العدد 7 - راحلون | ||||||||||||||
كانت المرة الأولى التي قابلت فيها ريتشارد أنطون Richard Antoun في العام 1975. ولما كنت مهتمة في ذلك الحين بالدراسات الشرق-أوسطية والأنثروبولوجيا، فقد بحثت عن جامعة «قوية» في الحقلين. اقترح بعضهم جامعة صني–بنغهامتون SUNY-Binghamton، ونصحوني بالاتصال بالبروفيسور أنطون، فهاتفته من أوتاوا، إيلينوي، حيث كنت أقيم. لم يكن الرجل ودوداً وكيّساً وحسب، وإنما دعاني أيضاً إلى الزيارة. وقال لي: «تعالي وانظري بنفسك، ثم قرري». وخلال أسبوع واحد، وبناء على دعوة «ديك» أنطون، اتجهنا أنا وزوجي حينذاك –باول ميردوخ- إلى بنغهامتون. وهناك أُخذنا، زوجي باول وأنا، برقّة حاشيته، ودفئه، ومعرفته وحماسته، فقررنا الانضمام إلى الجامعة. خلال السنوات العشرين التي عشتها في بنغهامتون، كان «ديك» أنطون دائماً معلّماً مخلصاً يبث الطاقة في طلبته، ومفكّراً جاداً ومنخرطاً، وكاتباً غزير الإنتاج، وصديقاً ومستشاراً أميناً. وقد بقيت على اتصال منتظم معه لوقت طويل بعد أن غادرت. وبالإضافة إلى كونه أنثروبولوجياً لامعاً ومفكراً، كان «ديك» أنطون أيضاً صاحب اهتمامات فكرية واسعة والكثير من المنجزات؛ كان رجلَ نهضةٍ حقيقياً. وأتذكر كم كنا نتعجب، أنا وزملائي من طلبة الدراسات العليا، ليس فقط من حضوره الفاعل في محاضرات وموائد مستديرة ومؤتمرات لا حصر لعددها، وإنما أيضاً بالتقاطه المتقن والمجتهد للملاحظات، بصرف النظر عن الموضوع. وقد سألته ذات مرة عما يفعله بكل ملاحظاته تلك، فقال: «إنني أحتفظ بها»، ثم أضاف: «يساعدني تدوين الأمور على تذكّر ما قيل. وعندما تعود قضية ما إلى الظهور، فإنني أتذكّر من كان يتحدث، وما قيل، وأعرف أين أبحث». لأنني أقيم مؤخراً في المغرب، فقد وصلتني الرسالة عن مقتل ديك أنطون بطريقة وحشية على يد أحد طلبة دائرة الأنثروبولوجيا، فغمرتني مشاعر الصدمة والحزن والغضب؛ وارتجفت. لا أحد يستحق مثل هذه الميتة الحاقدة؛ فلماذا يموتها ديك أنطون من بين كل الناس! لم أكن أظن أبداً أن يفكر أحد بمجرد إيذائه، وهو أحد ألطف الذين عرفتهم وأكثرهم مسالمة، ناهيك عن مهاجمته بمثل هذه الوحشية، وعلى يد واحد من طلبته أنفسهم! وأدركت أنني لا أفقد أستاذاً محبوباً وصديقاً فقط، وإنما وجدت جزءاً من ذاتي يذهب معه أيضاً. أما الآثار التي تركها فيّ، فما زالت حاضرة تماماً، وسوف نظل حاضرة أبداً. بوصفي واحدة من بين الآلاف من الطلبة، والزملاء، والأصدقاء وأفراد العائلة الذين أثّرتَ فيهم بكل إيجابية، فإنني أنعيك يا ديك أنطون، أيها الأستاذ المحبوب والصديق العزيز، وأرثيك بقلب مثقل. وبينما أبكيك، تظل كلمات الشاعر ويستان هاف أودن الذي وصف بدقة كبيرة ذلك الحزن الذي يخلفه فقدان عزيز، تدور في مخيلتي: «أوقفوا الساعاتِ كلَّها، واقطعوا خط الهاتف. وبعظمة مشتهاة، أوقفوا الكلب عن النباح. أسْكِتوا عزف البيانو، وبدقات طبل مكتوم أخرجوا النعش، واحضروا المشيعين. دعوا الطائرات تدور مُعوِلَةً فوقنا لتخربشَ الرسالة على صفحة السماء: لقد مات. طوقوا أعناق الحمام بشارات الحداد السود وليرتدِ شرطة السير قفازات قطن سوداء. لم تعد ثمة حاجة للنجوم الآن: فاطفئوها جميعاً؛ وليحزم القمر متاعه ويرحل، ولتتفكك الشمس؛ أريقوا مياه المحيط، واكنسوا الغابة؛ فالآن، لا شيء له معنى». منيرة سالم - ميردوخ الرباط - المغرب |
|
|||||||||||||