العدد 3 - من حولنا | ||||||||||||||
بدأ المؤتمر استثنائياً، لجهة انعقاده على أرض فلسطين، بعد 20 عاماً على انعقاد سابقه في تونس. وشهدت بعض جلساته سخونة وأجواء من الاحتقان، وتلاسناً في بعض كواليسه، واتهاماتٍ بالتزوير بعد انتخاب أعضاء اللجنة المركزية (الهيئة القيادية الأولى للحركة)، بخاصة وأن أسماء من «الطراز الثقيل» أخفقت في الوصول إلى هذا الموقع، فيما فازت شخصيات رُميت بالفساد والتقصير وسوء الأداء أثناء رئاستها الأجهزة الأمنية: محمد دحلان، جبريل الرجوب وتوفيق الطيراوي. نتائج المؤتمر الذي يعدّ منعطفاً حيوياً في مسار «فتح»، تبدّت فيها إيجابيات واضحة، منها فوز عدد كبير من «شبيبة» الحركة في عضوية المجلس الثوري، وفوز النساء بـ13 في المئة من مقاعد المجلس التي جرى انتخاب 80 منها، قبل تعيين الأجهزة الأمنية 21 آخرين، والأسرى 20 أيضاً. بيد أنه لا يمكن التعمية على الكلام الإنشائي في البرنامج السياسي الذي تبنته الحركة، وفي مداخلات غير قليلة في المؤتمر، وعلى أن مراجعة جديّة واجبة لما جرى، فتحاوياً وفلسطينياً، خلال العقدين الماضيين، لم يتم بالكيفية الشفافة والمسؤولة. كما أن بحثاً معمّقاً لأسباب تمكُّن حركة المقاومة الإسلامية «حماس» من السيطرة على قطاع غزة لم يحدُث، بخاصة وأنها منعت تمثيل فتحاويي القطاع في المؤتمر، وأن مساءلةً كانت ضرورية بشأن خسارة «فتح» الكبيرة أمام «حماس» في انتخابات المجلس التشريعي في 2006 لم تتم. ولم يُجب المؤتمر عن الأسئلة الجوهرية الراهنة المتعلقة بتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، وهذا مسوغ وجود «فتح» على ما ينبغي التذكير، ما دامت المقاومة حقاً مشروعاً للشعوب تحت الاحتلال بموجب القانون الدولي، على ما ألحّ البرنامج السياسي الذي تبناه المؤتمر، وما دام خيار التفاوض ما زال مأخوذاً به، على ما تضمّنه البرنامج نفسه. لم يحسم المجتمعون في بيت لحم، وقد جاء عشرات منهم من خارج فلسطين، كيفيات المواءمة بين الصيغتين، ولم يُعلنوا خلاصات واضحة لمسار التفاوض المستمر منذ ما قبل اتفاق أوسلو في 1993، بخاصة وأن زعامات فتحاوية كانت في صدارة المفاوضين، ومنهم أحمد قريع الذي جهر بأن أفقاً مسدوداً تصطدم به عملية التفاوض. واللافت أن محمود عباس، 74 عاماً، الذي اختير بالتزكية رئيساً للحركة، صرّح في أول اجتماع للحكومة الفلسطينية بعد المؤتمر، أن طريق المفاوضات والسلام هي الوحيدة للوصول إلى إقامة الدولة الفلسطينية . ولم يتبين من مجريات المؤتمر أن مناقشاته حسمت صيغاً أكثر وضوحاً بشأن علاقة «فتح» بالسلطة الوطنية وتشكيلاتها وهيئاتها، ذلك أن التباساتٍ في هذا الأمر تحتاج إلى تظهير المسافات بين الحركة، بوصفها تمثيلاً وطنياً وشعبياً وتنظيماً كفاحياً، ومؤسسات الحكم والإدارة، بالنظر إلى التداخل الظاهر لمؤسسات الحركة بمؤسسات السلطة الوطنية، ما جعل «فتح» تتحول إلى تنظيم سلطة، يهجس كوادرها بالاحتفاظ بوظائفهم الأمنية والتنفيذية والبيروقراطية. لأن تآكلاً ليس هيّناً أصاب حضور القضية الفلسطينية ووهجها في المحيط العربي، وفي المجال السياسي الدولي، ولأن مسلسل مصادرة الأرض ونهبها والاستيطان والتهويد وعمليات القتل والتنكيل تزايدت ضراوته في ممارسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ مؤتمر «فتح» الخامس قبل عقدين، ولأن الإحباط يتفاقم، بسبب ما يحيط به من جدران تسد آفاق التسوية.. لأن المشهد تحفّ به هذه التفاصيل وغيرها، كان منتظَراً، أو مأمولاً، أن يُطلق مؤتمر «فتح» مراجعات واجتهادات وتصورات مستقبلية بشأنها، تكون أكثر استجابة لمتطلبات مواجهة هذا الواقع الصعب. يُشار إلى هذا، فيما عَرفَ المؤتمر مواقف من التوتر والمشاحنات، منها توجيه عضو في المؤتمر أسوأ العبارات للطيب عبد الرحيم، وبصوت عالٍ، والطلب بإنزاله من على منصة الحديث، وملاسنة جرت بين عباس والنائب حسام خضر، وأجواء عاصفة، في اليوم الثاني للمؤتمر بخاصة، مع تشكيل اللجان، ولعدم تقديم اللجنة المركزية السابقة تقريرها. ولا يمكن إغفال حديث أحمد قريع لـالقدس العربي بعد عدم فوزه بعضوية اللجنة الجديدة، عن «عمليات تلاعب» و«علامات استفهام» في الانتخابات، وتساؤله عما إذا كان من المصادفة فوز أربعة «منسقين مع الاحتلال»، وفقاً لتعبيره. يمكن القول إن حالة مهرجانية كلامية سادت، وإن التلهّي بتوقّعات من سيفوزون في مواقع قيادة «فتح» في اللجنة المركزية والمجلس الثوري ومن لن يفوزوا تصدّرَ مشاغل المؤتمرين، ومتابعي مداولاتهم من مراقبين ومهتمين ومعنيين. وهكذا، توجهت الأنظار إلى فوز الأسير مروان البرغوثي بعضوية اللجنة المركزية، ومعه محمود العالول ومحمد دحلان وجبريل الرجوب وتوفيق الطيراوي وصائب عريقات ومحمد اشتية وحسين الشيخ، مثلاً، ليتم تفسير نجاح هؤلاء بوصفه تجديداً شبابياً في قيادة «فتح»، ورسالة فتحاوية إلى «حماس» بعدم التهاون معها، بدلالة فوز محمد دحلان تحديداً، من دون التملّي جدّياً في الوجهة التي يمكن أن يأخذ هؤلاءُ، وهم من بين 14 وجهاً جديداً في اللجنة المركزية، الحركةَ إليها، فيما تواجه «فتح» أزمة شديدة، وتفقد مكانتها المتقدمة والتاريخية في صدارة العمل الوطني الفلسطيني. ويلحّ فتحاويون عديدون على أن المهمة الأهم للقيادة الجديدة، تتمثل في تعافي الحركة، بالعمل الوطني المتصف بالمصداقية والبعد عن الفساد والحرص على السمت الثوري والتعبوي، بالنظر إلى أن الفساد وضعف المصداقية وترهل التنظيم من أبرز سوءات كثيرة في أداء «فتح» في العقدين الأخيرين على الأقل. وتكتمل القيادة المذكورة بتعيين محمود عباس أربعةَ أعضاء آخرين، يضافون إلى تلك الوجوه، وإلى الأربعة المخضرمين، محمد غنيم وسليم الزعنون ونبيل شعث وعباس زكي. وكان ذا دلالة على ما يمكن عدّه «تخشّباً» في «فتح»، أن المؤتمرين، وهم 2355 مندوباً، لم ينتخبوا أيّاً من المرشحات الست للّجنة المركزية من بين 90 متنافساً. وليس أدلّ على شيوع الإنشائية الكلامية في أجواء مؤتمر بيت لحم، من أنه حمّل إسرائيل «كامل المسؤولية» على اغتيال ياسر عرفات، من دون أن يترتب على ذلك شيء، أو تبني إجراء ما تجاه مرتكبة الجريمة، ومن دون تعيين وسائل التحقق من هذه الحقيقة. وبمثل هذا التذاكي، كان التشديد في كلمة محمود عباس في افتتاح المؤتمر على الحقائق البديهية، من قبيل التمسك بالدولة الفلسطينية والقدس عاصمة لها وحق عودة اللاجئين، مضافاً إلى هذا التذكير بالمقاومة حقاً للشعب الفلسطيني. بهجة عباس بانعقاد المؤتمر، وفي فلسطين للمرة الأولى منذ تأسيس «فتح» قبل 44 عاماًً، جعلته يرى في الأمر «معجزة»، وهو ما يمكن أن يصير محل اعتزاز واسع، يتجاوز الحركة نفسها، إذا عاين الفلسطينيون في وطنهم، وفي الشتات، إنجازات على الأرض تحققها «فتح» في المرحلة المقبلة، وأوّلها استعادة الروح الثورية والتحررية للحركة، وإنقاذ الوحدة الوطنية والجغرافية، والتوجّه الجدّي إلى المكاشفة والمحاسبة وتغييب المصالح الشخصية. وقد أشار القيادي الجديد في اللجنة المركزية صائب عريقات إلى وجوب هذا التوجه، بوصفه التغيير المأمول والمطلوب، فيما رأى جبريل الرجوب أن انقلاباً أبيض أحدثه المؤتمر على كل «مظاهر الشلل والخلل» التي أصابت «فتح». الإقرار بوجود هذه العيوب في الممارسات الفتحاوية، على غير مستوى وصعيد، يبعث على إحياء الأشواق الفلسطينية إلى «فتح» حركةً وطنية قائدة، استطاعت اختراق النسيج الفلسطيني، وتآلفت مع النزوعات القومية والماركسية والإسلامية والليبرالية، ولا تتطلع إلى غير تحرير الأرض والإنسان، وهذا شعار قديم لم يتحقق بعد، ما يجعل الإبقاء عليه ضرورياً ومن الواجب حمايته، وهذا ما ستصوَّب إليه الأنظار بعد أن انفض مؤتمر «فتح» في بيت لحم. |
|
|||||||||||||