العدد 7 - راحلون
 

وفاة المشير سعد خير المبكرة في فيينا، 9 كانون الأول/ديسمبر 2009، كتبت السطر الأخير في حياة أسطورة عربية تركت بصمة في عالم الاستخبارات مطلع الألفية الثالثة، كما ارتبط صيته بالحرب المستعرة ضد تنظيم القاعدة، ضمن ما سمي «مكافحة الإرهاب» عقب زلزلة 11 أيلول/سبتمبر 2001.

جثمان «الباشا» وصل محطته الأخيرة إلى مقبرة العائلة بعيداً عن الضوضاء، بخلاف الصخب الذي رافق حياته القصيرة نسبياً (58 عاماً)، مذ صعد نجمه من ضابط عمليات محترف إلى إدارة أكثر الأجهزة الأمنية في المنطقة حساسية وسطوة، بخاصة خلال السنوات الخمس عشرة الفائتة.

على مدى خمس سنوات، أضحى خير حجر الرحى في هيكلية الدولة الأردنية. ودانت له اليد الطولى في رسم السياسات وتغيير مواقع الرجال وتشكيل المناصب كرقعة الشطرنج.

وكانت فترة إدارته من أصعب مفاصل الأردن الحديث، لجهة الاضطرابات الإقليمية؛ الغزو الأميركي-البريطاني للعراق 2003، وزعزغة استقرار الأراضي الفلسطينية ولبنان تحت وطأة الاجتياحات الإسرائيلية وسياسات المحافظين الجدد في البيت الأبيض.

على وقع تلك العواصف في محيط الأردن، اشتدت القبضة الأمنية ونشطت في تعقُّب أعضاء تنظيم القاعدة ومناصريه ضمن حملات أمنية. وتحقّقَ نجاحٌ في ضبط شبكات متطرفة قبل تنفيذ مخططاتها، وجرى تفكيكها واعتقال أعضائها.

لكن خبير الاستخبارات الدولي لم يطل به المقام في «شارع الشعب». إذ أُنزل من برجه العاجي، في غمرة تسريبات عن سوء استخدامه السلطة، لم تُكشف تفاصيله حتى الآن.

مثل سابقه وخلفه الفريقان سميح البطيخي ومحمد الذهبي، أُبعد «الباشا» عن الأضواء بعد أن كان صولجانه يطيح بحكومات وينسّب بغيرها.

رغم خروجه العاصف، أسبغ عليه الملك عبد الله الثاني لقبَ «مشير»، ليُضْحي الشخصية الوحيدة من خارج القوات المسلحة التي تحمل هذا التفخيم الأرفع.

لم يصدر بيان رسمي عن وفاة خير، فيما فجّر موقع عمون الإخباري أولاً ذلك النبأ بالتزامن مع تغييرات شاملة في الحكومة والبرلمان.   

مع ذلك، نُظمت «جنازة عسكرية للمشير أبو بشير بمشاركة مندوب الملك»، بحسب ما عنونت عمون خبرها في ذلك اليوم. «الأسرة  الأردنية الواحدة شيّعت الجمعة جثمان المشير سعد خير مدير المخابرات، مستشار الملك مدير الأمن القومي الأسبق، وذلك في جنازة عسكرية من المدينة الطبية إلى مسجد الحسين، ومن هناك إلى مقبرة العائلة بالرقيم والرجيب»، هكذا بدأ مطلع الخبر.

وذكرت وكالة الأنباء الرسمية بترا، أن رئيس الديوان الملكي ناصر اللوزي، «نقل تعازي الملك عبد الله الثاني إلى آل خير الكرام».

حتى ساعة إعداد هذا التقرير، 28 كانون الأول/ديسمبر، لم ترشح تفاصيل عن وفاة «الباشا»، باستثناء تعرضّه لنوبة قلبية حادة ومفاجئة، طبقاً لما أوردته مواقع إلكترونية أردنية.

كاتب هذه السطور قابلَ الفقيد مرة واحدة بعد عودته من بغداد في ربيع 2003، حين كانت الصواريخ والمقاتلات الأميركية تدكّ العاصمة العربية المجاورة. جرى ترتيب تلك المقابلة المطوّلة بتنسيب من صديق مشترك في الديوان الملكي. بدا خير متحدثاً لبقاً ومستمعاً جدياً. كعادته، كان بكامل أناقته وظهر كما لو أنه نجم سينمائي.

هذا الوصف أُطلق على خير من أكثر من جهة. شخصيته وتشعباته في عالم الاستخبارات، ألهمت كاتب العمود السياسي في صحيفة واشنطن بوست الأميركية ديفيد إغناتيوس، لإسقاطها ضمن شخوص رواية ضربت أرقاماً قياسية في المبيعات عنوانها «حزمة أكاذيب» Body of lies، تحولت لاحقاً إلى فيلم سينمائي من بطولة ليوناردو ديكابريو.

«كان خير يتمتع بسحر قوي وممتع –يزاوج بين همفري بوغارت وعمر الشريف. وكان أنيقاً كالعادة. وفي ذلك اليوم، كان يرتدي جاكيتَ كشمير، رباطَ عنق مميزاً، وحذاءً إنجليزياً بدا يدويَّ الحياكة»، هكذا كتب إغناتيوس ناعياً «الباشا» في افتتاحية نشرتها صحيفة «ديلي ستار»، مستذكراً لقاءه الأول برجل الاستخبارات الأردني.

يقول الكاتب الأميركي إنه أدرك، حين تعرّف على خير قبل خمس سنوات، أنه سيُلبسه في روايته شخصية «هاني سلام»، مدير المخابرات الأردنية. «هاني باشا (الذي لعب دوره الممثل البريطاني مارك سترونغ)، سرق العرض، لأن دوره كان مرتكزاً على شخص حقيقي؛ فتصرفات  الشخصية وحتّى الملابس صُممت لباشا حقيقي».

يستذكر إغناتيوس كيف كان مدير المخابرات المركزية الأميركية C. I. A. جورج تيتنت، أول من وصف «عبقرية» خير له. يقول: «سألت تينيت العام 2003 إذا كان أي من أجهزة المخابرات قد ساعد في الحرب ضد القاعدة؟ فأجاب على الفور: الأردنيون. وأضاف بحماسة شديدة: رجل المخابرات الأردني سعد خير.. إنه  نجم».

ينتقل إغناتيوس إلى توصيف خير، ذاهباً إلى أن «رجل المخابرات الرائع والمجروح عاطفياً» كان من «أكفأ رجال المخابرات العرب، وقاد العديد من عمليات الاختراق ضد مجموعات متطرفة».

«بعد أن يسلب البريق من أعدائه، يزيح رئيس المخابرات الغبار عن بذلته الأنيقة ويختفي في عالمه من الوهم والسيطرة»، هكذا ينهي إغناتيوس سيناريو فيلمه.

رأت فيه القوى الإصلاحية في البلاد خصماً عنيداً. فقد اتخذ موقفاً ضد الإصلاحات السياسية الداخلية، وشهدت فترة إدارته للمخابرات تضييقاً للحريات العامة، وذلك بحجة أن الأردن «يقع بين المطرقة والسندان»، في إشارة إلى الأوضاع الإقليمية المشتعلة، التي كان يخشى أن تُلقي بظلالها على الوضع الداخلي. لكن الإصلاحيين لم يكونوا يتفقون معه في ذلك.

يترك «الباشا» خلفه خفايا وحكايا، انتصارات، وربما إخفاقات، أصدقاء ومريدين، بعضهم تقلد مناصب بتنسيب منه، وبالتأكيد أعداء وقد يكونون كثراً.

أسطورة فن الاستخبارات في الرواية والسينما خير يرحل مبكّراً وخلفه صندوق ألغاز وخفايا
 
01-Jan-2010
 
العدد 7