العدد 8 - شأن اقتصادي
 

بدأ الأردن مسيرة الإصلاح الاقتصادي كردّ فعل على أزمة اقتصادية، أظهرت عدم قدرته على الاستمرار بالسياسات الاقتصادية السابقة، واستند التغيير إلى مسائل رئيسية هدفت إلى التحول إلى اقتصاد السوق؛ زيادة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد، إحداث تغييرات هيكلية في تركيبة الاقتصاد، زيادة مساهمة القطاعات الإنتاجية، السعي لزيادة الصادرات والتخفيف من سياسات الحمائية التجارية والتشوهات التي كانت سائدة من منظور الاقتصاد الكلاسيكي في الأسعار وسعر الصرف.

وهدفت الموجة الأولى من الإصلاحات إلى استعادة الثقة في الاقتصاد، وهو ما حدث، والبدء بتحرير بعض القطاعات من السيطرة الحكومية، وتجريب عدد من السياسات غير التقليدية، مثل إزالة الدعم عن بعض السلع، وتفكيك بعض الاحتكارات القائمة هي المدخل لتلك التغييرات. تلك المرحلة شهدت أيضاً البدء بزيادة مستويات الضريبة المحلية، وهي سياسة عَنَتْ ضمنياً الدخول في عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع، والانتقال من دور الدولة الراعية إلى دور الدولة الجابية، مع ما يتضمنه ذلك من تحولات جذرية في آليات الحوكمة والرقابة على المال العام وقدرة الدولة على التأثير في المجتمع.

ورغم صعوبة ما يمكن وصفه بـ«سياسات الجيل الأول من الإصلاح»، إلا أن وجود برلمان قوي ونقاش وطني وسّع من الخيارات المتاحة أمام صانع القرار، وتم التوصل إلى مجموعة من التوافقات المحلية على مسائل مفصلية، مثل ضريبة المبيعات في حينه. وبسبب وطأة الأزمة وشعور الجميع بالمسؤولية في تلك الفترة، تم بنجاح تبني عدد من السياسات التي كان من الصعب التراجع والتخلي عنها. وكان ينبغي أن يقوم القطاع الخاص بالمبادرة خلال تلك الفترة، لكنه لم يكن متأكداً من نوايا الحكومة تجاه التغييرات، وهل هي لإرضاء الدول المانحة، أم تستهدف إحداث تحولات هيكلية مرغوبة.

العنوان الثاني في الإصلاحات الاقتصادية تَمثَّل في برنامج التخاصية، الذي تحول إلى قانون ونُفّذ بشكل شبه كامل. تخصيص المؤسسات التي كانت مصدراً للتوظيف والدخل بالنسبة للحكومة أذِنَ بالدخول إلى مرحلة جديدة، بات فيها القطاع الخاص مالكاً لأصول إستراتيجية وله أدوات للتأثير والتفاعل مع المجتمع، لكن السؤال الذي بات معلّقاً هو: ما ماهية القطاع الخاص؛ هل هو قطاع إنتاجي وتنافسي يؤمن بالتحولات السياسية التي يجب أن ترافق عمليات التحول الاقتصادي وتخلي الدولة عن دورها، أم إنه قطاع أهلي استغل الظروف القائمة وهدف بالدرجة الأولى إلى حماية مصالحه عبر التحالف مع البيروقراطية التقليدية؟

وبذلك انتقلت احتكارات القطاع العام إلى الخاص، وانتشرت ظاهرة الحديث عن الفساد المالي والإداري، وبدلاً من أن تؤسس المرحلة الثانية من الإصلاحات لتغييرات اقتصادية واجتماعية جديدة، فإن النتيجة كانت توازناً من نوع جديد قام على مصالح متبادَلة، فلم نلحظ إطلاق قوى اجتماعية جديدة، ولم نشهد ما يُعرف بـ«سياسات لتمكين المواطن من الدفاع عن نفسه أمام الاحتكارات الجديدة». كل ذلك أدى إلى رد فعل قوي من فئات عديدة من المجتمع تجاه قضية التخصيص، رغم النجاحات التي تحققت في مجالات مثل الاتصالات والبوتاس والإسمنت وغيرها، إلا أن غياب التوازن في صنع السياسات أدى إلى ما يُعرف بـ«الردة» على تلك السياسات.

وكردّ فعل على ما جرى، توسّعَ القطاع العام في سياسات التوظيف والتوسع في الإنفاق العام لإحداث توازن مجتمعي أفرزته السياسات الاقتصادية، وما جرى عملياً أن أصول القطاع العام تم بيعها، في حين استمرت هيمنة القطاع العام على الاقتصاد من ناحية الحصة والاستهلاك والضرائب.

ولم تنجح سياسات المرحلة الثالثة بالخروج من عنق الزجاجة، بل ظل الأردن يراوح في المكان نفسه، وباتت هناك قناعات متزايدة لدى عديدين أن الإصلاح الاقتصادي قاد إلى تعميق الاختلالات الاجتماعية وتوزيع الدخل، دون أن تفلح معدلات النمو والاستثمارات الخارجية بتغيير الصورة أو تحقيق اختراقاً في تحديات الفقر والبطالة.

ثم حلّت الأزمة الاقتصادية العالمية التي أملت مراجعة سياسات التحرير الاقتصادي المجتزأة التي طُبقت في الأردن، وبات خطاب استعادة الدولة لدورها هو السائد، وبرزت مطالبات صريحة بالتدخل في مجالات خرجت منها الدولة خلال السنوات الماضية، مثل التسعير والاستيراد وغيرها. ويبدو أن هناك تجاوباً لدى صناع القرار مع هذا النوع من السياسات التي تمثل ما يمكن وصفه بـ«الردة» على سياسات طبقها الأردن على مدى عقدين من الزمان.

المعضلة في الحالة الأردنية، أن حضور الدولة لم يتقلص بالنسبة لحجم الاقتصاد الوطني، لكن أدواتها باتت أضعف، وهي تسعى الآن للعودة لممارسة دور لم تعد تمتلك الأدوات اللازمة له، ولم تمتلكها يوماً، فالمطلوب في هذه المرحلة تعزيز القدرات الرقابية، تفعيل قوانين المنافسة وحماية المستهلك، التوسع في المشاركة في اتخاذ القرارات وتحميل المؤسسات المدنية مسؤولة قرارات تتخذها. وهذه سياسات تحتاج إلى نفَس طويل، والتركيز على الحلول السريعة لن يفضي إلى التحولات الجذرية التي نسعى لبلورتها.

الإصلاح الاقتصادي في الأردن: الدولة السوق والعكس
 
01-Feb-2010
 
العدد 8