العدد 8 - الملف
 

بيني وبين عمان أواصر لم أعرفها يوماً تجاه أي مدينة من المدن الكبرى والصغرى في الشرق والغرب، وارتباطي بهذه المدينة ليس لجمال عمارة أو بهاء هندسة أو شهرة في أمر من الأمور، أو لأني واجدة فيها سعة رزق أو ثروة من تلك التي يسعى إليها طلاب المادة أو رواد التجارة، بل إن ثمة هندسة روحية تجذبني إلى روحها، وتكويناً وجدانياً يحتوي تكويني، وأحس أن قدري مرتبط بهوائها وترابها وياسمينها وتضاريس جبالها وشجر زيتونها.

وهي فوق هذا وذاك موئل نجاتي من وحشة الترحل والتغرب والتشرد، ولي فيها تجليات روح عثرت على مرادها، ونفس أمنت في سلام هذه المدينة من اضطراب أحوال العالم، وهي المدينة الأميرة بين مدائن العرب والجليلة بين الحواضر.

يرتبط المكان عند الشيخ ابن عربي بأربعة أمور: الرحلة، والتجربة الروحية، ولقاء الرجال والنساء، والكتابة، وعمان حققت لي ما جاء في توصيف ابن عربي لارتباط المرء بالمكان المرتجى.

والمدن كما يقول ابن عربي، ليست سواء في رتبتها وتأثيرها وكثافتها الروحية، قياساً على تفاضل المنازل والمقامات الروحانية، فوجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر روحانية وفضلاً من وجودها في أمكنة أخرى.

في عمان أحس اكتمالي، وفي سواها من الأمكنة ينقص مني الكثير وتتبدد مني كثرة من دواعي الوجود، فهي مدينتي الشافية ومانحة البرء من متلازمة المنافي وعذاب التغرب، وإذ أمشي في طرقاتها وأتنسم أشذاءها، أتيقن أنني أعبُر عتبات السلام وأستعيد وهجة الإبداع.

عمان ليست المباني ولا الأسواق ولا الشوارع الممهورة بالنظافة، إنها قيمة أخرى في فرادتها وانفتاحها على آفاق إنسانية وثقافية بتبصر ووعي وثقة.

***

عمان نجمة الصباح، أو هي نجمة القطب ودليل خطوتي إلى مستقري ومشغل قلمي وموئل راحتي.

هي الأميرة الجليلة؛ تاجها الحياء وشيمتها التواضع. تمضي بلا ضجيج في عصر التحولات. سيدة حسناء تغوي بتمنعها، وتسحر بوضوحها، وتبهرنا بصفات لا يتعرف إليها المسافر العابر، ولا السائح المتعجل الباحث عن السطوح البراقة للمدن الاستهلاكية المهلكة.

لا يعرفها التاجر الساعي إلى اكتناز الثروات، ولا ذلك الذي يلهث بين المهرجانات والمؤتمرات فلا يرى منها غير صالات الفنادق والمطاعم والبارات ومجالس الحوار التي تنقلب إلى جلسات نميمة.

ولا يعرفها ذلك المقيم الجاحد الذي منحته الآمان والسكن والحنان فلم يبادلها كرماً بكرم بل أشاح عنها واختلق المعايب لمغانيها. وكم من أناس نعموا بخير أمانها وسلامها وجمالها يدّعون فيها ما ليس لها من قسوة و ما ليس فيها من جفوة وما ذلك إلا انعكاس خللهم الروحي ونظرتهم القاصرة للمدن وأسرارها، فالمكان ليس بما فيه حسب بل بالعين التي تراه.

عمان المدينة الكتوم في ألفة القلب، صفاتها مكنونة في جوهرها، لا تكشفها إلا لمن يحبها ويتمعن في سبر أغوارها، ولا تهبها لغير عشاقها -من أمثالي - المتلبثين بين حنانها وسلامها.

***

للمدن المعاصرة الغارقة في طوفان الثروات، هوس بعمارات شواهق ومبانٍ ضخمة وأسوار ومتاهات وناطحات سحاب.. مدن تشوه أفقها أبراج الإسمنت وتحيلها إلى مدن قاسية موغلة في التغرب.

ولعمان بين المدائن العربية أنفاس عطرة وأفق حيوي وزهو طبيعة نضرة وخصوصية نظافة وأناقة قل نظيرها في عاصمة عربية.

كم أخشى على ألقها الشمسي وزرقة سمائها من اكتساح الأبراج الكونكريتية وعمارات الزجاج والمباني الهجينة التي لا تنتمي إلى روحانيات مجتمعها وذاكرتها التاريخية ومتطلبات عيشها اليومية. وكم أخشى عليها من هيمنة العمائر الغريبة التي تختزل إنسانية المدن إلى تجارة، وروحانية الأمكنة إلى ضجيج آلات ودخان مكائن وهرج أغانٍ لا تنتمي إلى بهائها الهادئ.

زرت عديداً من المدن؛ عربية وأوروبية وآسيوية، وعشت سنوات في مدن كبرى، وأمضيت نهارات وليالي أتفحص تلك المدن علّني أجد لي فيها خيط تواصل روحي أو معنى يتلبث في طوايا القلب أو يرعش الجوارح، فما عدت إلا خائبة المسعى، فبعض المدن لها أرواحها السخية البسيطة التي تألفك وتألفها، وبعض المدن لها أرواحها الطاردة الفظّة التي ترفع أمام وحشتك أصابعها المحذرة وتقول لك: «أنا لست لأمثالك، وأنت لست مني، وذاكرتك لا تتسع لما يتطلبه المكوث لدي».

***

في عمان متسع للثقافة المنفتحة، وفيها مديات للتواصل مع العالم، مثلما فيها متسع للعزلة المطلوبة للكاتب، وفي مقاهيها العريقة الأنيقة متسع للحوار والبهجة، وفي متنزهاتها السخية فسحات للترويح واللعب والتمتع بجماليات الفن وشمس الجبال.

في عمان متسع لما نشاء من حرية التجوال والتأمل في زوايا بعض «كافيهاتها» الهادئة وأحيائها العتيقة بعمارتها التقليدية البديعة وشجرها السامق وفتنة حدائقها.

في هذه المدينة التي ما أحببت سواها، بعد بغداد، أمنت على نفسي في حماها الآمن وبين أناسها، وسعدت بها وأنا أعيد تشكيل علاقتي بالأمكنة التي نادتني روحانيتها وأفعمت قلبي بركاتُها، ولا بأس هنا أن أستعيد بضع عبارات مما كتبته عنها في كتابي «يوميات المدن»:

«عمان التي تتقن صياغة المطر من نشيج الغيم، وتجيد مراقصة الضوء في غسق الغابات، هي نفسها التي تغوي صمتي العتيق وقلبي الدامع بصخب فتوتها حين كانت تشير لي: أن تعالي أيتها السيدة المثقلة بإرث الجاحظ والحلاج وإخوان الصفا وراويات سومر وكاهنات بابل. تعالي يا امرأة عايشت الموت واللهب وشهدت ما شهدت وكابدت ما يعجز عنه الكلام، تعالي أريحي رأسك المتعب على سفوحي وبين ملامحي، تعالي ولتكن لك في جهاتي هدنة العائد من حرب الوجود إلى الوجود، تعالي فها هنا لك بين أهل بيتي مقام ومقال، أريحي خطاك هنا وتريثي برهة في مساء الياسمين وغادري شجن الروح المعتق من ألف عام وألف محنة وعذاب».

وقلت فيها ما لم أقله في مدينة: «كثيراً ما كانت ملامح عمان وروائحها تراود أحزان غربتي وتشردي كمثل بيت الأهل في أول الصبا، كمثل راية النجاة وسط مخاطر الغاب،كمثل جسر يفضي من متاهة الى سبيل ضوئي،كانت عمان تلوح لي وأحاورها من تلك الأقاصي الغريبة وتغوي أحلامي بها من دون سواها من مدن الأرض».

من كل هذا الذي بيني وبين عمان المدينة وعمان المكان الروحاني، أشفق على المدينة التي أحب واعشق من هجنة العمارة وطوفان المباني اللاإنسانية التي تفرض قيما ثقافية واجتماعية واقتصادية بنوع من العجرفة الباردة، وتختزل المدينة إلى سوق وتقزم الإنسان إلى رقم استهلاكي مستلب، تقصيه مغريات ثقافة الاستهلاك عن نفسه وذاكرته ولغته والثيمات التنويرية من تراثه الثري.

أرجو لعمان أن تديم نفحات الطبيعة في أرجائها ولا تستسلم للكونكريت والزجاج العاكس والفولاذ القاسي وأن تقيم صروحها بالحجر الأبيض والقرميد وتحرس مبانيها بقامات الصنوبر والزيتون والتين ولا تفرط بخصوصيتها ولا تنزع إلى مزيد من الهندسة المتغربة في صروحها الجديدة، فثمة مدن عربية جعلتها هجنة العمارة مسوخاً، لا هي شرقية ولا غربية، فقدت شخصيتها ونأت عن بيئتها.

فلتكن عمان نفسَها، لا تسعى للتشبه بسواها، ولا تتغاضى عن سمات تجعل منها عاصمة حية، بتضاريس روحية ومديات فكرية وعمارة حميمة تصون إنسانية ساكنيها وتتيح لهم أفقاً من سماوات ومشهداً من طبيعة لم تتشوه ومبان تشير إلى نسق عمّاني وشرفات تظللها عرائش العنب والياسمين ونفحات الأمان.

أقول لعمان: كوني الشمسَ في عتمات حاضر عربي كدَّرته الحوادث والمحن. عمان أنت المدينة العذبة وسط مرارة المدن المبتلاة، ليكن اسمُك السلامَ، ولتكن صفتُك البقاءَ، وليكن أمانُك مؤبداً وبلسماً لمن شاء النجاة.

*كاتبة عراقية تقيم في عمان

الأميرة بين مدائن العرب
 
01-Feb-2010
 
العدد 8