيبة والحضور، فكانت لقائد المخفر ومدير المدرسة وشيخ الجامع، على عكس ما كان يحدث في القصبات التي عادةً ما يكون الضيف الرئيسي فيها المحافظ أو المتصرف أو قائد الشرطة، والوجهاء والأعيان والنواب والوزراء وكبار موظفي المحافظة. ويتحدث العوران عن ولائم كانت تُقام للأطباء، بخاصة بعد إجراء عملية جراحية ناجحة لـ«وجيه مناطقي».

وقد دخلت المصلحة إلى عالم الولائم بعد إثبات الوجاهة والحضور المناطقي، في إطار الامتنان (التشكّرات) لمسؤول قام بتعيين أحد الأبناء أو الأقارب، أو أنجز فتح طريق أو معاملة، كما يقول العتوم، ناهيك عن الولائم التي تُعَدّ للمقاومين والمقاتلين خلال مرحلة «الجهاد المقدس».

بداية الانقلاب

الطهر المشفوع بالمصلحة والوجاهة ظلاّ يسيطران على مشهد الولائم إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، ليحدث الانقلاب المناخي في الحياة الاجتماعية، ويبرز الجانب السياسي للولائم، بعد شفاء الأردن من جراح أحداث السبعين واسترداد الأحزاب نشاطها العام بداية الثمانينيات. إذ نشط وجهاء المحافظات في هذا الإطار، ودخلت الوليمة إلى معترك العمل العام، وأصبحت بديلاً عن المؤتمرات الحزبية، بخاصة لأنصار التيارَين القومي والإسلامي، وتحولت إلى ساحة لرشق الحكومات وانتقادها، وأقيم بعضها في إطار النكاية السياسية الخالصة، تحديداً في مرحلة تقلب أنصار المدرسة الزيدية والمضرية على الدوار الرابع كما يقول رئيس وزراء أسبق عملَ مع مضر بدران، ويكشف باشا «عتيق» أنّ أحداث جامعة اليرموك العام 1986 كانت جزءاً من هذه النكاية، وأنها حيكت على وليمة في عروس الشمال.

أما الحزبيون، فقد اقتصرت ولائمهم في مواسم أعياد الميلاد ورأس السنة، لغايات يسارية وعلمانية، أو لإظهار امتنانهم لقيادات الأحزاب اليسارية والقومية التي غلب عليها طابع المسيحية.

الإضافة الثانية التي نقلت الوليمة إلى سياق آخر، كانت دخول الصحفيين على خط الولائم، مع بزوغ نجم «المَزارع» التي استهلّه عميد الصحافة الأردنية محمود الكايد بمزرعته التي باتت تحمل لاحقاً اسم «الكايدية»، واحتضنت رجالات دولة ونقابيين وحزبيين، من أمثال علي أبو الراغب وفارس النابلسي والمرحوم إبراهيم بكر، إلى جانب صحفيين من أمثال أحمد سلامة، عبدالله العتوم، عبدالوهاب زغيلات، بدر عبدالحق، فخري قعوار.

هنا، يربط العتوم بين هذا التغير ودخول الأجهزة الأمنية على خط «الولائم» بوصفها «مصدراً إخبارياً مميزاً»، حيث بادر صحفيون إلى تقديم معلومات طازجة لأجهزة أمن كانت بدورها تبادل هذه المعلومات بأخبار أو بدعم لوجستي للصحفي كما يؤكد «الخال»، وهو اللقب الذي يحب الصحفيون وصف العتوم به، وثمة دعابة يطلقها العتوم تختصر المسافة، فقد كان الخال يدعو الناس إلى مزرعته مؤكداً لهم: «ولا يهمكو.. التقرير علَيّ» .

لكن المسؤول الإعلامي السابق في الديوان الملكي، يخالف العتوم، ويؤكد أن الصحفيين «هم من بادروا إلى نسج العلاقة، وتبرعوا بتقديم معلومات للأجهزة الأمنية، لتحسين العلاقة مع تلك الأجهزة». ويُثري الصحفي محمد الخطايبة هذه الفكرة بقوله إن الصحفي استلهم من فلسفة «تغيير المنكر» الإسلامية، فلسفة إيصال المعلومة إلى الأجهزة الأمنية، انطلاقاً من أن من جلس في وليمة فعليه أن ينقلها إما بيده (كتابة تقرير وإرساله للضابط المسؤول)، وإما بلسانه (عن طريق الهاتف)، أو بقلبه، وذلك بأن «يكمي» الصحفي على المعلومة إلى أن يقابل ضابطه ويضعه بالصورة.

1989: تكريس الانقلاب

وإذا كان العام 1989 قد ألقى بظلاله وتحولاته على المشهد السياسي، فإن تأثيره لم يكن قليلاً على الحالة الاجتماعية هي الأخرى، وتحديداً على «مؤسسة الولائم» التي بدأت تتكرس وتتمنهج، بخاصة بعد أن رسّخ الميثاق «فكرة الحديث بصوت عالٍ»، كما يقول العتوم، فقد بات الناس ينظرون بالعينين معاً للأمور، بعد أن كانت عين واحدة تعمل، فجاءت الانتخابات العامة لتمنح أصحاب الولائم صوتاً عالياً في النقد، وجذب جمهور الناخبين.

في هذا السياق، يؤكد المصدر الأكاديمي ترسُّخ مؤسسة الولائم وتكريسها وتقدّمها في الأطر الديمقراطية، فـ«خيمة المرشح يعتريها عزوف الجمهور إذا ما خلت من المناسف والحلويات». ويتحدث عن أعراض جانبية نَمَت على حواف هذه الظاهرة، منها «تحسُّن ذائقة الناس، وتقدُّمها»، مما فرض أن يكون «الحلو» الذي عادةً ما يكون طبق الكنافة النابلسي، من «حبيبة» وسط البلد، ولاحقاً صار «عرفات» هو الأكثر حضوراً. وأنتجت الذاكرة الشعبية أو أعادت إنتاج عشرات الأقوال المأثورة، للربط بين الديمقراطية والوليمة، مثل: «أكلتم خيري وانتخبتم غيري».

وسطع نجم مجموعة سياسية جديدة أطلق عليها العتوم اسم «مجموعة الأمير زيد بن شاكر» (الشريف زيد آنذاك). وكانت خيم المرشحين وموائدها الرافعة الأساس لهذه المجموعة قبل إعادة إنتاج أعضائها كنوّاب مزمنين ووزراء ورؤساء وزارات، رغم عدم تورط بعضهم في هذه المؤسسة، وتحديداً عبد الكريم الكباريتي رئيس الوزراء الأسبق، وبنسبة أقل علي أبو الراغب، الذي ينفي تورطه في مؤسسة الولائم، لا إبان تسلمه المناصب ولا بعدها، على عكس العبادي الذي يؤكد أنه كان يدعى على الغذاء مرتين، والعشاء أكثر من ذلك بكثير إبان عمله عمدةً لعمان وتسلمه حقيبة الصحة.

هنا، يعود العتوم إلى الحديث عن نموّ دور المَزارع والصحافة، وظهور أبرز المَزارع وأكثرها تأثيراً على الإطلاق، وهي مزرعة الحاج محمود سعيد، رحمه الله، في لواء «عين الباشا». ويعترف العتوم: «مزرعة الحاج عرّفتني على الأردن.. زعماء سياسيين، وسفراء دول عظمى، وقادة عسكر، ومدراء أجهزة»، وذلك قبل أن يدخل العتوم نفسه على خط «المَزارع»، وتصبح مزرعته في «سوف» بجرش مكاناً للقاء الساسة وكتّاب التقارير «الطازجة»، أو ما يدعوه العتوم مداعباً: «تغطية الجلسة أمنياً». «تغطية» الجلسة شرط لاستمرار نجاح «المزرعة» وبقائها، بحسب العتوم، الذي يذكر أنه «حدث في إحدى المرات خللٌ بعدم تغطية وليمة»، فهدده مدير المخابرات آنذاك بأنه سيقوم بـ«شمع المزرعة بالشمع الأحمر». ويسترسل العتوم مؤكداً أن «الجميع شاركوا في تغطية الولائم: حزبيون، نقابيون، موظفون كبار وصحفيون»، مبرراً ذلك بأن «طريق الدائرة أيسر الطرق وأقصرها لإيصال الرسائل أو المعلومات لكشف فساد أو تسيُّب، فالوصول إلى رئيس الوزراء صعب، والوزراء دائماً مشغولون» على حد تعبيره.

وهو يدلّل على صحة ما ذهب إليه من سرعة وصول المعلومة، بحادثةٍ في منزل شهبندر للتجار أقامها على شرف السفير الأميركي الذي تفاجأ بعتابٍ قاسٍ صبيحة اليوم التالي للوليمة على عبارة قالها ليلاً.

صحفي دائم الحضور للولائم، طلب عدم نشر اسمه، يرى أن دور الصحافة تعاظَم في تلك الفترة، وبات حضور الصحفي ضرورياً، «إما لإيصال النميمة أو المعلومة ونشرها، أو لإثبات فعاليته ومقدرته كصحفي مطَّلع». ويقول صحفي وناشر ومستشار سابق في الديوان الملكي: «لقد استكملت تأهيلي كصحفي في مزرعة محمود الكايد، وشبّكتُ مع الدائرة بَدْرِي»، بل إن الولائم كانت تتحول أخبارها إلى إعلانات بآلاف الدنانير واشتراكات كذلك، جراء استثمار معلومة وردت على لسان أحد المدعوين بزلة لسان أو بوعي، وتحديداً مع تعاظم دور الصحف الأسبوعية و«تنمُّرها» على المسؤول «المهزوز»، بل إن ناشري الأسبوعيات رفعوا من منسوب الدعوات واستثمروا في المزارع بعد استثمارهم في الصحف الأسبوعية. وينقل المسؤول الإعلامي السابق في الديوان، عن عامل وافد يشغل وظيفة حارس مزرعة في دبين، أن المنطقة خلت من الزوار بعد مغادرة الصحفي صاحب المزرعة للعمال في دولة شقيقة، تعبيراً عن كثافة الدعوات سابقاً.

وتختزن الذاكرة كثيراً من الأخبار والنقاشات التي كانت تشهدها الولائم، لتنتشر في صبيحة اليوم التالي في أرجاء البلاد كالنار في الهشيم. وتحفل سجلات المحاكم بقضايا رفعها مسؤولون على صحف جراء نشرها «نميمة عابرة للحدود»، في جلسة عشاء، ليس آخرها دعوة مرفوعة من وزير خارجية على صحيفة توقفت عن الصدور، ودعاوى أخرى على صحيفة قائمة، كانت الولائم مصدراً لعدد من موضوعاتها وأخبارها.

نهاية القرن الفائت، تعزز دور مؤسسة الولائم وشخوصها الذين تبادلوا الأدوار طوال عقدين من الزمن، فهم ضيوف دائمون إبان تسلم أحدهم المنصب، لكنهم سرعان ما يفقدون بريقهم حال تخلّيهم غير الطوعي عن المنصب، ليتحولوا إلى «معزبين» لاستعادة البريق الرسمي أو لتكريس الحضور، وبخاصة إذا ما رغب أحدهم في التحول إلى ساحة المعركة البرلمانية، حيث سرعان ما تُنصب الخيام لدعوة زملاء الوظيفة وجماعة التأثير القوي في المنطقة الانتخابية.

ويؤكد مختار في حي الطفايلة أنهم في العادة لا يرون المسؤول المناطقي وهو في منصبه، لكنه سرعان ما يجمعهم مع مسؤولين سابقين ولاحقين بعد خروجه، وهذا ما ينفيه عن نفسه محمد العوران الذي يقول: «لا أؤمن بمؤسسة الطبيخ، ولن أخضع لشروطها، ولن أكون نمّاماً، ولن أشارك في ولائم النميمة وصالوناتها».

رحلَ القرن العشرون، إلا أن ثقافته لم ترحل، بل تكرست كما يقول أبو الراغب، ولكن بـ«مواصفات جديدة» بحسب تعبير العتوم الذي يرى أن الدولة «اعترفت بهذه المؤسسة رسمياً».

القرن الجديد.. اعتراف الدولة

شهد القرن الجديد اعترافاً مباشراً من الدولة ورجالاتها بهذه المؤسسة وثقافتها، وبدأت الدولة بسلوك الدرب نفسه. يقول العتوم إن مآدب رمضان التي يقيمها الديوان الملكي جزء من هذه الثقافة، بدليل «التململ الناتج عن غيابها» رغم التعويض بولائم المحافظات وولائم أفراح زواج الأمراء وعيد الاستقلال، كما أن الأحزاب الحديثة لجأت إلى النهج نفسه، فقد تم إشهار حزب التيار الوطني على وليمة ضخمة في البحر الميت، وباتت الوليمة دليلَ قوة ونفوذ، كما أوضح ذلك بجلاء حفلُ زواج نجل قائد الجيش مؤخراً جنوب البلاد.

وتعززت قوة الولائم بعد أن تم الاعتراف بها اقتصادياً من خلال مؤسسات تعنى بـ«الطبيخ»، وتتولى «الوليمة» بكامل تفاصيلها، حتى توفير خزانات غسيل الأيدي، منها «مؤسسة الريالات» في السلط، و«المومني» في الشمال.

التفاخر الاجتماعي بالولائم اتخذ منحى متطرفاً نسبياً في القوة، إلى الحد الذي دفع بصاحب وليمة إلى القول: «لقد أخرجت آخرُ وليمة أقمتُها رئيسَ وزراء». وهنا يتدخل العتوم ليقول: «لقد أنتجت مزرعتي أربعة رؤساء للوزراء». وهذا التطرف بالنجاح ولّدَ ثقافة «الأرضية»، التي تعني أن يقدّم صاحب المزرعة المكان، في حين يتولى الإنفاق شخصٌ آخر. ويتحدث نجل الحاج محمود سعيد رحمه الله عن هذه الثقافة بقوله: «لم أكن أعرف مَن هو الداعي في معظم ولائم والدي»، ويكشف العتوم أن «الأرضية» مصطلح أنتجه الحاج محمود سعيد، ويضيف: «كنت أحد أتباعه في ذلك». ويحلل أكاديمي هذه الظاهرة بقوله إن سببها «الدخول على خط المزارع من أبناء الطبقة الوسطى الذين لا يملكون تكلفة إقامة الولائم دائماً، ودخول الصحفيين أيضاً»، حيث باتت الوليمة فرصة لتقديم شخصية غير معروفة لمجموعة من السياسيين والإعلاميين تمهيداً لـ«تلميعه»، وأحيانا يلجأ صاحب المال مباشرة إلى الدعوات عبر إعلامي أو سياسي متقاعد.

الديجتال والماسونية

ولأن الوليمة ذات صبغة اجتماعية، فقد دخلت في الصراعات بين الحرس القديم وبين تيار الديجتال أو الجيل الجديد من السياسيين. ويلاحَظ أن تيار الديجتال لم يتورط في الدعوة إلى «العزايم»، رغم أنه كان يشارك في الحضور كما يقول العتوم، بينما يرى أبو الراغب أن «تيار الديجتال لا جذر لهم، ولا يعرفهم أحد، وهذا هو سر غيابهم عن الولائم»، مؤكداً أن هذا التيار لا يمتلك الحضور السياسي والاجتماعي، فلجأ إلى المطاعم ودعوة بعضهم بعضاً، واصفاً لقاءاتهم بأنها تتم في «كبّانية» أو «طقس ماسوني» مغلق عليهم. لكن المسؤول الإعلامي السابق والقريب من تيار الديجتال ينفي ذلك بقوله: «لم يدخل تيار الديجتال في هذا المجال، فهم يتحدثون علناً بآرائهم، وبالتالي لا يحتاجون إلى جلسات النميمة - الاسم الحركي لجلسات الولائم».

ظهور الزرب

مثلما شهد القرن الجديد تطوراً بالاعتراف بالوليمة، فقد شهد أيضاً ظهور أطباق جديدة دخلت على خط المَزارع تحديداً، أبرزها «الزرب» و«المشاوي»، وهو واقع فرضته طبيعة الأمراض الحديثة (السكّري، الكولسترول والضغط)، ودخول العائدين من دول الخليج وتورطهم في مؤسسة الطبيخ لإنتاج حضورهم، فيما يربط برلماني عتيق ظهور هذه الأطباق بـ«دخول الويسكي والعَرَق، نظراً لابتعاد المزرعة عن الأجواء العائلية وأماكن السكن».

ظواهر أخرى شهدتها المؤسسة القوية وأنتجتها أيضاً، منها «أجندة الدعوات» أو «دفتر العزايم»، الذي يصلح لدراسة حراك الشخصية السياسية وتفاعلاتها وفقاً للأكاديمي، ومنها أيضاً ظاهرة «العتب على تجاهل الدعوة»، بحسب مدير صحة محافظة في شمال البلاد: «نصلح على قضايا الشرف والعرض، ولكن نتعب ونحن نصلح على الاستثناء من دعوة على منسف».

عود على بدء

نجاح مؤسسة الولائم واكبه تراجع دور المقهى، وانحسار نسبي لدور الجامع الذي كان يمثل أحد أبرز المنتديات الفكرية. فرغم أن الدولة تدخلت في بناء المقاهي لمعرفة ما يدور في أذهان الناس، إلا أن المّزارع و«غرف السُّفرة» نجحت في خطف الأضواء، بعد أن باتت جلسات الولائم منتديات فكرية وسياسية، في ظل تقهقر الأحزاب وغياب مؤسسات الدولة القادرة على جذب الشارع وتأطير الناس.

لم يغب عنها الاستثمار السياسي والأمني - الولائم: من الكرَم والتكافل الاجتماعي إلى التفاخر والنميمة
 
01-Feb-2010
 
العدد 8