العدد 8 - الملف
 

هناك ما يزيد على 140 حديقة منتشرة في مناطق عمان، تتفاوت في المساحة والإمكانات، وترى أمانة عمان الكبرى أن توزيعها يتناسب مع التوزيع الديموغرافي للمدينة، لكن لسان العمّانيين ما زال يهتف: هل من مزيد! في وقت ما زال فيه ارتيادُ حديقة لدى كثيرين «سلوكاً غريباً»، و«مستهجناً» لدى آخرين.

الأمانة ومن خلال إستراتيجيها الجديدة ومشروع إعادة الهيكلة، جعلت موضوع الحدائق في عمان من أبرز أولوياتها، كونه يسهم في تحقيق رؤيتها «لتكون عمّان مدينة منظّمة، عصرية، آمنة، جاذبـة، ذات روح، قابلة للحياة، تعتـز بتراثها وأصالتها» كما ورد في الموقع الإلكتروني لـ«الأمانة».

يبرز هذا الاهتمام من خلال فِرق الأمانة وكوادرها المنتشرة في المناطق الغربية والشرقية لعمّان، وفي المناطق التي ضُمّت حديثاً، والتي تعمل على إنشاء حدائق جديدة، وتأهيل القائم منها، بحسب مدير دائرة الحدائق في أمانة عمان نبال قطّان.

قطّان تولى منصبه هذا منذ أربعة أعوام، بعد أن أمضى سنوات خدمته بالعمل الميداني في إنشاء الحدائق. يشرح لـ ے، أن الأمانة تقوم في كل عام بكشف على المناطق السبع والعشرين التابعة لها. ويضيف: «نتعرف على حاجة كل منطقة من الحدائق الجديدة أو تأهيل القديم منها».

يبين قطّان أن «الأمانة» أنشأت العام 2009 وحده ثماني حدائق، إضافة إلى تأهيل ست حدائق قديمة، «وفي خطة العام 2010 سيتم «تأهيل ثماني حدائق، وإنشاء ست حدائق جديدة».

العمل في هذا المجال يصطدم بفكرة اجتماعية راسخة، حول ثقافة ارتياد الحديقة وزيارتها، فما زالت إقامة الحدائق حتى الآن تثير حفيظة بعضهم، وتلقى عدم قبول منهم. الخمسيني أبو محمد يؤكد: «إحنا الأردنية نحب نروح على أماكن فضا وشجر، بس لما تقول لواحد تعال نروح على حديقة يستغرب.. يعني تقدر تقول فيها تناقض».

يعيد المحامي يوسف سليمان الفكرة نفسها، لاعتقادٍ سابق عززته أحداث ووقائع عملية بأن «كثيراً من الحدائق كانت مَلمّاً لأصحاب السوابق»، لذلك تتجنب العائلات الذهاب إلى الحديقة خشية الاشتباك معهم، أو «حتى مجرد رؤيتهم مع أفراد العائلة في مكان واحد».

سليمان ينبّه إلى أننا «مجتمع محافظ بالمجمل»، وفي المخيال الجمعي أن الحدائق هي «مكان لقاء الحبّيبة»، كما كان دارجاً قبل شيوع المطاعم والمولات، وهو ما يصيب الأب بالحرج من اصطحاب زوجته أو ابنته أو حتى ولده إلى الحدائق، في الوقت الذي يتوقع فيه «أن يرى شيئا مخلاًّ بالآداب».

مع هذا الإرث الاجتماعي «السيئ» مع الحدائق، فإن حاجة الفرد إلى الشعور بالأمان في الأماكن العامة، تبدّد فرص ذهابه إلى الحدائق، بحسب سليمان الذي يستدرك: «النظرة تغيرت الآن كثيراً بسبب الثقافة، وبسبب العناية بالحدائق وإنشاء حدائق كبرى ومناسبة للعائلات، فيها ملاعب وأماكن مكشوفة ومرافق عامة، كما أنّ رؤية شاب وفتاة معاً لم تعد تعني بالضرورة أن هناك أمراً سلبياً يحدث».

قطّان يؤكد أن الأمانة أنهت أربع دورات لتأهيل حرّاس الحدائق مع الأمن العام، وتلقّيهم دورات تدريبية للتعامل مع المواطنين والتعاون مع الشرطة لمساندتهم في الحالات الخطرة.

لكن، لمخاوف المواطنين أساس، ففي العام 1999، وعندما أقيمت حديقة الألفية في تلاع العلي، لاحظ أمجد فاخوري الذي تسلّم مشروع تأهيل الحديقة، أن «الأمور بدأت بالخروج عن السيطرة»، وأن الحديقة بدأت تستقطب شباناً مراهقين يشكلون خطراً على الزوار، وآخرين جعلوها مكاناً لتعاطي المخدرات، بخاصة في ساعات الليل، بحسب فاخوري، ما زاد في الشكاوى المقدَّمة على الحديقة.

فاخوري بدأ بفكرة الإنارة الليلية للحديقة، وإزالة الشجر الذي يحجب الرؤية، ثم تشكيل لجنة أصدقاء الحديقة من الشبان وأهالي الحي، لتصبح اللجنة رديفاً للأمانة في المحافظة على الحديقة ومتابعة مرافقها، ومحاسبة المخالفين.

بعد ذلك، تمّ تشكيل فريق كرة قدم ولجنة نشاطات، لتنتقل مسؤولية الحديقة من الأمانة إلى أهل الحيّ، «حتى إن بعض الشبان الذين كانوا يصنَّفون على أنهم سيئون، انضموا للّجنة بإرادتهم» بحسب فاخوري.

الإنجاز تحقق بجهد شخصي وتطوعي خارج ساعات الدوام، بذله فاخوري الذي تحدّث إلى الأهالي، وأشركهم في العمل الجماعي. نجاح الفكرة أدى إلى تطبيقها في حديقة الأميرة رحمة لتصبح هي الأخرى أنموذجاً، وكذلك في حديقة ضاحية الحسين التي كانت مكبّاً للنفايات نتيجة الإهمال وسيطرة أصحاب السوابق عليها، كما يقول أهالي في المنطقة.

يقول أحمد بايزيد، أحد أعضاء لجنة الحي التابعة لحديقة ضاحية الحسين، إن فاخوري «قلبَ الأمور رأساً على عقب هنا، فالحديقة تتوسط مباني ومجمعات سكنية، وكان تواجد (الزعران) مقلقاً لنا، بخاصة أنه لم يكن لنا متنفس سوى تلك الحديقة التي تم احتلالها بالمعنى الحرفي، ثم جاءت الأمانة وجرفت الحديقة وأهّلت أرصفتها وزرعت الأشجار، وأعادت الحياة للحي من جديد».

يضيف بايزيد: «قمنا بتشكيل لجنة أصدقاء الحديقة من ذوي الأعمار 13-19 سنة، ولجنة الحي من مختار المنطقة وعدد من المواطنين، للحفاظ على الحديقة، ومنع غير المرغوب فيهم من الدخول إليها، وأصبحت رئةً للمنطقة من جديد تمارَس فيها نشاطات غنائية واجتماعية في المسرح التابع لها».

ولدى السؤال: هل يمكن تعميم التجربة في شرق عمان التي يعاني كثيرٌ من حدائقها من الإهمال؟ أجاب فاخوري بثقة: «الناس هناك يحتاجون للدعم لإظهار تعاونهم، وسبق أن عملت في القويسمة ورأيت طاقات شبابية رياضية واجتماعية من الممكن أن تُستغل وتنمَّى، ويمكن للحدائق أن تكون ميداناً لذلك».

الحدائق في شرق عمان ربما تكون المتنفس الوحيد للمواطنين هناك، لأنها لا تتطلب تكلفة مادية عند ارتيادها، ولافتقار المناطق هناك لأماكن الترفيه كما هي الحال في مناطق غرب عمان، التي يجد ساكنوها خيارات متعددة من الفضاءات العامة للترويح عن أنفسهم وممارسة نشاطاتهم الترفيهية.

لكن هناك شريحة تعزف عن ارتياد الحدائق العامة، بخاصة من قاطني مناطق غرب عمّان، ولكلٍّ منهم مسوّغاته. تقول لينا، أمّ ثلاثينية تسكن في دابوق: «لا أتوقع أنه من السهولة أن أصطحب أولادي الثلاثة إلى حديقة عامة، فهم أولاً يفضّلون المولات، لأن الحدائق مزدحمة ولا تتوافر فيها وسائل الراحة المناسبة، كما أنّنا نفضّل السفر على التواجد في البلاد خلال الإجازات».

توافقها صديقتها، لكنها لا تفضّل كما تقول الذهاب إلى حدائق الحسين مثلاً، رغم توافر الإمكانات المناسبة فيها، فـ«كل عمان نلاقيها فيها».

رغم العزوف، تشهد الحدائق في غرب عمان ازدحاماً كبيراً، وبخاصة في العطل والإجازات، لاتساع مساحاتها وتوافر المرافق العامة فيها، و«هي من ناحية جمالية تتلقى عناية أكثر، خلاف الحدائق في شرق عمان، إذ تخصَّص لها مبالغ مالية أكبر» بحسب مهندس في الأمانة فضّل عدم نشر اسمه.

ولعلّ هذا ما دفعَ الأمانة، بالإضافة إلى تنفيذ توجيهات ملكية صريحة كان أطلقها الملك عبدالله الثاني قبل سنوات، لإيجاد متنفس مناسب لأهالي شرق عمان.

يقول مدير دائرة الحدائق في الأمانة قطّان: «بدأنا العمل لإنشاء حديقة تماثل حدائق الحسين في غرب عمان من حيث المساحة والتنظيم والإمكانات، ونفذنا السور والبئر الارتوازية وشبكة الحصاد المائي، وهي تحتاج لمدة عمل من المرجح أن تمتد لثلاث سنوات».

هذا الجهد يصطدم بمعيقات من بينها الثقافة السائدة في المجتمع، وطريقة تعامل المواطن مع المرافق العامة في تلك المناطق الفقيرة المزدحمة. بسمة مبيضين، التي تعمل مهندسة في الأمانة، تقول: «من المؤسف أننا نبذل جهدنا في العمل على حديقة تخصص لها الأمانة جزءاً كبيراً من ميزانيتها، ثم تتعرض الحديقة بعد أيام، وربما بعد ساعات من افتتاحها، للتخريب»، لافتةً إلى أن هذا يحدث غالباً في الحدائق في شرق عمان، حيث يقوم بعضهم بسرقة الحديد أو محتويات الحديقة وبيعها، ويمارس بعض الأطفال التخريب لمجرد التسلية. «إنها ثقافة مجتمع يجب العمل على تغييرها»، تقول مبيضين، وفي البال صورة من العام 2007 ما زالت عالقة في أذهان إعلاميين حضروا افتتاح حديقة الملكة رانيا في القويسمة، عندما هجم فتيان على مقتنيات الحديقة بمجرد مغادرة الملكة رانيا وانتهاء مراسم حفل الافتتاح.

إلا أن قطّان يصر على أن الاعتداءات على ممتلكات الحدائق العامة لا علاقة لها بالجغرافيا، وإنما بالثقافة والتنشئة. ويقول: «هناك حالات اعتداء على الحدائق رُصدت في منطقة عبدون مثلاً، ذلك أنه لم يتم تكريس ثقافة الحدائق بالشكل المناسب سابقاً»، مشيراً إلى أننا نحتاج إلى «رفع ثقافة الناس بأهمية المساحات الخضراء في المدن، وأهمية ذلك للبيئة في المستقبل، ويجب تعاون الجميع في زرع هذه الثقافة».

إنشاء الحدائق يتطلب تكلفة مالية، كما يتطلب جهداً كبيراً بعد الإنشاء، من متابعة شؤون الحديقة، وإدارة مرافقها وحمايتها. لذلك استقطبت «الأمانة» القطاع الخاص لمشاركتها في تنفيذ عدد من الحدائق، بالإضافة إلى مدخل مطار الملكة علياء بالتعاون مع عدد من الشركات، مثل: دبي كابيتال، شركة أمنية، المدارس الأميركية، ويونيفيرسال.

ورداً على القول إن التحدي المائي الذي تواجهه البلاد يتناقض مع ما تقوم به «الأمانة» من توسع في إنشاء الحدائق ومكافحة التصحر في العاصمة، يؤكد قطّان: «لا تستخدم الأمانة ماءً عذباً على الإطلاق في ري الحدائق»، موضحاً أنه تم «استخدام فكرة الحصاد المائي في عدد من الحدائق الكبرى الجديدة، وإنشاء آبار ارتوازية، كما أن جميع الحدائق والجُزر الوسطية ومشاريع مكافحة التصحر التي تنفذها الأمانة يتم ريها من المياه العادمة المعاد تدويرها، والتي لا تصلح للاستهلاك البشري».

محطة أبو نصير زودت الأمانة في العام 2009 بنحو 28 ألف متر مكعب، استُخدمت لري الأشجار المزروعة على طول شارع الأردن. وهناك مشروع الحصاد المائي في حدائق الحسين، حيث سعة البئر الارتوازية فيها 13 ألف متر مكعب، وهناك بئران في رأس العين، نسبة الحديد فيهما عالية، كما تُستخدم مياه بركة الجيزة في ري حديقة مثقال الفايز طوال الصيف بما مقداره 100 ألف متر مكعب.

من أبرز مشاريع الأمانة لزيادة المساحات الخضراء، مشروع مكافحة التصحر بين ماركا والقويسمة، الذي بدأ العمل به العام 1995 إبان تولي ممدوح العبادي أمانة العاصمة، حيث تم إنجاز 8500 متر مربع، وبوشر في إعادة تأهيل «مكبّ البيضا» هناك.

يستذكر العبادي كيف بدأت فكرة المشروع، عندما تقدَّم مهندسون في «الأمانة» بطلب إنشاء كسّارة، وعندما ذهب للكشف على الموقع تفاجأ بآلاف الدونمات التي تعود ملْكيتها للأمانة، بعد ضم منطقة أبو علندا لحدودها، فطرح اقتراحاً في اللحظة نفسها، مخاطباً المهندسين في الموقع: «شو رايكم نسوّيها جنينة؟». اعتقد بعضهم أنها نكتة، لكن العبادي كان جاداً، ورد على من قال بشح المياه، بحفر بئر ماء هناك تنتج 120 متراً مكعباً في الساعة، واقترح إنشاء خزانات على رؤوس الجبال هناك، وري آلاف الغرسات من الأشجار بالتنقيط لاحقاً. وعلى مدار خمس سنوات قبل أن يغادر العبادي موقعه، زُرع نصف مليون شجرة، بمعدل 100 ألف شجرة سنوياً، ليصبح الموقع اليوم غابةً ملفتة تجاور مساحات جرداء مملوكة لمواطنين هناك.

سعيٌ للموازاة بين شرق عمان وغربها بعضهم يفضّل العاصمة بلا حدائق!
 
01-Feb-2010
 
العدد 8