العدد 3 - من حولنا | ||||||||||||||
ما زالت المدن العربية داخل حدود 48، وبخاصة المدن الساحلية، «المختلطة» تشكل عنواناً لمشاريع سيطرة يهودية، أو ما يمكن وصفه بإعادة الاحتلال من قِبَل مستوطنين يهود. هذه الظاهرة ليست جديدة، لكن حدّتها ازدادت في السنوات الاخيرة على إثر تفكيك الاستيطان الإسرائيلي في غزة، وتنامي نشاط جمعيات استيطانية في «مدن مختلطة» مثل عكا ويافا. ورغم الاختلاف بين الحالتين، إلا أن أوجه الشبه في الأهداف والأدوات بينهما عديدة. ثمّة عدد من المتغيرات أثّرت في معادلة الوجود والبقاء العربي في عكا ويافا. فبعد تهجير معظم سكانهما وطردهم في العام 1948، نجح قسم ضئيل من السكان الفلسطينيين الأصليين في البقاء، ثم تنامت في العقود الاخيرة، ظاهرة انتقال عائلات عربية صغيرة إلى المدينتين، وبخاصة عكا. من أسباب هذه الظاهرة أن عكا، شمال غرب فلسطين، تقع قريباً من التجمعات السكانية العربية في الجليل التي تعاني من شحّة الأراضي ومناطق البناء، ومن ظروف اقتصادية صعبة. هذا الواقع الصعب حوّل المدينة إلى ملاذ لهجرة عائلات تبحث عن العيش في أجواء أقرب إلى أجواء المدينة، مما يتيح المحافظة على الخصوصية الشخصية والابتعاد عن تفاصيل الحياة في البلدات العربية ومشاكلها الاجتماعية والاقتصادية، ويمكّن من إبقاء علاقة وطيدة مع الأهل ومسقط الرأس. كما أن الحكومات الإسرائيلية درجت منذ سنوات عديدة، على منح إعفاءات ضريبية لسكان عكا، مما حفّز مواطنين عرباً على الانتقال اليها للاستفادة من التسهيلات الضريبية. أما مدينة يافا، فتقع في المركز الاقتصادي والصناعي والخدماتي في دولة إسرائيل. لهذا السبب، ونظراً إلى اضطرار كثير من السكان العرب إلى البحث عن أماكن عمل والاستقرار في منطقة المركز، يتجه عدد منهم للاستقرار في يافا، كونها الأقرب إلى البيئة الطبيعية للعربي في منطقة المركز الإسرائيلي، ففيها مدارس وأطر ثقافية عربية. في المقابل، لم تشهد تلك المدن، حالة هجرة عربية إضافية بعد التهجير القسري العنيف الذي قامت به إسرائيل العام 1948، فلم تهجر البقية المتبقية من السكان العرب تلك المدن بعد النكبة. لهذا، لم ينجح المخطط الصهيوني في «تنظيف» تلك المدن من السكان الأصليين. وفي حالة عكا ويافا، فإن السكان اليهود الذين استوطنوا فيهما من الطبقات والشرائح اليهودية الضعيفة، بخاصة اليهود الشرقيون، الأمر الذي حال دون تحويلهما إلى مكان سكن يجذب الطبقات الوسطى والشرائح المقتدرة في المجتمع الإسرائيلي. لهذا نشأ تطلع إسرائيلي ملحّ إلى التفكير في إنتاج أنواع جديدة من الاستيطان تغري شرائح سكانية يهودية للانتقال إلى المدن «المختلطة» بغية إكمال عملية التهويد، التي بدأت في العام 1948، بل وقبل ذلك. تهويد عكا لم تنجح المشاريع الإسرائيلية الهادفة إلى تهويد الجليل بشكل عام، وعكا بشكل خاص، بالشكل المرغوب إسرائيلياً. فمنذ احتلال فلسطين، سعت المؤسسة الصهيونية إلى قلب المعادلات الديموغرافية في الجليل ورسمت لذلك خططاً، أبرزها مشاريع التهويد في ستينيات القرن الفائت وسبعينياته، وحملات مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي العربية وبناء مستوطنات صغيرة على قمم الهضاب والتلال في الجليل، ومشاريع إقامة مدن جديدة في الشمال، مثل نتسيرت عيليت وكرميئيل اللتين أقيمتا في الخمسينيات والستينيات. رغم شراسة هذه المخططات التهويدية، بلغ عدد السكان العرب في لواء الشمال، في مطلع الألفية، وفقاً لمعطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، 636 ألف نسمة، مقابل 568 ألفاً من السكان اليهود، وبذلك فإن السكان العرب يشكلون نحو 53 في المئة من لواء الشمال. وفي عكا، بلغ عدد السكان العرب قرابة 15 ألف نسمة من مجموع 50 ألف نسمة يعيشون فيها. أكثر من هذا، إن هناك قلقاً إسرائيلياً، وفقاً للمفاهيم الصهيونية، من وضع الهجرة اليهودية السلبية من الجليل والشمال. تكشف أرقام دائرة الإحصاء إلى أن عدد السكان الذين تركوا عكا العام 2007 بلغ قرابة 1500 نسمة، مقابل هجرة وافدة بلغت 1000 نسمة فقط. المهاجرون من عكا في معظمهم من السكان اليهود، ولا تتوافر معلومات كافية عن هوية الوافدين إلى المدينة. هذا الوضع دفع إلى التفكير في أساليب لزيادة أعداد اليهود المنتقلين إلى عكا، وإنتاج نوع جديد من الاستيطان، أو إحياء أنواع استيطان قديمة لتعزيز كفّة الميزان الديموغرافي في الجليل بعامة، وعكا خاصة، لصالح اليهود. من هنا، كانت الطريق إلى تبنّي الاستيطان الديني والاستعانة بالحركات اليهودية اليمينية المتطرفة، قصيرة. إذ ترى تلك المجموعات في العقيدة الدينية ومفاهيم الخلاص المسيحانية وعلاقتها بالأرض وتحريرها من الأغيار أساساً للاستيطان، وهي لا تميل إلى استعمال الإغراءات المالية والاقتصادية لتعزيز الاستيطان اليهودي. وتقوم المؤسسة الإسرائيلية بتسهيل عملية الانتقال وتوفير الاحتياجات الخاصة للمستوطنين، بينما تضع العراقيل أمام السكان العرب، وتحاول تجريدهم من أملاكهم ومنازلهم. جاء في تقرير للّجنة الشعبية العربية في عكا، التي أنشئت على إثر الاعتداءات على السكان العرب في المدينة صيف 2008، أن بذور الاستيطان الديني المتطرف الحديث تعود إلى العام 1997، إذ أقيمت نواة أومتس (بالعربية: جرأة)، من مجموعة مستوطنين من خريجي يشيفات هيسدير من مدينة الخليل. ثم استوطنت مجموعة مؤلفة من عائلات شابة في مدينة عكا بغية «تهويد المدينة». بعدها بدأ عدد متزايد من المستوطنين الشباب بالانتقال إلى عكا ليشكلوا نواة دينية-قومية تقود عملية السيطرة على الأحياء العربية. وبعد إعادة الانتشار الإسرائيلي على حدود غزة قبل 4 سنوات، وتفكيك المستوطنات هناك، انتقل جزء من المستوطنين اليهود في قطاع غزة إلى عكا، حيث الأرضية الخصبة المهيأة لاستقبالهم. من جهة أخرى، تقوم الحكومة الإسرائيلية بوساطة بلدية عكا وشركات حكومية، بالتضييق على المواطنين العرب، ومحاولة السيطرة على منازلهم، بخاصة في أحياء البلدة القديمة. ومن المعروف أن السكان العرب في البلدة القديمة ينتمون إلى الشرائح الضعيفة والفقيرة جداً، يعيش معظمهم في منازل معرّفة وفقاً للقانون الإسرائيلي على أنها «أملاك متروكة» (أي تركها أصحابها العام 1948، وتحولت ملكيتها للدولة) تعود ملكيتها لشركة عميدار (بالعربية: شعبي يسكن). تسعى هذه الشركة الحكومية منذ سنوات، وبوسائل «قانونية» وأخرى تعتمد التحايل والغش، إلى إخراج السكان العرب من منازلهم وبيعها ليهود. ممّا تقوم به الشركة: منع السكان العرب من ترميم منازلهم القديمة المتآكلة والمهددة بالانهيار، والإعلان عن مناقصات لبيع المنازل وعقارات أخرى، مثل «خان العمدان»، وهو موقع أثري في عكا القديمة بيع مؤخراً لمستثمرين يهود بهدف تحويله إلى فندق. وفق العادة يتقدم لشراء تلك المنازل والعقارات سكان أو أصحاب رؤوس أموال يهود من إسرائيل وخارجها، يعرضون مبالغ طائلة لشراء تلك العقارات. وفي بعض الحالات تقف جمعيات صهيونية وراء عمليات الشراء، حتى لو دفعت مبالغ أعلى من القيمة الحقيقية للعقار، بهدف منع السكان العرب من فرصة امتلاكه. تهويد يافا وفي يافا، إضافة إلى أنماط الاستيطان الديني واليميني الأيديولوجي المعمول به، تلجأ المؤسسة الإسرائيلية إلى نوع جديد من آليات طرد السكان العرب والسيطرة على أملاكهم، بالاستعانة بجهات من السوق الخاصة، وعلى وجه التحديد من قطاع البناء والإسكان، لتملُّك المنازل والأراضي العربية بوساطة إغراءات مالية، من جهة، وبوساطة التضييقات الرسمية من جهة أخرى. ابتكار هذا النوع من آليات التهجير، يتماشى مع بيئة يافا وخصوصيتها. إذ تقع المدينة في المركز الإسرائيلي، وتعدّ جزءاً من مدينة تل أبيب. وعلى عكس الوضع في عكا التي لا تشكل منطقة جذب لرأس المال الخاص للاستثمار وجني الأرباح الخيالية، تعدّ يافا من المناطق المغرية جداً لرؤوس الأموال، بخاصة في مجال جذب يهود من خارج إسرائيل لشراء منازل وعقارات في قلب الدولة العبرية. في هذا الصدد، نشر يافا، وهو موقع إلكتروني عربي، تقريراً جاء فيه أن يافا تجري فيها عملية يكتنفها كثير من الصمت والهدوء، إذ تنقلب معالم المدينة ويتحول أشهر أحيائها «العجمي» إلى «جنة الأغنياء الجديدة» (والقصد الأغنياء اليهود).. يهرب الأغنياء من أماكن أخرى من خارج يافا ومن خارج البلاد، ولا يجدون مكاناً إلا مدينة يافا، وتحديداً حي العجمي. أما بلدية تل أبيب يافا، التي توفر التسهيلات التخطيطية والبنى التحتيتة لهذه العملية، فتدّعي أنها تعمل على تطوير المدينة لصالح سكانها كافة. لكن السكان العرب في يافا يعتقدون أن هناك أهدافاً أخرى. ففي يافا يتخذ التطوير معنى آخر بالنسبة للسكان العرب، يصل إلى حد الطرد والتشريد، في عملية تهويد «هادئة» وبطيئة، في عملية زحف على معالم المدينة، تهدم البيوت التي يُمنع أهلها العرب من ترميمها، وتدفع مبالغ خيالية لا تصدَّق أحياناً، تصل إلى نصف مليون دولار لبيت متواضع للغاية. أما الشرط فهو بسيط للغاية: «اقبض واترك». في حالة يافا التي تُباد معالمها العربية، وعلى رأسها السكان، تتوافر كل الشروط لاستكمال مخطط التهويد. السكان العرب يواجهون عملية منهجية للتهجير والطرد، ويُمنعون من ترميم منازلهم، تحاصرهم البلدية وتطاردهم، ولا تمنحهم رخص البناء. وفوق كل هذا تعرض عليهم إغراءات مالية تصل إلى حد الخيال لترك منازلهم لإقامة مجمعات سكنية للأغنياء، الأغنياء اليهود فقط. يسكن مدينة يافة نحو 17 ألف عربي، يشكّلون ثلث سكان يافا. لكن الديموغرافيا في المدينة تتغير بسرعة، فهناك على الأقل 32 مشروعاً فاخراً تندرج في مراحل بناء مختلفة، وتتركز معظمها في الأحياء العربية في المدينة. وبحسب التقديرات فإن عدد السكان اليهود سيتضاعف في العقد القريب. على العكس من مشاريع مشابهة أخرى في بقية أنحاء البلاد، لا تُمنح لعرب يافا إمكانية الحصول على بيت في العمارات الفخمة المقامة على ركام منازلهم أو مقابل قطعة الأرض، إذ يشترط عليهم المشترون أن يتقاضوا المبلغ ويتركوا المكان. تلك نماذج لما تتعرض له البقية الباقية من الفلسطينيين في دولة إسرائيل، بخاصة الذين بقوا في المدن الساحلية. ففي مدينة عكا تتخذ عملية التهويد طابعاً دينياً إيديولوجياً يمينياً، وفي مدينة يافا، تُترك إلى مبادرين من القطاع الخاص، بالأساس. وفي الحالتين تتماشى المشاريع مع أهداف المشروع الصهيوني: تهويد المكان وتهجير العرب. وفي واقع المر، يتعرض الفلسطينيون كافة في إسرائيل إلى حالات تمييز وتقليص هوامش العمل السياسي والحراك الاقتصادي والاجتماعي. بل إن دولة إسرائيل باتت تتعامل مع الفلسطينيين بوصفهم أعداء لا بوصفهم مواطنين. تتجلى هذه الحالة في عدد كبير من القوانين والسياسات الحكومية ومواقف الجمهور اليهودي. والسؤال المطروح: كيف يتعامل الفلسطينيون مع هذه الحالة، وهل سيُتركون مرة أخرى لمجابهة الدولة العبرية وحدهم؟ |
|
|||||||||||||