العدد 8 - الملف
 

في جلسة نقاش أجرتها أمانة عمان الكبرى مع ممثلي هيئات بعض المؤسسات العمّانية وبعض الخبراء في تخطيط المدن، كان أحد ممثلي الشركة الكندية Bearing Point المكلفة بإعداد المخطط الشمولي للعاصمة يقدم مداخلة حول مخططه، وفي سياق الكلام قال الخبير الكندي إنه أعد المخطط، انطلاقاً من أن عدد سكان عمان المتوقع العام 2025 سوف يصبح ستة ملايين ونصف المليون، وأن كل الخطط بُنيت على هذا الرقم. ولسوء حظ الخبير أن ممثلاً لدائرة الإحصاءات العامة كان بين الحضور، وسأل عن مصدر الرقم السكاني ذاك، موضحاً أن دائرة الإحصاءات تتوقع أن يكون عدد سكان العاصمة في 2025 بحدود أربعة ملايين وربع المليون في أعلى التقديرات. ارتبك الخبير ثم توجه إلى شابة تجلس في زاوية القاعة خلف جهاز كمبيوتر محمول وسألها عن مصدر الرقم. تمتمت الشابة بدورها قليلاً وقالت إنهم عثروا عليه في موقع إنترنت تابع لإحدى منظمات الأمم المتحدة. في هذه اللحظة وعندما لاحظ أمين عمان ارتباك الموقف تناول الميكروفون وقال مبسّطاً الحوار: «الواقع أن الأرقام كثيرة، ويمكننا العثور على أكثر من رقم، لكن الأرقام ليست كل شيء، فالمهم هو جوهر التخطيط»، واقترح مواصلة النقاش.

هو نهج تخطيط

إنها الطريقة التي يجري بها التفكير في التخطيط للعاصمة، فالمخطط الشمولي العتيد أُعدّ لسكان بنسبة أكثر من 50 في المئة عن العدد المتوقع الفعلي، وللمرء أن يتصور ماذا يعني ذلك في مختلف الحسابات ذات الصلة، وكم هي دقة الخطط المرسومة؟

لو توقف الأمر عند التخطيط على الورق لبقي مجرد تجربة في مهارات التصميم والرسم والتوقع لا تضر كثيراً ولا تفيد قليلاً، لكن بالنظر إلى بعض تفاصيل تنفيذ المخططات على الأرض، يتبين حجم الارتباك خارج القاعات أيضاً، لكنه هذه المرة ارتباك مع الأضرار، والكلام هنا يقتصر على وسط عمان الذي طاله من تفكير الأمانة وكلامها قسط كبير، وأعدت له الكثير من الخطط تحت عناوين شتى منها السياحة والثقافة والتراث، واتخذت مشاريعه مسميات أنيقة مثل «صحن عمان» أو «وادي عمان» وأحياناً «سوليدير عمان».

قبل سبعة أعوام أغلقت الأمانة مجمع رغدان للنقل، وبدأ العمل بمشروع جديد من تصميم وتمويل ياباني بقيمة ثمانية ملايين ونصف المليون دولار، وتمت إقامة مجمع مؤقت بديل إلى الشرق في ساحة في منطقة المحطة. استمر العمل لمدة ثلاث سنوات كما هو مقرر وأعلن أن الافتتاح سيترافق مع الاحتفالات بعيد الاستقلال العام 2006. لكن قبيل الافتتاح بأيام تم فجأة الإعلان أن المجمع غير صالح للمهمة التي أقيم من أجلها، وأن هناك ترتيبات أخرى.

خلال تلك السنوات الثلاث من الانتظار كان وسط البلد في المناطق القريبة من المجمع يعيد ترتيب «نفسه»، كي يستجيب للمنشأة الجديدة التي تعني عودة الحركة والنشاط بشكل أعلى من السابق كما قيل، فالمجمع «ياباني أصلي» هذه المرة وليس «تجميعاً محلياً» كما كان الوضع سابقاً.

الصرح الحضاري

ارتبك موقف الأمانة التي ارتجلت بعض القرارات وسرعان ما تراجعت عنها، فقد أعادت تسمية البناء المقام باسم جديد هو «مجمع رغدان السياحي» وقالت إنه «صرح حضاري» لا يجوز أن يخصص للركاب ولوسائط النقل، ثم قررت أنه سيكون موقعاً لخطوط السرفيس «التاريخية»، وقصدت بذلك خطوط اللويبدة وجبال عمان والتاج والحسين، وأجبرت الأمانة بالفعل أصحاب السيارات على نقل مواقفهم للمجمع الجديد، لكن الأمر لم يكن بحاجة إلا إلى أيام حتى تبين فشل الخطوة، وتبعثر النقل في هذه الخطوط قبل أن يعود إلى وضعه السابق.

أعلنت الأمانة أن مجمع المحطة سيبقى قائماً وجرى شطب كلمة «مؤقت» وكتب بدلاً منها كلمة «دائم» على اللوحات الخاصة بذلك. لكنّ أحداً في الأمانة لم يسأل: أين ذهبت عشرات الألوف التي كانت ترتاد مجمع رغدان ولم تنتقل إلى مجمع المحطة؟ في الواقع لقد تبعثر هؤلاء على وسائط نقل خاصة تعمل بالأجرة وأسست بذلك قطاع نقل غير رسمي، كما أعاد الكثيرون ترتيب أوضاعهم باستخدام «التاكسي» فردياً وجماعياً، وغير ذلك من حلول.

«سوليدير عمان»

لم يتوقف الارتباك هنا، فقد أعلنت «الأمانة» بابتهاج شديد أنها ستعيد النظر بوسط عمان كله، وأن حصته محفوظة ولها الأولوية وقيل للناس وللتجار انتظروا لتروا، فهناك مشروع كبير اصطُلح على تسميته «سوليدير عمان»، وسرعان ما تم التراجع عن التسمية لمصلحة «وادي عمان»، سيشمل المنطقة الواقعة بين مبنى أمانة عمان الكبرى القديم (مكتبة الأمانة) التي ستحول إلى فندق وصولاً إلى المحطة، ويضم المساحة الواقعة بين شارعي المحطة (الملك عبدالله الأول) وشارع الجيش وهي مساحة تبلغ 400 دونماً سيجري استملاكها لغايات المشروع الذي سيكون جنة مدينية تحوي المطاعم والحدائق والمقاهي والمتاحف. وجرى بالفعل إجبار عدد كبير من أصحاب المصالح على إخلاء محالهم، وهُدم بعضها فعلاً، وساد التوتر لدى الباقين، كما زاد الخوف على مصيرهم وطريقة تعويضهم.

ولكن مفاجأة أخرى كانت بالانتظار، ففي مطلع كانون الثاني/يناير 2010، جرى الإعلان، بشيء من الخجل هذه المرة، أن مشروع وادي عمان سيتوقف لضعف التمويل الناتج عن تداعيات الأزمة المالية العالمية. ومرة أخرى لم تسأل «الأمانة» نفسها ولم يسألها أحد عن مستوى الأذى الذي تحقق في المنطقة، من بعثرة لمصائر مئات ألوف من الناس أصحاب العلاقة في تلك المنطقة، من مستخدمي وسائل النقل، وأصحاب تلك الوسائل، ومن تجار وعاملين في شتى المجالات.

يكفي هذا القدر حول مثال واحد غني بالتفاصيل، لكن ما هو أكثر عجباً، أن «الأمانة» أقامت في وسط العاصمة، مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2009، مسيرة أسمتها «مئوية عمان»، وكان المشهد فكاهياً؛ فقد احتفلت فقرات كثيرة في المسيرة بوسط عمان (الناس والأسواق وحتى البسطات ومحلات البالة وباعة الخضار في الشوراع)، أي الناس الذين لحق بهم الأذى. لقد كان يوماً مناسباً لرشّ السكّر على موت وسط العاصمة الذي نأمل أن يكون موتاً مؤقتاً.

«رش السكّر» على «موت» وسط العاصمة الناس آخر من يعلم وأول من يتضرر
 
01-Feb-2010
 
العدد 8