العدد 8 - الملف
 

المدينة أينما وُجدت عبر التاريخ، لا بد أن تعكس الوعي الفكري والجمالي لساكنيها كما كان يردد الإغريقيون الذين بُنيت حضارتهم على فكرة الـ polis، أي المدينة الحاضنة لحضارتهم ووعيهم الإنساني، بما في ذلك وعي قاطنيها بقيمها البصرية والجمالية التي لا تقل أهمية عن بعدها الروحي والاجتماعي والثقافي، بل والاقتصادي أيضاً.

ولأن الصورة بمقدورها التعبير عن ألف كلمة، فإن المشهد البصري للمدينة في عين الزائر يحمل في طياته قراءات ودلالات مكثفة عن سلوك مواطنيها فكرياً واجتماعياً وثقافياً.

أول ما يلفت نظر الزائر لمدينة عمان، بدءاً من اتجاهه إليها عبر طريق المطار من ناحيتها الغربية، هو ذلك التدرج في الشخصية البصرية والجمالية الذي تتسم به، فأطرافها تطالع الزائر في البدء بتطور عمراني حداثي، لا مفر منه في ظل الحداثة التي عصفت بمدن الشرق الأوسط منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وانصبّ ذلك على الأطراف بصورة رئيسية، كونها امتداداً طبيعياً للمدن الجوهرية القديمة التي تشكل النواة الرئيسية للمدينة التاريخية والحضارية والاجتماعية النابضة منذ أزل التاريخ.

وعند قياس تلك المقاربة على مدينة عمان، يُلاحَظ التدرج في شخصيتها الحداثية في الأطراف المحيطة بها، مثل الجسور والطرق الواسعة الممتدة بخطوط شبه مستقيمة في أغلب الأحيان، وتبدأ الشخصية الجمالية البصرية للمدينة بالتغير بصرياً، كلما اتجهنا نحو مركزها التاريخي الذي يطلق عليه المعماريون «صحن العاصمة». وبالتالي، فإن مشاعر الزائر تتلبسها دهشةٌ وهو يتأمل تلك الفضاءات المفتوحة في طبوغرافية الأطراف الممتدة، فعماراتها الشامخة المواكبة للأفكار الحداثوية المعمارية المعاصرة، تبدأ بالتلاشي وتخفّ حدّتها نزولاً باتجاه البلدة القديمة في المركز التاريخي للمدينة، الذي يُعرَف بـ«سقف السيل»، في قعر العاصمة التي بقيت محتفظة بشخصيتها البصرية ومذاقها الجمالي الموروث المتّسم بالعتاقة وجماليات مرور الزمان في أزقتها وجدرانها وأدراجها، التي كلما تقادمت زاد جمالها وروعتها كجدران وأزقة ومنازل.

هذا ما تصطبغ به منطقة سقف السيل، وكذلك الجوانب الشرقية لمنحدرات جبل القلعة وجبل اللويبدة وجبل عمان وجبل الحسين المتاخمة لمركز العاصمة. وهنا تبرز أهمية الإشارة إلى العامل النفسي الجمالي المؤثر في نفسية الزائر والقاطن في مدينة عمان، إذ تستقبل الأطراف الخارجية الممتدة في شمال المدينة وغربها وجنوبها، الزائرَ بفضاء مفتوح فرضته الطبيعة الطبوغرافية السهلية فيها، وكأنها تقول له: «أهلاً بك، وادخل للمدينة بارتياح وفضاء مفتوح»، تماماً مثل الدخول إلى الساحة المفتوحة المحيطة بمنزلٍ ما قبل الولوج إلى قلب المركز الرئيسي نفسه.

عمان بذلك مدينتان، الأولى مفتوحة بفضاءاتها لاستقبالك، وتسهّل وصولك إلى داخل المنزل العريق القديم، وهو وسط العاصمة التي تنطوي على تمازج واحتكاك ثقافي واجتماعي وعرقي بين العرب والشركس والأرمن وغيرهم. ولا بد لهذا التمازج أن يشكل جدلية خصبة عبر العقود، ويثمر في توليد إنسان أردني عماني انصهرت فيه مجمل الاحتكاكات والتنوعات سالفة الذكر، وشكلت شخصيته، وأضافت ثراء ثقافياً واجتماعياً وجمالياً نلمسه في عمان القديمة بصورة رئيسية.

عند تناول المشهد البصري لعمّان، لا بد من الإشارة إلى تصورات ورؤى حول مواقع النشاز الجمالي والعشوائيات البصرية المتصلة بالمدينة، وتالياً مقترحات بشأن تطوير المشهد البصري للمدينة، وهي مقترحات تصب في مجال عمل المعماريين والباحثين:

هناك أولاً مسألة التجانس والتناغم في المشهد البصري العام، وهي من أهم المسائل التي تشغل بال المعماريين، بخاصة ما يتعلق بعدم تجانس الطرز الهندسية للوحدات والعمارات السكنية مع فضاءاتها المحيطة في أطراف العاصمة القديمة، حيث اتسم التشييد والبناء في بعض المناطق بالفردية الأسلوبية، والنمط الشكلي في اختيار الطراز المعماري ولغته البصرية الهندسية. وما كان يشغل بال الباحثين في العمارة والجمال، هو عدم تمعن المهندس المعماري والإنشائي بما يحيط بمشروعه من علاقات بنيوية بصرية بالبيئة المحيطة، والتركيز فقط على شخصية وحدته العمرانية المنفردة على حساب التكامل العضوي العام للمنطقة، وربما لأهداف اقتصادية أو استثمارية. أعتقد أن أمانة عمان الكبرى تبذل كل وسعها في معالجة تلك الظاهرة، رغم الصعوبات التي تواجهها. وتعود تلك المسألة من جانب آخر إلى حاجتنا الماسّة إلى ثقافة عمرانية ومعمارية بصرية يتشارك ويجتمع عليها كل من المعماريين والمهندسين من جهة، والأجهزة الحكومية ذات الصلة بجماليات المشهد المعماري من جهة ثانية، لإيجاد حلول بصرية قابلة للمتابعة والتطبيق في سبيل مدينة أكثر جمالاً وروعة، دون الحد من طموحها في التطور والتقدم.

وهناك مسألة تتعلق بالتلوث البصري الناجم عن ازدحام السير وزيادة عدد المركبات، والتي يشتكي منها الجميع. وعلينا أن نقرّ بحجم المشكلة وامتداداتها النفسية والجمالية. وهي المشكلة نفسها التي تواجه كبرى العواصم العربية والعالمية، وحتى التاريخية العريقة منها، مثل مدينة روما التي أود التوقف عند تجربتها قليلاً ليستفيد منها المعنيون في بلدنا.

تزدحم روما بالمركبات وبعدد سكان يفوق أضعاف عدد سكان عاصمتنا. ويلاحظ الزائر أن روما تكاد تكون مقسمة بصرياً ومعمارياً إلى ثلاث مدن: الأولى روما القديمة العتيقة في صحنها المركزي، وفيها العمران القديم يكاد لم يُمَسّ أبداً، وسير المركبات الخاصة يكاد يكون معدوماً في شوارعها القديمة، باستثناء وسائط النقل العام المدروسة في ترددها بعناية، وإن سُمح في بعض شوارعها بمرور المركبات الخاصة، فذلك ضمن برنامج منظَّم بمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع بين أرقام زوجية وفردية. كما أن شوارع روما، مثلها مثل شوارع أغلب المدن الأوروبية العريقة، تخلو من المركبات الخصوصية ذات الحجم الكبير، مثل الجيب والباجيرو، التي تبدو ملائمة في الشوارع الصحراوية والخليجية أكثر من شوارع مدينة مثل روما، وبخاصة في وسطها ومركزها، إذ ما زالت عربات الخيول التقليدية الموروثة مستخدَمة في المناطق القديمة في العواصم الأوروبية حتى يومنا هذا. ورغم طوباوية مثل ذلك الطرح في سبيل تجميل مدينة عمان الحبيبة، إلا أن أول الغيث قطرة.

أما عن المشهد البصري للحدائق في مدينة عمان، فيجدر الإقرار في هذا الصدد بالجهود المشكورة التي تبذلها أمانة عمان الكبرى في تأمين الحدائق ونشرها في مختلف أنحاء العاصمة وضواحيها. فالحدائق في الحياة والتماسّ اليومي المعاش، متنفس مهم وضروري في تراكم الخبرة والذائقة الجمالية والترويحية لقاطن المدينة. مَن منا لا تسرّه الجمالية البصرية الأخّاذة التي تطالع الناظر والزائر لمدينة عمان في حدائق الحسين وحدائق الطيور وحدائق المدينة الرياضية وغيرها من الحدائق المشيدة في شرق عمان وجنوبها، ولكنْ ثمة خلط في بعض الحالات عند تشييد الحدائق بين مفهوم الحديقة كمكان طبيعي يمتلئ بالأشجار والهواء النقي، وبين مفهوم الحدائق التي تختلط فيها مرافق الترويح من مطاعم وباعة وأصوات موسيقية. فالحدائق بمفهومها الجمالي الاجتماعي والنفسي والترويحي أماكن تكاد تكون شبه «محميات طبيعية»، حتى إن مرافق بيع المنتوجات الأثرية والاستهلاكية والغذائية توضع في خارجها. أما في حالتنا المحلية، فإن بعض الحدائق يخنقها ضجيج الأصوات وتعكّر صفوها روائح الأطعمة، مما يسبب تشويشاً في التأمل البصري والسمعي للزوار.

ما وصلت إليه عمان من تطور عمراني وجمالي، شكّلَ نقلة نوعية ضمن الإمكانيات المتاحة، وتبقى عمان مدينة جميلة متفردة بمذاقها الخاص، فمن صخور جبالها الدافئة المفعمة بالطاقة وحرارة الإنسان، شيّد الأردنيون عاصمتهم الحبيبة، وسطروا على جدرانها وأزقتها حكايات الفرح والحب، متطلّعين للمعاصرة والتحديث.

* أستاذ النقد الفني والجمال- الجامعة الأردنية

فضاء مفتوح يقود إلى «صحن العاصمة»
 
01-Feb-2010
 
العدد 8