العدد 3 - شأن اقتصادي | ||||||||||||||
ا يعيب الدول أو حتى المؤسسات الخاصة والعامة، الحصول على مديونية وتمويل عملياتها من خلال الاقتراض أو توفير ما يسمى: الرافعة Leverage بعرف الأعمال، بهدف توفير تمويل مناسب يؤدي إلى إنجاز مشروع ما، أو تمويل رأسمال تشغيلي، لتحقيق إنتاج أفضل وغزو أسواق جديدة، وتحقيق عوائد عبر استغلال التمويل من الداخل أو الخارج.
وفي عُرف الدول ليس هناك ما يمنع من الولوج إلى أموال الآخرين، دولاً ومؤسسات، لتحقيق أهداف تنموية رأسمالية تؤدي في النهاية إلى تنشيط حركة الاقتصاد ونموه وتحقيق عوائد إضافية لخزينة الدولة. بيد أن المعضلة في المديونية والاقتراض من داخل الاقتصاد أو من خارجه، هي توجيه أموال الاقتراض نحو تمويل الإنفاق الجاري، وتغطية ما تعجز عنه الإمكانات الذاتية. وعليه، فإن اقتراض الدول لتمويل المشاريع الرأسمالية المعنية بالبنية التحتية، أو حتى تمويل الاستثمار المباشر لمشاريع يعجز القطاع الخاص عن تمويلها، تبرره العوائد المالية والاجتماعية التي سيولدها ذلك الاقتراض، وبالتالي فإن الاقتراض هنا مربوط بدراسة مالية توضح مقدار التدفقات المالية التي ستعود على الدولة جرّاء فتح الباب أمام القطاع الخاص للاستثمار وتحقيق الأرباح. يكمن فخّ المديونية في سهولة الحصول على الديون، لتوافر السيولة من ناحية، ولانخفاض مخاطرة المقترض من ناحية أخرى. والمعضلة تكمن في أن سهولة حصول المقترض على الديون، تجعله أقل حصافة في سبل استغلال المديونية وفي سبل توجيهها نحو الاستغلال الأمثل الذي يعود عليه بعوائد تؤهله للسداد، ما يُوْقعه في فخ الاستدانة لتمويل أي احتياجات، سواء كانت ذات طابع استثماري، أو تشكل إنفاقاً جارياً، أو حتى بذخاً شخصياً، كما في حالة بعض الأفراد والمؤسسات. وقد تمكن الأردن من الحصول على قروض خارجية سهلة وميسّرة منذ منتصف الثمانينيات من القرن الفائت، بسبب انخفاض مخاطره آنذاك، بيد أنها أخذت بالتزايد المضطرد والسريع إلى أن وصلت بحلول العام 1989، إلى ما يوازي ضعفَي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وانتهى المطاف بدخول البلاد دوّامة برامج التصحيح الاقتصادي بإشراف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولم يخرج من تلك الدوّامة ومرارة علاجها حتى العام 2003. وباتت الأمور أكثر انضباطاً بما يتعلق بالمديونية الخارجية منذ ذلك الوقت، وحافظَ الأردن على انخفاض نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي، حتى وصلت اليوم إلى ما يقل عن 22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد استخدم الأردن وسائل تخفيض المديونية الخارجية كافة، بما في ذلك استخدام عوائد التخاصية، مبادلة الديون بالاستثمارات، إعادة الجدولة، وشراء الديون. وحقق على هذا الصعيد نجاحاتٍ عدة لا يمكن إنكارها، رغم تحفُّظ بعضهم على جزئيات معينة في ذلك المسار. المعضلة اليوم أن المديونية الداخلية التي لم تكن تتجاوز المليار دينار في العام 2003، قفزت لتتخطى 5 مليارات دينار، وبنسبة وصلت إلى ما يقرب من 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وإذا ما أضيف هذا الرقم إلى المديونية الخارجية للبلاد، فإن رقم الدين العام، الداخلي والخارجي، يصل بقيمته المطلقة إلى ما مقدراه 9 مليارات دينار، وهو رقم يزيد على المديونية الكلية للبلاد في أواخر الثمانينيات من القرن الفائت. المأزق هنا أننا أمام حالة فخّ مديونية داخلية يعززها سهولة الحصول على القروض الداخلية، بخاصة في ظروف الأزمة المالية العالمية، إذ بات الجهاز المصرفي يحبذ إقراض الحكومة على إقراض القطاع الخاص، درءاً للمخاطر واستسهالاً لتحقيق العوائد. يعزز الخوفَ من فخّ المديونية، أن الاقتراض الداخلي اليوم يكاد يشير إلى توجيه الأموال المقترضة نحو تمويل العجز العام، وعلى حساب التمويل الرأسمالي. والشاهد أن الشهور الستة الأولى من العام 2009 أظهرت زيادة في المديونية بلغت نحو 565 مليون دينار، وهو رقم مماثل تقريباً لحجم العجز المالي في الموازنة للنصف الأول من العام نفسه. المشكلة الكبرى في المديونية الداخلية تكمن في أنها من ناحية تشكل ما يسمى في العرف الاقتصادي: مزاحمة Crowding Out للقطاع الخاص على الأموال المتاحة لتمويل مشاريعه من البنوك والجهاز المصرفي، ما يعني عدم قدرته على إنجاز المشاريع والنمو وتحقيق العوائد، كما أنها من ناحية أخرى تعني الدخول في دوامة استمرار الاقتراض لتمويل الإنفاق الجاري مضافاً إليه تمويل سداد الأقساط المستحقة على الديون الداخلية، ما يجعل الحكومة في احتياج دائم لامتصاص سيولة من الاقتصاد وإدخال الاقتصاد في حالة مستمرة من الانكماش والانحسار. في حالة المديونية الداخلية لا يمكن اللجوء إلى الجدولة وشراء الديون ومبادلتها والحصول على خصم عليها. غياب هذه الحلول يعني التورط في فخّ، الاستمرار فيه معضلة، والخروج منه معضلة أكبر، إذ يؤدي ذلك إلى تقليص الاقتصاد، أو اللجوء إلى طبع النقود، ما ينتج عنه ضغوط تضخمية تأكل من رصيد استقرار دخول الأفراد والعملة الوطنية، وتنتهي ببرامج تصحيح أكثر مرارة من برامج نهاية العقد الفائت. علينا أن لا نقع في فخ سهولة الحصول على الديون الداخلية، حتى لا نضيّع مكاسب التصحيح الاقتصادي الذي اجتزناه بمرارة شديدة، وكي لا نعود إلى نفق مظلم لن نخرج منه إلا بتدخل مؤسسات التمويل الدولي في إدارة اقتصادنا مرة أخرى. * الرئيس التنفيذي شركة دارات الأردنية القابضة |
|
|||||||||||||