العدد 3 - الملف
 

في كثير من مناطق الأردن، وفي الشمال بخاصة، ما إن تُذكَر المزار أو أحد أبنائها، حتى ينصرف الذهن إلى صفات مثل سرعة البديهة والذكاء والنكتة والكلام المطواع، وإذا كان المرء في حضرة مزاري، فعليه أن ينتبه جيداً إلى كلامه، كي لا يقع في أي محظور، فيجعل من نفسه ضحيةً لخفّة دمه، ما يعني احتمالَ أن تُسجَّل عليه نقطة قد تصاحبه طوال العمر.

إلى الجنوب الغربي من مدينة إربد، وعلى تلة تشرف على سورية وفلسطين وشمال الأردن، قامت بلدة المزار، حيث أفق النظر والخيال والتفكير مفتوح أمام السكان، فهم على مدار الوقت يشعرون أن الكل مكشوف أمامهم، نظراً لأنهم يشرفون وينظرون من موقع أعلى مكانياً، فلماذا لا يتعزز ذلك بتحقيق الموقع نفسه ثقافياً؟ لعل هذا الوضع هو الذي مكّنهم من أن لا يترددوا عن النقد والتهكُّم.

يمارس أهل المزار طباعهم تلك داخل بلدتهم وخارجها. لقد اعتادوا على تحمُّل بعضهم بعضاً، وتلك من الصفات الشهيرة لخفيفي الظل. إنهم بالفعل أصحاب نكتة وصنّاع قفشة، ويحتفظون لمحترفي التنكيت والإضحاك بموقع محترم اجتماعياً. كل ما هنالك أن مثل هؤلاء يتميزون في أن الكلام «طايعلْهُم» أكثر من غيرهم.

حواء تُنزل آدم من الحافلة

بمجرد أن صافحت أبو محمد، أحد سكان البلدة، وذكرت له موضوع البحث والتقصي الذي تنوي «ے» تناوله، رحّب بي، وبعد دقائق وجدنا أنفسنا في حوار لطيف مليء بالحكايات الظريفة، وبسهولة بالغة انضم إلينا ضيفان آخران وقدما مساهماتهما.

براعة هؤلاء تكمن أساساً في «نكتة الموقف»، ولذلك فإن أشهر تلك النكات تتحول إلى حكايات تتناقلها الأجيال، وقد تتحول إلى ما يشبه الحكمة، ومن ذلك أن أحد محترفي النكات من الأحياء، كان يستقل حافلة ويجلس على مقعد منفرد، وأثناء السير توقفت الحافلة لتحميل سيدة، ولما كانت الحافلة ممتلئة بالركاب فقد نظر السائق إلى ذلك المزاري راجياً منه التفضل بإجلاس السيدة مكانه، على أن يجلس إلى جانب السائق، أي بلا مقعد. وافق المزاري كرماً منه، بعد قليل تلقى السائق إشارة بأن في الطريق دورية لشرطة السير، فتوقف عن السير والتفت إلى الركاب طالباً من «الزيادة» أن ينزلوا من الحافلة. فقال المزاري: لعلك تقصدني بالكلام؟ فقال السائق: أنا أقصد «الزيادة»، وبما أنك الوحيد «الزيادة» فأنت المقصود. فنهض المزاري وهو يقول: إذا كانت حواء أنزلت آدم من الجنة فلماذا لا تُنزله من الباص؟ أمام هذه الإجابة أقسم السائق عليه أن يبقى، وعند وصوله إلى دورية الشرطة التي أرادت تحرير مخالفة له، روى لأفراد الشرطة الحوار الذي جرى، وهو ما استلطفه هؤلاء وسمحوا للحافلة بالسير من دون مخالفة.

بعد هذه الحكاية صار الناس يقولون في حالات مشابهة: «مثل ما قال فلان»، ويروون الحكاية، فتحول الموقف بمجمله إلى ما يشبه الحكمة.

السخرية أصبحت طابعاً عاماً للناس هناك، وهم يلجأون إلى شتى أشكال المماحكة الودية بحيث تنتج النكتة في السياق، ومنها ما حدث عندما شوهد أحد الأشخاص يفرك نظارته وهو يضعها على عينيه، فأراد آخر استفزازه وقال له: إن الواحد إذا كانت عينه تحكّه يخلع نظارته ويحكّها من تحت النظارة. فرد الأول على الفور: إنك مخطئ، فهل ستخلع بنطلونك إذا كانت مؤخرتك تحكّك؟

وفي حكاية أخرى، أن دائرة الأحوال المدنية اقترفت خطأً طباعياً في البطاقة الشخصية لأحد المزاريين، بحيث جعلت عمره ثلاث سنوات بينما هو في السبعين من عمره، فما كان منه إلا أن عاد إلى موظفي الدائرة يسألهم: أين رضّاعتي يا إخوان، لقد نسيتها عندكم؟

لقد اختار هذا الرجل أن لا يتبع الأسلوب الاعتيادي، وعدّ ما جرى مجرد خطأ طباعي، وبدلاً من ذلك اختار هذا الأسلوب الظريف، وبفضل ذلك تحوّل الموقف إلى حكاية تُروى. وبهذا فإن النكات والحكايا الظريفة شكّلت جانباً رئيسياً من محتوى جلسات الناس هناك.

يقول أبو محمد إن الناس في المزار بعامة يتميزون بالوسامة وطلاقة اللسان، ويروي أن سيدة في إحدى القرى كانت برفقة زوجها، وهما يحاولان اللحاق بالحافلة، وكان الزوج يحث زوجته على الإسراع في المشي، ويقول لها: أسرعي، ما بكِ؟ أم إنك «شايفيتلك مزاري»؟

لغالبية الرجال في البلدة ألقاب يُعْرَفون بها، وهي حال القرى التي تسكنها عشيرة واحدة أو عدد قليل من العشائر الكبيرة، حيث تكون هناك حاجة للقب خاص للتعريف، وبعض هذه الألقاب تكون مقبولة أو محببة وتصبح جزءاً معلناً من الاسم.

بخاطرك يا لحم

من الحكايا ما بقي في إطار البلدة نفسها، ومنها ما خرج وأصبح جزءاً من الثقافة الشفهية لعموم منطقة الشمال، وفي بعض الحالات تجاوزها. ومن أبرز القصص واحدة تعود إلى أكثر من ربع قرن. وهي عن مزاري يحب أكل اللحوم كثيراً، وقد اعتاد أن يشتريه بسعر منخفض، وذات يوم أخذ معه قروشه إلى اللحام في إربد، وسأل عن سعر رأس عِجل معلّق أمامه، فأجابه اللحام: إنه بدينار. بينما اعتاد المزاري أن يشتريه بقروش قليلة. حينها أخرج المزاري القروش التي في جيبه وأعطاها للّحام، وقال له: أرجو أن تسمح لي أن أقبّله وأودّعه. ففعل ثم انطلق يصيح في السوق: بخاطرك يا لحم.. بخاطرك يا لحم. وقد أصبحت تلك العبارة شائعة، وصارت تُروى في المنطقة، ويستخدمها الناس في حالات شبيهة.

قد تكون النكتة عادية، وقد تكون قاسية، فذات يوم حملوا رجلاً مريضاً إلى المستشفى بعد أن مددوه فوق بطانية، وخلال ذلك نظر إليه أحد المارة وسأله: شلونك يا حجّي؟ فردّ عليه فوراً: فوق الريح!

وفي حادثة أخرى، عاد أحدهم إلى المزار وقد اشترى أحشاء خروف، كروش ومصارين، وضعها في كيس. فسأله أحدهم متهكّماً: شو.. الظاهر إنك عازم كلاب اليوم؟ فرد عليه على الفور: آه والله، ما وصلتك بطاقة دعوة مني؟

من النكات ما هو موجَّه نحو الخارج، وبخاصة القرى المحيطة التي اعتاد أهلها على محاولة تجنُّب الوقوع في مطبّات أمام أهل المزار. ذات يوم، وفي لقاء رسمي قدّمَ فيه أهل البلدة مطالبهم، قيل لهم إن عليهم أن يتوجهوا إلى مسؤول كبير، وينتمي لإحدى قرى محافظة إربد، فقال أحد المزاريين الحاضرين: إنّ أيّاً من أبناء تلك القرية لن يفيدنا، بدليل أن أحدهم كان في يوم من الأيام يجرّ حماراً، فصادفه مزاري بحوزته كيس طحين، فطلب المزاري من صاحب الحمار تحميل الكيس فوق الحمار، لكن ابن تلك القرية رفض وقال له: الحمار جديد، وعمره ست سنوات، وقد اشتريته للتوّ، أما أنا فعمري 32 سنة، لذا سأحمل الكيس على ظهري.

غرامة على الضحك

أما أشهر القصص فيعود تاريخها إلى نحو قرن، أيام الحكم العثماني، وتتلخص في أن ساكني إحدى القرى المجاورة كانوا يضطرون أثناء العودة من حقولهم ومزارعهم للمرور من بلدة المزار، وذات يوم مرض أحد الحمير لديهم وهم في الحقل، وكان عليهم أن يحملوه في طريق العودة، ولكن كيف يحملونه ويمرون أمام المزارية؟ إنهم لن ينجوا من التعليقات. وهنا اقترح أحدهم أن يحملوا الحمار فوق لوح خشبي ويغطوه بوصفه ميتاً في طريقه للدفن، فذلك سيمنع التعليق. ولكن أهل المزار بمجرد أن رأوا المشهد ولاحظوا أن حاملي الميت لا يهلّلون، كما هي العادة، اكتشفوا الأمر، فتقدموا للمساعدة في حمل «الميت»، وصاروا يبالغون في الحزن والبكاء والندب بقولهم: «أسمر يا حبيبي، مصارينك تلفون وذيلك سوط أحمد فوزي» (أحمد فوزي قائد شرطة عثماني مشهور بقسوته).

بعد ذلك صار الناس في المزار يستخدمون عبارة «أسمر يا حبيبي» للتهكم على سكان تلك القرية الذين تقدموا بشكوى إلى أعلى مسؤول إداري. فاستدعى الأخير الطرفين وطلب من أهل المزار التوقف عن لفظ عبارة «أسمر يا حبيبي» نهائياً، وأعلن أن من يتلفظ بها عليه أن يدفع غرامة قيمتها خمس ليرات، فقام أحد الحضور من أهل المزار وأخرج ما في جيبه من ليرات، وإذا بها 22 ليرة، فوضعها أمام الحاكم الإداري، وكرر عبارة «أسمر يا حبيبي» أربع مرات، وعندما وصل إلى آخر ليرتين قال: «أسمر». وبهذه الطريقة تم إفراغ الاتفاقية من مضمونها.

الجيل الجديد من سكان البلدة، يبدو أقلّ ميلاً للتنكيت والضحك مقارنةً بالأجيال السابقة، غير أن الصفة العامة تلك ما زالت معروفة وممارَسة إلى درجة كبيرة هناك. يؤكد أبو محمد أن الناس كانوا أحياناً يتشاجرون، لكنهم يلتقون في اليوم التالي ليغرقوا في تهكُّم شديد، كأن يحمل أحدهم الحجر الذي قُذف به، ويقول لقاذفه: ألا ترى؟ لو أصابني حجرك هذا لكسرَ رأسي.

بلدة المزار: النكتة نحو الداخل والخارج
 
01-Sep-2009
 
العدد 3