العدد 7 - الملف | ||||||||||||||
في العام 1994، توجه أخصائي الغدد الصماء والسكري كامل العجلوني ضمن فريق طبي إلى المزار الجنوبي في محافظة الكرك لأخذ عينات طبية من السكان، وذلك في إطار دراسة كانت الأولى من نوعها، وهدفت إلى رصد واقع مرض السكري في الأردن. الفريق فوجئ بأن أحداً من أبناء البلدة لم يحضر، وعندما تمّ التحقق من الأمر اتضح أن «شيخاً» كان قد حرّضهم على الباحثين، وقال لهم إن هؤلاء لم يأتوا بشأن مرض السكري، بل هم يعملون لحساب إسرائيل، وجاءوا لدراسة أثر مفاعل ديمونة على الناس. تمّ توضيح الأمور وقتها، فتعاون أبناء البلدة مع الباحثين، لكن هذه الحادثة كانت من الذكريات التي ظل العجلوني يحتفظ بها في ذاكرته باعتبارها واحدة من الصعوبات التي اعترضته في كفاحه ضد هذا المرض، فوعي الناس كان هو الحاجز الأبرز الذي كان لا بد من اجتيازه، في مواجهة مرض أثبتت الدراسة أنه تحوّل إلى ما يشبه «الوباء»، عندما كشفت عن أن 25 في المئة من الأردنيين الذين تجاوزوا الخامسة والعشرين يعانون من نوعيه؛ العادي والكامن، ويعود للعجلوني فضل مواصلة التنبيه إلى خطورة النوع الأخير، المسمى أيضاً «السكري الخفي» الذي يعني أن مستوى السكر في الدم أعلى من الحد الطبيعي، لكنه أقل من الحد الذي يسمح بتشخيص المرض. خلال السنوات الخمس عشرة اللاحقة، سيسجل التاريخ حقيقة أن العجلوني استطاع فعلاً إحداث فرق في وعي الناس، وأنه كان الشخص الذي وضع المرض ومخاطره على طاولة الأردنيين، وجعله مادة لأحاديثهم اليومية، الأمر الذي لا يمكن القول إنه تحقق مع أي مرض آخر، ذلك أنه صاحب المقولة المرعبة «كل أردني تعدى الثلاثين مصاب بالسكري ما لم يثبت العكس»، من هنا فإن ارتباطاً نشأ في أذهان الناس بين الاثنين: العجلوني ومرض السكري، فإذا ذكر الأول ذكر الثاني، وإذا ذكر الثاني تداعت إلى الأذهان صورة الأول. وُلد العجلوني في الصريح العام 1943، وكان قد أمضى طفولته متنقلاً بين مدن أردنية وفلسطينية بحكم عمل والده قاضياً شرعياً، ثم غادر العام 1961، للدراسة في ألمانيا التي تخرج فيها العام 1968، ثم إلى الولايات المتحدة حيث تخصص في الغدد الصُّم، وعمل أستاذاً مساعداً في جامعة وسكنسن، قبل أن يعود إلى الأردن العام 1975. المفارقة هي في الشعبية التي يتمتع بها رجل اشتهر بأسلوبه الصادم في مواجهة الناس بحقيقة خطورة المرض، وبانتقاداته اللاذعة، فقد انتقد تحوّل الأردنيين إلى «شعب نهم»، وأنماط الأكلات التقليديات التي تمّ الترويج لها وعبر عقود على أنها واحدة من «عادات الأردنيين وتراثهم»، وبيّن أنها في الحقيقة السبب المباشر للمرض: «لم يكن الأردنيون يأكلون المنسف كل يوم، بل في الأفراح والأتراح، أو عندما تتعرض بقرة إلى حادث ويضطرون إلى ذبحها». انتقد أيضاً تحوّل الأردنيين إلى شعب «كسول»، صار جلّهم من الموظفين، وبعد أن كانوا يعملون بأيديهم في الأرض والمنزل، ويمشون لمسافات طويلة «صار الواحد يدور بسيارته خمس مرات حول المبنى الذي يريد التوجه إليه ليجد موقفا للسيارة، كي لا يضطر إلى السير على قدميه خمس دقائق». يمكن عدّ دراسة العام 1994، بمثابة الرصاصة الأولى التي انطلقت في الحرب ضد المرض، لأن الأرقام التي تمخضّت عنها الدراسة التي شملت مناطق إربد والصريح وصخرة والمزار الجنوبي كانت السبب المباشر لإنشاء المركز الوطني للسكري والغدد الصماء العام 1996. المركز الذي يترأسه العجلوني منذ تأسيسه ويقدّم خدماته لما يقارب 25 ألف مريض سنوياً، هو الوحيد من نوعه في الأردن، إذ يقوم على فكرة تقديم «عناية متكاملة ومتقدمة»، فيضمّ عيادات متخصصة في علاج مضاعفات المرض مثل العيون والقلب والأعصاب والجهاز الهضمي والقدم السكرية وغيرها، كما يضمّ مختبراً وصيدلية ووحدة تغذية ووحدة تثقيف صحيّ ونشاط رياضي وغيرها من المرافق كلّها متخصصة في مرض السكري ومضاعفاته، ومزوّدة بتجهيزات ومواصفات عالمية. رغم كل الجهود المبذولة، يشير العجلوني، بأسى، إلى نتائج دراسة أجريت العام 2004، لرصد ما آل إليه واقع المرض في الأردن، وبيّنت ارتفاع نسبة المصابين إلى 30 في المئة، وهي نسبة يصفها بـ «المفجعة»، ويعزوها إلى غياب إستراتيجية شاملة للتعامل مع المرض، فالحكومات المتعاقبة كما يقول «تتعامل مع الكوارث فقط». «الوضع كارثي فعلاً»، في رأيه، لأن هناك «خمسين شخصاً يموتون يومياً في الأردن بسبب السكري ومضاعفاته التي تشمل الذبحات القلبية والجلطات الدماغية والفشل الكلوي وغيرها». الوجه الثاني للكارثة كما يقول، يكمن في أنّ الدولة تدفع سنوياً ما يقارب 1.3 بليون دينار، هي قيمة التكلفة المباشرة وغير المباشرة لعلاج مرض السكري، ويمكنها أن تخفّض الفاتورة بشكل هائل فيما لو استطاعت الالتزام بسياسة تقوم بشكل أساسي على الوقاية من المرض من خلال اتخاذ إجراءات بسيطة «مثلاً تشجيع الناس على المشي بإخلاء الأرصفة التي احتلتها الأشجار والسيارات وبسطات البائعين، ومنع المقاصف المدرسية من بيع السكاكر والمشروبات الغازية والعصائر المصنّعة للأطفال». أمام الأرقام المفزعة لمرض السكري ومضاعفاته في الأردن، فإن المشوار يبدو طويلاً، لكن العجلوني الذي كرّمته كلية الغدد الصم الأميركية بمنحه جائزة الطبيب المتميّز للعام 2008، تقديراً لجهوده وإسهاماته في مجال الغدد الصم والوراثة، يصف معركته مع السكري بأنها «قضية حياته»، لذلك فإنه إضافة إلى عمله أستاذاً في كليّة الطب في الجامعة الأردنية، وعمله في المركز الوطني للسكري حيث يصف نفسه بأنه «الجزء الأصغر فيه»، يواصل حملاته التوعوية في وسائل الإعلام، وعبر محاضرات متواصلة يلقيها لدى جهات مختلفة، محاولاً الوصول إلى جميع شرائح المجتمع. |
|
|||||||||||||