العدد 7 - الملف
 

في الشونة الشمالية، بات سلام النادي، المعلّم في مدرسة اليرموك الأساسية، مطمئناً على أطفاله الذين يدرسون في مدرستي اليرموك والشونة الأساسيتين اللتين تقعان على شوارع رئيسية، فقد أقيم أمام بوابة كل منهما درابزين يوقف اندفاع الطلبة أثناء خروجهم من البوابة، ويجعلهم في دائرة رؤية السائقين، وأنشئت مطبات قبيل البوابات تجبر السيارات على التوقف، كما وضعت قبل المطبات شواخص مرورية تنبه السائقين إلى ضرورة تخفيض سرعتهم إلى 30 كم.

في عمان، لم تعد ربّة المنزل شادية أبو عيسى نهباً للقلق من مشاوير ابنها المتكررة إلى شارع مكة مع أصدقائه، الشارع الذي شهد حوادث دهس مروّعة، فقد أقيمت على امتداده ثلاثة جسور للمشاة، كما أقيم سياج حديدي على امتداد الشارع يجبر المارة على استخدام هذه الجسور.

في الكرك أيضاً، لم يعد موظف شركة مناجم الفوسفات أحمد الجعافرة وزوجته يتنقلان من نافذة إلى أخرى للاطمئنان على أطفالهما الثلاثة في كل مرة ينزلون فيها للعب في الشارع، خوفاً عليهم من السيارات المندفعة، ومن خطر التعثّر والسقوط في منطقة المرج الجبلية الوعرة، فقد أقيم متنزه في الحيّ الذي يقطنون فيه ويشكّل تجمعاً لإسكانات المعلمين وموظفي الفوسفات وشركة الكهرباء، وزوّد بمقاعد وألعاب، بحيث أصبح بإمكان الأهالي مرافقة أبنائهم إليه.

كلّ ما سبقَ أمثلةٌ على المشاريع التي قامت مبادرة حكمت قدّورة للسلامة المرورية بإقامتها بالتعاون مع مؤسسات من القطاعين العام والخاص. ومن بين آلاف الأسر المستفيدة من هذه المشاريع فإنّ كثيرين لا يعرفون أنّ راحة البال التي باتوا ينعمون بها، دفعت ثمنا فادحاً لها أسرة الشاب حكمت قدّورة ذي السبعة عشر ربيعاً الذي توفي عندما صدمته سيارة تركه سائقها يتخبّط في دمه وهرب.

المأساة التي وقعت يوم 5 كانون الثاني/ يناير 2008، في شارع مكة، حطّمت قلب أبويه ماهر ورندة قدّورة، ولكنها لم تقصم ظهريهما، فقد آمنا من البداية، كما تقول والدته، بأنّ وفاته كانت لحكمة، وكان عليهما أن يبحثا عنها.

«خلال الشهر الأول عشت على المهدئات»، هكذا تصف الفترة الأولى التي أعقبت وفاة ابنها، لكنها أجبرت نفسها على الاستفاقة من الصدمة، وأيقنت أنّ عليها التماسك لأجل ابنها وابنتها؛ سيف الدين الذي كان في سنته الجامعية الثانية، وابنتها جود التي كانت في الثانية عشرة من العمر.

ابناها التي تقول إنهما رغم تعلقهما الشديد بأخيهما، حاولا التماسك من أجلها لدرجة أنهما لم يبكيا أمامها. «كانت ابنتي تأتي كل لحظة لتتفقدني وتطمئن عليّ».

من هنا جاء قرارها هي وزوجها بأن يحوّلا الفاجعة إلى مبادرة إيجابية تجنّب الآخرين، كما يقول الوالد ماهر «أصعب ما يمكن أن يحدث مع إنسان؛ أن يدفن ابنه».

كان ماهر قدّورة ما زال تحت هول الصدمة عندما حاول أن يفهم ما حدث، فبدأ يقرأ عن واقع الحوادث المرورية في الأردن.

وفق أرقام رسمية، فإنّ 992 شخصاً قتلوا في 110 ألف حادث سير العام 2007 وحده، مقارنة بـ 98 ألف حادث سير وقع العام 2006، نجم عنها 899 حالة وفاة. الإحصاءات نفسها أشارت إلى أنّ ما يزيد عن سبعة آلاف شخص قتلوا خلال السنوات العشر الماضية، في حين أصيب 175 ألفا بجروح متفاوتة.

هذه الأرقام شكّلت بالنسبة لقدّورة صدمة ثانية، إذ وجد أنّ ضحايا حوادث الطرق في الأردن يفوق عدد الشهداء على أيدي الاحتلال الإسرائيلي في الفترة نفسها «لقد خطر لي كأنّ حرباً أهلية تدور في شوارعنا».

المبادرة انطلقت في شباط/فبراير 2008، وحددت لنفسها هدفاً، هو جعل المدارس والشوارع والأحياء السكنية أكثر أمناً، كما رسمت خطّة يتم بموجبها تخفيض ما نسبته 40 إلى 50 في المئة من الحوادث في نهاية السنوات الخمس الأولى.

كان يمكن للأمر أن يكون محبطاً منذ البداية، فالهدف كان كبيراً ويحتاج إلى مقدّرات دولة لتتصدى له، لكن قدّورة يؤمن بحكمة تقول: «العاطفة تلهمك، لكن العمل المنظم هو ما يجعلك تحقق هدفك»، وهو يدرك أنّ الوقوف عند «العاطفة» وعدم تجاوزها إلى «العمل المنظم» هو واحد من العوائق التقليدية التي تقف عادة أمام تحقيق الإنجازات في بلادنا، عندما يتمّ في أحيان كثيرة «التعويض عن الفعل بالكلام، وحتى هذا الكلام فإنه يكون آنياً مرتبطاً بمشاعر وقتية ساعة الحدث».

رصد قدّورة للمبادرة مليون دينار ميزانية للمشروع، ووظّف خبرته العملية كمستشار إداري خبير في إعادة هيكلة الشركات، واستطاع، بالتعاون مع متطوعين، التشبيك بين عدد كبير من مؤسسات القطاعين العام والخاص ومؤسسات المجتمع المدني: أمانة عمان، وزارة التربية، وزارة البلديات، إدارة السير، بنوك كبرى، وكالات لبيع السيارات، شركات اتصالات، إذاعات محلية وغيرها، قدّمت هذه المؤسسات كل في اختصاصه التمويل والدعم الفني.

عن طريق هذه الشبكة تمّت دراسة الواقع المروري في المملكة وتحديد المدارس والشوارع التي تمثل «نقاطاً سوداء»، أي التي سجلت عدداً كبيراً من الحوادث، ليبدأ بعدها تنفيذ مشاريع السلامة المرورية فيها.

أنشئت جسور مشاة وأقيمت أسيجة حديدية في شوارع عديدة، منها: مكة، الملك عبد الله، وصفي التل، جميل بن ناصر، كما أنشئت حدائق للأطفال في عمان، الكرك، معان، والشونة الشمالية، أما الإنجاز الأعظم فكان إجراءات السلامة المرورية التي نفذت في محيط 200 مدرسة في جميع أنحاء المملكة. كل هذا بتكلفة بلغت مليون و200 ألف دينار تقريباً.

وفق الإحصاءات، فقد انخفضت وفيات حوادث السير خلال الشهور السبعة الأولى من العام 2009، بما نسبته 33 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها العام 2007.

قدّورة الذي يعدّ هذا الانخفاض في نسبة الحوادث «إنجازاً يسجّل للأردن؛ أردن الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص»، يرى مع ذلك أن الإنجاز الأكبر تمثّل في أن المبادرة كانت نموذجاً يحتذى في كونها درساً في ما يمكن أن تفعله الإدارة الصحيحة للموارد، والمعتمدة على التخطيط العلمي السليم والعمل الحقيقي، لا الشعارات الجوفاء التي يتم تسويقها للاستهلاك الآني. «لا أموال جاءت من الخارج، ولا خبراء أجانب تمت الاستعانة بهم، الخامة كانت كلها محلية، ما حدث هو أنه تمّ استثمارها بطريقة صحيحة».

الحزن على حكمت، كما تقول والدته، لن يذهب أبداً، ذلك أن حياتهم كأسرة قد تغيرت إلى الأبد. «النعمة الكبرى هي في قدرتنا على أن نستمر في الحياة رغم هذا الحزن، وهذا بفضل المبادرة التي بدا ظاهرياً أنها رتّبت علينا أعباء نفسية ومادية والحقيقة أنها ما منحنا العزاء الحقيقي والقدرة على الاستمرار».

في مطلع العام 2010 تحلّ الذكرى الأليمة الثانية لحادث وفاة حكمت قدّورة، لكنها أيضاً الذكرى الثانية لانطلاق مبادرة إنسانية حفظت حياة كثيرين، وبهذا تكون هذه المؤسسة درساً في كيفية تحويل الخسارة إلى ربح.

مبادرة حكمت قدّورة للسلامة المرورية: حقنت دماء المئات ومنحت أصحابها العزاء
 
01-Jan-2010
 
العدد 7