العدد 8 - الملف
 

محمد فحماوي الذي يعمل منذ 8 أعوام موزّعاً لعبوات مياه الشرب، كان معتاداً إلى ما قبل عامين أن يتلقى اتصالاً هاتفياً من زبون جديد يخبره أن منزله يقع قريباً من السوبر ماركت الفلاني، وكان ينفق، في العادة، وقتاً كبيراً وهو يدور من شارع إلى آخر يسأل المارة عن المحل المقصود، وحدث كثيراً أنه لم «يستدلّ»، بخاصة في الحالات التي لا يكون في الجوار فيها محال تجارية أو معالم معروفة، فكان يحصل على عناوين من قبيل «بيت على طلعة»، في منطقة تلاع العلي الشمالي التي هي كلها كما يقول: «طلعات ونزلات». منذ عامين اختلف الوضع، فقد صار يتلقى من زبائنه عناوين بالغة الدقة تضم أسماء شوارع وأرقام مبانٍ، وهي منظمة بآلية معينة تجعله يتعرّف على العنوان المقصود بسهولة، ودون أن يكون مضطراً لـ«مسح الشوارع».

الأمر نفسه عانت منه ميس زريقي، التي تعمل في مطعم للوجبات الجاهزة، حيث تتلقى طلبات التوصيل المنزلي عن طريق الهاتف.

قبل أعوام كانت الأمور بالغة الصعوبة عليها، لأنها كانت تمضي وقتاً طويلاً في تلقي وصف تفصيلي للعنوان، وفي إبلاغه للسائق الذي لم يكن يفلح دائماً بالوصول إلى المكان المقصود، لتتم معاودة الاتصال بالزبون، أحياناً غير مرة، فيما كان بعض الزبائن يضطرون إلى الخروج من منازلهم وملاقاة السائق في منطقة وسطى، عند تعذّر تعرّفه على العنوان، وربما «يبرد الطعام أثناء توهان السائق، فيعود إلى المطعم ويستبدل الطلبية».

الآن، كما تقول زريقي، انخفضت مدة مكالمة تلقي الطلب من دقيقة إلى بضع ثوان، لأنها أصبحت مقتصرة على اسم الشارع ورقم البناية، وانخفضت معها المدة التي يطلبها المطعم كمهلة لإيصال الطلب من نصف ساعة إلى 15 دقيقة في حدها الأقصى.

وفْرٌ في الوقت والجهد والمال، هذه هي ثمار مشروع التسمية والترقيم الذي بدأت أمانة عمان الكبرى تنفيذه مطلع العام 2007، استكمالاً لمشروع تسمية المدينة وترقيمها المستمر منذ 1987.

الأمانة كانت أنجزت 16 منطقة عندما قررت مطلع 2007، تطبيق نظام جديد للترقيم استبدلت بواسطته أرقاماً كبيرة نافرة بلوحات معدنية كانت تثبت على المباني، ليحفزها نجاح هذا النظام بعد ذلك على إدخال آلية جديدة في التسمية تقوم على استخدام لوحات مثبتة على أعمدة.

آلية الترقيم الجديدة بُدئ تطبيقها في الشوارع ذات الصبغة التجارية، تلك التي تضم مكاتب ومعارض ومحلات تجارية، مثل شوارع الملك عبد الله الثاني، الملكة رانيا (شارع الجامعة)، سالم القضاة (الوكالات) في الصويفية، وصفي التل (الغاردنز)، وشوارع منطقة وسط البلد، مثل قريش (سقف السيل)، طلال، والهاشمي، ثم انتقل التطبيق إلى المناطق السكنية.

فكرة الترقيم أن الأرقام النافرة، إضافة إلى الجانب الجمالي، أسهل للرؤية، بخاصة للذين يقودون سياراتهم، كما تقول أمل العسلي، التي كانت تجد صعوبة في التركيز على ما هو مدوّن على اللوحات المعدنية الصغيرة أثناء قيادتها السيارة.

عملية الترقيم اعتمدت آلية محددة تقوم على ترقيم المباني، ابتداءً من أقرب نقطة إلى مركز المدينة، بحيث تُرقَّم المباني التي تقع على يسار السائر وظهره إلى المركز أو العنصر الطبيعي، بالأرقام الفردية المتسلسلة ابتداءً من الرقم 1، وتُعطى المباني على يمين السائر الأرقام الزوجية المتسلسلة ابتداءً من الرقم 2، وفي نهاية الطريق، يتم استئناف عملية الترقيم وفقاً للآلية نفسها ابتداء من الرقمين 1 و2، وإذا كانت قطعة الأرض تضم أكثر من مبنى، فإنها تُعطى الرقم نفسه، مع تمييز كل منها بأحد الأحرف أ، ب، ج.

نجاح نظام الترقيم الجديد حفز الأمانة مطلع 2008، على تطبيق نظام تسمية جديد يقوم على استخدام أعمدة مثبتة في قواعد خرسانية يشتمل كل واحد منها على ست لوحات باللغتين العربية والإنجليزية مكتوبة بمادة عاكسة، يحمل كل منها اسم الشارع، وسهماً يحدد اتجاهه، إضافة إلى أرقام المباني القائمة فيه. وفي حالة الشوارع التي تمّ تغيير أسمائها، أبقت الأمانة على الأسماء القديمة أسفل الأسماء الجديدة، أخذاً في الحسبان أن كثيراً من هذه الأسماء ما زال متداوَلاً بين الناس.

محمد عبد الله أبو الأمين، سائق تاكسي منذ 14 عاماً، يقول إن نظام تسمية الشوارع والأبنية وترقيمها، مطبق في العاصمة منذ سنوات طويلة، إلا أن الناس لم يكونوا يعتمدونه في عناوينهم. وهو ما تؤكده العسلي التي ترى أن الآلية القديمة المعتمدة على لوحات معدنية مثبتة على المباني، لم تكن تحفزهم على ذلك.

أبو الأمين يلاحظ أن الناس كانوا يستخدمون «أوصافاً بدائية»، ويقول إن راكباً طلب منه مرة أن يعدّ المطبّات كجزء من العنوان الذي أعطاه إياه. ويضيف: «كان يحدث أن يصف لي الراكب العنوان، وعندما أذكر له اسم الشارع بناء على العنوان الذي زودني به كان يقول إنه لا يعرف، ثم أكتشف بعدها أنه يقيم في هذا الشارع من دون أن يعرف اسمه».

وزير البلديات السابق شحادة أبو هديب يلفت إلى أن الناس قبل سنوات كانوا يفتقرون فعلاً إلى «ثقافة» العنوان المعتمد على الرقم واسم الشارع، وهو أمر لا يراه الزائر لدول أخرى، عندما يجد أن بإمكانه الوصول إلى أي مكان بوساطة خرائط تفصيلية للمدن والبلدات اعتماداً على أسماء الشوارع وأرقامها.

الناس في الأردن، لم يكونوا مضطرين إلى ذلك في الماضي، كما يقول أبو هديب، فالمدينة لم تكن مكتظة بالمباني كما هي الحال الآن. «كان يكفي، مثلاً، أن أقول لأحد ما: خلدا، مئة متر يمين الإشارة الضوئية ليهتدي للعنوان، الآن خلدا عامرة بالإشارات الضوئية والمجمعات التجارية وغيرها من المعالم التي لم تعد بارزة».

من هنا تنبع، بحسبه، أهمية مشروع التسمية والترقيم الذي جاء ليلبي «ضرورة ملحّة» لدى الناس، لم يفرضها اكتظاظ المدينة فقط، كما يرى، بل فرضها أيضاً التغير في أسلوب حياتهم الذي أصبح أكثر فأكثر معتمداً على إيصال الخدمات إلى منازلهم.

إنجاز كبير وخلل في الإجراءات

مقابل هذا الجانب المشرق، هناك جانب آخر، يتمثل في الخلل الذي طبع إجراءات إحالة المشروع كعطاء، ما حوّله من «إنجاز» إلى «فضيحة» بحسب تعبير الكاتب في صحيفة العرب اليوم فهد الخيطان.

الخلل الذي شاب الإجراءات كان ختامه إصدار مجلس أمانة عمان يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2009، قراراً بتلزيم المشروع للشركة العالمية للصناعات الهندسية المتعددة، في حين أن هذه الشركة كانت نفّذت المشروع على أرض الواقع، أي أن قرار تكليف الشركة بالمشروع تمّ بأثر رجعيّ.

الواقعة أقرّت بها الأمانة، ففي مقابلة مع العرب اليوم، في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2009، قال مدير المدينة عمار غرايبة إن مسؤولي الأمانة اكتشفوا «تكاثر الأعمدة الخاصة بالتسمية والترقيم وازدياد أعدادها بصورة ملفتة»، بحسب غرايبة، فإن المسؤولين عندما سألوا المدير السابق لدائرة التسمية والترقيم مروان عليان، أقرّ بأنه أصدر للشركة أمراً بالتنفيذ، من دون المرور بالإجراءات الرسمية المعتادة، ومن دون الحصول على موافقات الجهات المعنية، على المشروع «الذي بلغت تكلفته مليوناً وثمانمئة ألف دينار».

مصدر مسؤول داخل الأمانة، طلب عدم الكشف عن هويته، قال إن ما حدث مجرد «خلل إداري بسيط» اكتشفته الأمانة وقام الأمين بتصويبه داخل المجلس.

الأمانة «اضطرت» بعد ذلك إلى تلزيم المشروع للشركة، بعد التوصل إلى تسوية، وهي خصم مبلغ ثلاثمئة وثلاثين ألف دينار تقريباً، وهي تسوية أطلق عليها عضو مجلس الأمانة أحمد العابد «محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه». العابد، وهو رئيس اللجنة المحلية لمنطقة النصر، كان أحد خمسة أعضاء استقالوا من لجنة شؤون الموظفين في المجلس احتجاجاً على خلل الإجراءات.

«الخلل شابَ إجراءات المشروع منذ البداية»، كما يقول عضو مجلس أمانة عمان، ورئيس بلدية مرج الحمام محمد المناصير، فالقانون ينص على أن الأصل هو أن تُطرح المشاريع في عطاءات عامة، لكنه سمح بالتلزيم عن طريق التفاوض بشروط خاصة «خُرقت جميعها»، بحسبه.

المناصير الذي كان أيضاً أحد الأعضاء المستقيلين، قال إن الأمانة طرحت العديد من العطاءات لهذا المشروع، لكنها كانت كلها «صُورية».

وفق مصدر آخر من داخل الأمانة فضّل أيضاً عدم الكشف عن اسمه، فإن العطاء نفسه وابتداء من منتصف حزيران/يونيو 2008، وإلى نهاية 2009، أعيد طرحه وتلزيمه أكثر من مرة، بسبب اعتراضات متكررة من ديوان المحاسبة على إجراءاته.

كل ذلك كان يسير بموازاة تصريحات صحفية ترصد تقدم المشروع، كان عليان بدأ يدلي بها للصحف المحلية منذ مطلع العام 2008، ما يثير التساؤل حول مدى صحة مقولة إن الأمانة «فوجئت» بالتنفيذ، بخاصة أن بعض هذه التصريحات منشور على الموقع الإلكتروني للأمانة نفسها.

في الوقت الذي يؤكد فيه المصدر المسؤول «اتخاذ الضوابط الإدارية كافة لمنع تكرار الخلل»، فإن الخيطان يرى في تصريح لـ ے أن ما حدث يعكس «تسيّباً إدارياً هائلاً»، ويبدي استغرابه من عجز الأمانة عن ضبط إجراء بسيط تضبطه أي مؤسسة تقليدية، في حين أنها تقدم نفسها بوصفها «نموذجاً في الإدارة الجديدة».

شابت تنفيذَه شبهات - «التسمية والترقيم»: ضرورة فرضها اكتظاظ المدينة وتغير أسلوب حياة السكان
 
01-Feb-2010
 
العدد 8