العدد 8 - محلي
 

أثارت مدونة قواعد سلوك الحكومة مع وسائل الإعلام، أسئلة صعبة أمام الحكومة، ومخاوف في الوسط الإعلامي، وجدلاً بين مؤيد لها ومعارض، أو متفائل ومتشائم من إمكانية تطبيقها.

ورغم وصف وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال نبيل الشريف للمدونة بأنها «نقطة تحول مضيئة» في تاريخ الإعلام الأردني، إلا أن أياماً قليلة كانت كافية لأن يجد المتشائمون ما يدعم موقفهم. فالمدونة التي أقرها مجلس الوزراء، 24 كانون الأول/ديسمبر 2009، لم تشفع للإعلام المحلي في محاولاته -مع تفاوت جديته بين وسيلة وأخرى- للحصول على معلومات تتعلق بعملية «تفجير خوست»، وكالعادة، جاءت الأنباء من وسائل إعلام أجنبية حول شاب أردني، يدعى أبو دجانة الخرساني، فجّر نفسه في قاعدة أميركية بأفغانستان، أسفرت عن مقتل 7 ضباط أميركيين والنقيب الأردني الشريف علي بن زيد.

أزمة الثقة في التزام الحكومة بمدونتها تعمّقت بعد قرار محكمة التمييز، القاضي بإخضاع المواقع الإلكترونية لأحكام قانون المطبوعات والنشر، ونقض قرارَي محكمتَي بداية واستئناف جزاء عمان اللذين تضمنا عدم مسؤولية المشتكى عليهما، الصحفيَّين سمير الحياري مالك موقع وكالة عمون الإخبارية، وصخر أبو عنزة مالك موقع رم الإلكتروني، في الدعوى التي أقامها الصحفي أحمد سلامة بحقهما.

قرارا المحكمتَين، اللذان عدّا المواقع الإلكترونية غير خاضعة لقانون المطبوعات والنشر، قدمهما رئيس النيابة العامة لمحكمة التمييز بناء على طلب خطي من وزير العدل أيمن عودة. ووجدت الحكومة في قرار «التمييز» فرصتها لمحاولة السيطرة على المواقع الإلكترونية. فقد صرح الشريف لصحيفة الدستور، 13 كانون الثاني/يناير، أنه سيتم تحديد آلية قانونية للتكيف قانونياً مع قرار محكمة التمييز بعدّ المواقع الإلكترونية مطبوعات صحفية، و«تنظيم عملها لما فيه مصلحة الجميع».

تحفُّظ الحكومة على المعلومات، وإخضاع المواقع الإلكترونية لقانون المطبوعات والنشر، لا ينسجمان مع مقدمة المدونة والبند الأول فيها، المتضمن تعهد الحكومة «بأن تبني علاقتها مع وسائل الإعلام على أساس التواصل واحترام دور هذه الوسائل وحقها في الحرية والاستقلالية وفي الحصول على المعلومة وفق أحكام التشريعات النافذة». لذا، فإن السؤال يبقى مفتوحاً حول مدى جدية الحكومة في الالتزام بقواعد السلوك هذه.

الشريف، أكد أن «المدونة ملزمة»، وأنه يتلقى الشكاوى حول مخالفات المدونة بنفسه، ويحولها إلى رئيس ديوان المحاسبة الذي يتابعها ويتخذ حيالها إجراءً مثل أي مخالفة أخرى في أي وزارة، حيث يطالَب المخالف أولاً بتصويبها ويُعطى مهلة، ثم يتم اتخاذ إجراء أو تقديم تقرير إلى رئيس الوزراء لاتخاذ الإجراء المناسب.

الحكومة وديوان المحاسبة سيتعاملان مع مخالفات المدونة إذا وردت شكوى. وهنا تبرز الحاجة لمن يراقب ويرصد مدى التزام الحكومة بمدونتها وتقديم الشكاوى. وهو ما طالبَ به مركز حماية وحرية الصحفيين، عن طريق إنشاء مرصد صحفي لمراقبة تطبيق الحكومة للمدونة ومدى التزامها بالتعامل مع الصحفيين من دون محاباة.

المدونة تعهدت بـ«الامتناع عن أية ممارسات مغلوطة تمت في إطار الاسترضاء والمهادنة بسبب الخوف من الابتزاز أو سعياً وراء الشعبية الآنية، بما في ذلك تقديم الحوافز المالية أو العينية التي تستهدف التأثير على الصحفيين أو وسائل الإعلام».

هدفٌ لا اعتراض عليه. لكن الشيطان يكمن في التفاصيل التي أثارت تحفظات لدى بعضهم، كلّ بقدْر الضرر الواقع عليه.

ولكي تتحقق غاية المدونة، «ستتوقف كل الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية والعامة والبلديات عن الاشتراك المباشر في الصحف، وسيتم تلبية حاجات الوزارات والدوائر والمؤسسات عن طريق الشراء المباشر من السوق وفق معايير واضحة يقرها مجلس الوزراء، وستُربط الإعلانات بمعايير مهنية تعمَّم على الوزارات والمؤسسات بحيث لا تُستخدم هذه الإعلانات كوسيلة للتأثير على استقلالية وسائل الإعلام وبما يضمن ثبات الجدوى من إنفاق المال العام».

وتلتزم الحكومة بحسب المدونة، بـ«عدم تعيين أي صحفي أو أي شخص عامل في أي وسيلة إعلامية في أي دائرة حكومية، بما في ذلك وظائف المستشارين والناطقين الإعلاميين في المؤسسات العامة، منعاً لأي تضارب في المصالح. وتلتزم الحكومة بعدم الحصول على خدمات من الصحفيين بشكل دائم أو مؤقت مقابل أي مكافأة مادية».

المدونة، بالنسبة لرئيس تحرير صحيفة الغد، موسى برهومة، «خطوة جيدة بمجملها»، لكونها تهدف إلى «أن لا تتداخل المصالح الحكومية مع استقلالية العمل الصحفي، وأن تتمتع الصحف بحرية كبيرة غير مرهونة بمقدار اشتراك الحكومة بهذه الصحيفة أو تلك». وهي كما يرى برهومة، توفر «مساحة كبيرة لكي يتحرك الصحفي بمعزل عن أي ضغط في إطار مهمته الأخلاقية والمهنية، وكي يقدم المعلومة دون أي اعتبارات كما كانت الحال سابقاً في بعض الحكومات التي كانت تدفع للصحفيين مباشرة وتحاول استقطابهم من خلال عمليات استرضاء ومِنَح وهبات، وهو ما أضرّ بصدقية الصحافة».

وكما غالبية الذين استُطلعت آراؤهم حول المدونة، هناك «لكن» لدى برهومة، فبحسبه، «يجب على الحكومة أيضاً أن تلتفت، بالتعاون مع نقابة الصحفيين، إلى فرض رفع رواتب الصحفيين على مالكي الصحف، لأنه إذا كانت أجور الصحفيين متدنية ويُمنعون من ممارسة عمل آخر، فإن هذا القرار يكون ظالماً».

رئيس تحرير صحيفة العرب اليوم، طاهر العدوان، رأى في مقالته بالصحيفة، 27 كانون الأول/ديسمبر 2009، أن المدونة أُقرت من طرف واحد، وأن للصحافة مطالبها أيضاً. وقال إن «ما جاء في المدونة يخص الحكومة وحدها، لكنها تتجاهل مصالح الصحافة والطرف الآخر في العلاقة بينهما، مما يستوجب أيضاً تلبية المطالب العادلة للصحافة، من باب المعاملة بالمثل في بند الجدوى المالية للمال الخاص، توازناً مع ما ورد في المدونة عن جدوى الإنفاق من المال العام».

وفقاً لوزير الدولة لشؤون الإعلام، لا تستطيع الحكومة حل جميع المشاكل وحدها. الشريف قال في تصريح لراديو البلد: «ما دمتُ أنظّم نفسي وأنظّم علاقتي مع الآخرين، فالدور الآن للآخرين كي ينظّموا أنفسهم بمنع قبول الهدايا وغيره، ومن حقّ الإعلام أن يحمي مصالحه أيضاً. يمكن للإعلام الآن أن ينتهز الجو المهيأ ويقول إنه يريد المهْنية والتدريب وإعلاء سقف الحرية ومنع العلاقة النفعية مع أية جهة، ليس فقط مع الحكومة، وأيضاً مع القطاع الخاص».

مجلس نقابة الصحفيين الأردنيين، رحب بالمدونة، لكونها «تنظم علاقة الحكومة مع الجسم الصحفي، وتنسجم مع الميثاق الصحفي للنقابة، ومع مواثيق الشرف في قطاع الإعلام بعامة، والقوانين الناظمة للعمل الصحفي».

يقول نائب نقيب الصحفيين حكمت المومني لـ ے: «رحبنا بالمدونة بعد صدورها، وبخاصة بند الإجراءات الحكومية اللازمة لضمان حق الإعلام في الحصول على المعلومة، لأن قانون حق الحصول على المعلومة غير فعّال ومرفوض من الجسم الصحفي». ويستدرك المومني: «لكن لدينا تحفظات حول بند الاشتراكات والإعلانات». ويوضح هذا التحفظ بقوله: «من حق الحكومة أن تنظّم اشتراكاتها وإعلاناتها في وسائل الإعلام، لكن عليها، بحكم أنها صاحبة الولاية، أن تعي أن عليها مسؤوليات تجاه الإعلام بوصفه قطاعاً مهماً في الأردن، مثل قطاعات أخرى يقدم لها الدعم الحكومي. والمطلوب هنا ليس دعماً مباشراً، وإنما تخفيض رسوم التراخيص وضريبة المبيعات، وتقديم تسهيلات لإنشاء مؤسسات إعلامية، وهذا كافٍ لتقوية الصناعة الصحفية في الأردن».

أما الإعلانات، فيقترح المومني أن تكون هناك «جهة مركزية، مثل لجنة يشكلها مجلس الوزراء، توزع الإعلانات بعدالة وشفافية على وسائل الإعلام المختلفة، بحيث يخدم هذا الدعم استمرارية وسائل الإعلام في عملها».

تضع المدونة معايير أساسية تحكم نهج الحكومة في الإعلان في وسائل الإعلام، أبرزها أن الوسائل المتخصصة ستُعطى الأولوية للإعلان المتخصص، لما لها من جمهور مستهدَف في إعلانات معينة. كما تُعطى الأولوية لوسائل الإعلام الأوسع انتشاراً، وتُعطى الأقل انتشاراً إعلانات تتناسب مع حجم انتشارها، بحسب التصنيفات التي تصدرها المراكز والمؤسسات المستقلة للتحقق من الانتشار، «ولن نعتمد على مؤسسة إعلامية تقول عن نفسها إنها الأولى أو الأكثر انتشاراً أو مبيعاً»، كما يبيّن الشريف، مضيفاً: «إعطاء الحصة الأكبر من الإعلانات لهذه الوسيلة أو تلك لا يعني إغفال الآخرين، يجب أن يكون هناك تنوع. لكن لا يوجد سوى مدى الانتشار كمعيار موضوعي، فلدي رسالة وأريد إيصالها لأكبر فئة من الناس». فكل وسيلة إعلام، وفقاً للشريف، ستنال حصتها وفقاً لانتشارها، بصرف النظر عن ملْكيتها، سواء كانت حكومية أو خاصة.

الأسئلة الصعبة أمام الحكومة تَظهر عند الحديث عن ضمان عدالة تطبيق المدونة، وتحديداً في سياسة الإعلانات أو الاشتراكات، لما لذلك من آثار سلبية ستتركها على وسائل إعلام صغيرة أو مستقلة، في مقابل استمرار دعم وسائل إعلام كبيرة ورابحة أصلاً.

بالنسبة للأسبوعيات، «ستسهم المدونة في القضاء على الصحافة الأسبوعية واختفائها»، مع الإقرار بوجود «سلوكيات سلبية اقترفها بعض الصحفيين». هذا ما خلص إليه عدد من رؤساء تحرير الصحف الأسبوعية في اجتماع عقدوه في مقر نقابة الصحفيين، ناقشوا فيه تأثير المدونة في صحفهم، بحسب تقرير لصحيفة العرب اليوم 27 كانون الأول/ديسمبر 2009.

الأهمّ أن المدونة أغفلت مشاكل جوهرية تواجهها وسائل الإعلام المرئي والمسموع في علاقتها مع الحكومة. فهي «لم تلتفت لمشكلة كبيرة لدينا في القوانين والأنظمة المتعلقة بتراخيص الإذاعات»، كما يرى مدير عام راديو البلد داود كتّاب. كما أنها «لم تتطرق للدعم غير الطبيعي للتلفزيون الأردني الذي يُقتطع له من كل أسرة دينارٌ شهرياً، وفي الوقت نفسه ينافس وسائل الإعلام الأخرى على الإعلانات».

من الأمثلة الأخرى على المنافسة غير العادلة في قطاع المرئي والمسموع، يضيف كتّاب، «وجود إذاعات تحظى بدعم غير مباشر من الحكومة، يتمثل بامتيازات، مثل احتكار معلومات إدارة السير كما في حالة إذاعة أمن إف إم، واستخدام أبراج بث منتشرة في أرجاء البلاد تابعة للجيش كما في حالة إذاعة فن إف إم، والإعفاء من رسوم الترخيص كما حال كلتا الإذاعتين. وفي الوقت نفسه تحصلان على إعلانات، وتنافسان الإذاعات الخاصة التي ليس لديها أي امتيازات».

هذا التوجّه، وفقا لداود، «تشويه للمنافسة الحرة، ويتعارض مع بند المدونة المتعلق بتوزيع الإعلانات على أساس الانتشار». لذلك «إذا أرادت الحكومة أن توزع الإعلانات بعدالة يجب أن تفرض رسوم التراخيص على الإذاعات المستفيدة من الإعلانات، أو أن تمنعها من الحصول على إعلانات»، بحسب ما يرى.

كما خلت المدونة من بنود مهمة، مثل ملْكية الحكومة لغالبية وسائل الإعلام الكبرى في الأردن، سواء أكانت واضحة ومباشرة أم غير واضحة. وهو ما سيؤثر في عدالة توزيع الإعلانات. فما زالت الحكومة تمتلك الحصة الأكبر في صحيفتَين يوميتين كبيرتين، الرأي والدستور، عبر مؤسسة الضمان الاجتماعي؛ إضافة إلى ملْكيتها الكاملة لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء الأردنية بترا؛ وإذاعات تملكها مؤسسات عامة، مثل الأمن العام والقوات المسلحة وأمانة عمان وأربع جامعات حكومية.

ولم تتناول المدونة أيّاً من الأنظمة والتعليمات التي تحكم عمل المؤسسات الحكومية التي تملك صلاحية منح تراخيص إنشاء وسائل إعلام أو حتى إصدار مطبوعات، مثل دائرة المطبوعات والنشر وهيئة الإعلام المرئي والمسموع. مما يعني أن الحكومة تستطيع فرض سيطرتها، عبر رفض ترخيص وسيلة إعلام أو مطبوعة ما.

يقول الشريف إن الحكومة تلتقي بشكل دوري مع وسائل الإعلام، وإن باب الحوار مفتوح حول هذه القضايا. ويدافع عن المدونة، انطلاقاً من أنها جاءت لـ«علاج ظواهر غريبة جداً»، مثل تجاوز اشتراكات المؤسسات الحكومية في صحف أسبوعية متواضعة جداً في إمكاناتها الصحفية والفنية والمهنية، مبلغ 40 ألف دينار. يقول: «قد نفهم الاشتراك في صحيفة أو مجلة مهْنية تقدم معلومة جديدة أو تحليلاً. هذا يدلل على أن الاشتراك كان يتم بطريقة عشوائية، وربما ليس عن طريق المسؤول الأول».

ويرى الشريف أن المدونة «لا تشك بأن إعلامنا بشكل عام مسؤول ويقوم بدوره بشكل جيد. لكن هناك ممارسات وتجاوزات من الحكومات، وليس من الوسط الإعلامي»، مضيفاً: «الذي كان يشترك ويعلن ويعيّن هو الطرف الحكومي. وهذه الحكومة أرادت أن تبدأ بداية واضحة ونظيفة».

في المحصلة، يمكن للحكومة لو نجحت في تطبيق مدونتها، أن تعالج خللاً جوهرياً تعمَّق في الجسم الصحفي، وصفته دراسة لمركز القدس للدراسات السياسية في شباط/فبراير 2009 بـ«الاحتواء الناعم». وعن أثره في حرية الصحافة واستقلالية وسائل الإعلام في الأردن، خلصت الدراسة إلى أن 49 في المئة من قادة الرأي في الوسط الإعلامي الأردني خضعوا لأنماط من الاحتواء الناعم، وأن 70 في المئة من الصحفيين والإعلاميين يعتقدون أن الحكومة تلجأ «بدرجة كبيرة ومتوسطة» إلى استخدام أنماط «الاحتواء الناعم» لكسب تأييد الإعلاميين وتفادي انتقاداتهم، ومن أبرز أنماط «الاحتواء الناعم» التي كشفت الدراسة عنها: التعيين الدائم والمؤقت في مناصب حكومية أو شبه حكومية، الهبات والمنح والأعطيات المالية، منح المعلومات لصحفيين وإعلاميين محددين، الدعوة لحضور لقاءات واجتماعات مع كبار المسؤولين، الإعفاءات الجمركية والعلاج خارج إطار أنظمة التأمين الصحي والمنَح الدراسية للأبناء والأقارب.

«الاحتواء الناعم للإعلام والصحافة بات الأسلوب الأكثر رواجاً، للحد من حرية الصحافة والمَسّ باستقلالية وسائل والإعلام». هذا ما يراه مدير مركز القدس عريب الرنتاوي، مستدركاً أن «المستهدَف بالاحتواء الناعم بأنماطه المختلفة، هو فئات وشرائح النخبـة السياسيـة والاجتماعية والثقافية المختلفة، وليس الصحفيين والإعلاميين فحسب».

رغم الترحيب بها مدونة سلوك الحكومة مع الإعلام: شكوك تسندها شواهد
 
01-Feb-2010
 
العدد 8