العدد 8 - مساحة حرّة
 

منذ نحو ثلاثة أعوام والحكومات تدرس مشروع اللامركزية بوصفه الطريقة الأمثل لتطوير مستوى الأداء الخدمي، كما أنه من أذرع الإصلاح السياسي المنشود، وركيزة من ركائز تعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية، بتحديد أولويات الاستثمار والإنفاق والإشراف والرقابة على أداء الأجهزة الرسمية وممارسة دورها في متابعة المشاريع الخدمية في المناطق المختلفة، والذي سيؤدي إلى تحقيق التنمية في المحافظات كافة خارج المركز.

وقد تمت مناقشة مشاريع عدة سابقاً لتحقيق ذلك، فاقتُرحت فكرة الأقاليم التنموية كأساس للاّمركزية، ثم تطورت الفكرة إلى الأقاليم الإدارية، لكن تم رفض الفكرتين، والانتقال إلى صيغة جديدة تعتمد التقسيم الإداري على مستوى المحافظات، وتشكلت لجنة وزارية لصياغة مشروع اللامركزية وإعداد القوانين والأنظمة اللازمة لتطبيقه، والأنظار تتجه إلى ما سوف يصدر عن اللجنة، لتحقيق المبادئ المرجوة من المشروع، وعلى رأسها التنمية الشاملة، والمشاركة الشعبية، والإدارة المباشرة للخدمات في المناطق، وتحقيق ازدهار المجتمعات المحلية الصغيرة، عن طريق تحديد الأولويات، واستغلال الطاقات الكامنة، والحد من مشاكل الفقر والبطالة.

ونقترح في هذا السياق أن يتم الانتقال من مستوى الإدارة المحلية المعمول به حالياً، إلى مستوى الحكم المحلي الكامل، بكل ما يحتويه هذا المصطلح من مفاهيم حقيقية لمشاركة المواطنين في إدارة أمورهم وتحمُّل مسؤولياتهم على مستويات الإدارة والتنفيذ، بحيث يكون دور الحكومة المركزية التخطيط ووضع الإستراتيجيات المناسبة.

وكي يمكن تحقيق ذلك، يترتب علينا العودة إلى البلديات كوحدات أساسية وكمؤسسات حكم محلي حقيقي، بتعزيز دورها، وتمكينها من تحقيق مبدأ اللامركزية، وفقاً لقوانين البلديات المتعاقبة في الأردن التي كانت تعطي البلديات صلاحيات واسعة، بحيث يمكن وصفها بأنها الحكومة المحلية المنتخبة. فقبل بعض التعديلات على القوانين، شملت مسؤوليات البلديات الرعاية الصحية الأولية في المراكز الصحية، والرقابة الصحية والغذائية، بالإضافة إلى تقديم خدمات التعليم الأساسي (المدارس)، وإنشاء وإدارة شبكات المياه والصرف الصحي، والمشاركة بتقديم خدمات النقل العام وخدمات الإغاثة في حالات الطوارئ (الدفاع المدني)، وخدمات الإسكان لذوي الدخل المحدود، بالإضافة لدُور الرعاية الاجتماعية للمسنين والأطفال، وتنفيذ الخدمات الأخرى في المجالات الثقافية والرياضية والتجارية والتخطيط الشمولي.

كل ذلك من صلب عمل البلديات بحسب القانون، وكان مناطاً بها عند تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية، وهو أمر معمول به في أغلب بلديات دول العالم المتقدم، وقد قامت به البلديات الأردنية في مراحل سابقة، وكان الأداء في بعض المجالات ممتازاً، ومتواضعاً في بعض المجالات الأخرى، إلى أن جرى نقل هذه الصلاحيات إلى الحكومة المركزية، نتيجة الاتجاه للتخطيط المركزي الشمولي.

وحيث أن هنالك قناعة تامة في الظروف الحالية بأن اللامركزية الإدارية سوف تحقق نتائج أفضل من نتائج الإدارة المركزية، فلا بد من العودة إلى مؤسسات الحكم المحلي (البلديات) لتقوم بدورها بالشراكة مع الحكومة ومؤسساتها، بإدارة جميع مرافق الحياة العامة المتعلقة بالخدمات اليومية الأساسية للمواطنين، التي ذُكرت سابقاً، علاوة على الخدمات التي تقوم بها حالياً، كالنظافة والتخطيط والطُّرق، بحيث تعود البلدية إلى تعريفها الأساسي كمؤسسة أهلية تقوم بدور الحكومة المحلية، مما سيؤدي إلى تحقيق اللامركزية فعلياً وعملياً، بحيث يلمس المواطن دوره في التنمية الشاملة، كونه محورها وغايتها، ومشاركاً في صناعتها. وسوف يبرز السؤال التالي: هل تستطيع البلديات النجاح في الاضطلاع بكل هذه المسؤوليات؟ وللإجابة، تالياً مقترحات وأفكار حول ذلك:

أولاً: قبل كل شيء، يجب التعامل مع البلديات بحسب تعريفها الأساسي القانوني، كمؤسسات أهلية مستقلة، بحيث لا يتم التعامل معها كدائرة تابعة لوزارة البلديات أو الحكومة المركزية، بل تقوم الحكومة المركزية بدور المراقب والمتابع للأداء والمقيّم للنتائج، بحسب أسس قياس معتمدة وحقيقية، لبيان مدى تحقيق النجاح أو الفشل، كما يجب أن تكون العملية الانتخابية ديمقراطية ومن دون تدخلات أو ضغوطات من الحكومة المركزية.

ثانياً: لا بد من تأهيل كوادر البلديات، وبناء القدرات البشرية، بحيث تصبح كفؤة في تحقيق الخدمات وإنجاز المسؤوليات المطلوبة منها، وكون هذه الخدمات متعددة ومتنوعة، فلا بد من رفد أجهزتها بالخبرات المتوافرة في الحكومة المركزية، بخاصة في قطاعات التعليم والرعاية الصحية الأولية، والنقل، ليتم بناء القدرات البشرية للبلديات مع وجود إدارات مشتركة، بحيث يتم نقل المسؤوليات كاملة إلى البلديات عن طريق الشراكة مع الحكومة المركزية، والتعاون مع أجهزة الدولة الأخرى، وفي بعض الأحيان عن طريق شركات مساهمة ما بين البلديات والحكومة والقطاع الخاص.

ثالثاً: توفير الموارد المالية: وذلك من خلال الدعم المباشر من الحكومة المركزية، بتحويل مخصصات المسؤوليات التي ستناط بالبلديات إلى هذه البلديات، بالإضافة إلى إعطاء البلديات جزءاً من الضرائب التي تستحقها وجزءاً من ضريبة المبيعات، والنقل على الطرق.. إلخ، ومنح هذه البلديات قروضاً ميسّرة للمشاريع التنموية الاستثمارية الضرورية للمجتمع المحلي، بالإضافة إلى تحويل بنك تنمية المدن والقرى إلى رافعة مالية واستشارية لخدمة البلديات بحسب الأسس المصرفية المعتمدة محلياً ودولياً.

رابعاً: السماح للمجالس البلدية بوضع المعادلات الضريبية وفقاً لتكلفة الخدمة وإنجازها، أو تخفيضها لجلب استثمار حقيقي أو تنموي مطلوب للبلدية، مع ضرورة التنسيق الكامل بين مختلف البلديات في المملكة، ومن الممكن تأسيس منظمة لتحالف البلديات، بحيث تمكّن البلديات الصغيرة من الحصول على الخبرات الإدارية والفنية وتدريب الكوادر والتمويل والقروض من البلديات الكبيرة.

وأخيراً، فإننا نقترح وضع خطة شمولية، تشارك بها الحكومة والجهات الحكومية وذوي الخبرات العملية، لتحقيق اللامركزية بما تنطوي عليه من تفعيل للمشاركة الشعبية، وتعزيز الديمقراطية، ونقل مركز صناعة القرار إلى المجتمعات المحلية وفقاً للحاجات الملحّة والأولويات التي يراها المواطنون؛ أي تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية شاملة، اعتماداً على مؤسسات البلديات كنواة للاّمركزية والحكم المحلي.

تطبيق اللامركزية يبدأ بالبلديات
 
01-Feb-2010
 
العدد 8