العدد 3 - الملف | ||||||||||||||
ليس معروفاً السبب الذي دعا أبناء القرية لأن يطلقوا على سالم لقب «خرى الوحش»، فالرجل مات منذ فترة طويلة، وأبناء جيله الذين عايشوا ظروف إطلاق اللقب عليه ماتوا هم أيضاً، ويبدو أن سرّ اللقب لم يتمّ توارثه على مرّ الأجيال، كما تم توارث اللقب نفسه، فأولاد سالم ما زالوا إلى الآن يُعْرَفون ويُعَرَّفون على أنهم أبناء «خرى الوحش». تُضاف إلى اللقب السابق ألقابٌ لا حدود لخيال ناحِتيها، ولا أسباب معروفة لإطلاقها، فهناك «قرد الخشّة»، و«الألل»، و«المطو»، و«قنابر»، و«زقّ الكلب»، والزقّ قربةٌ مصنوعة من الجلد، تُستخدم في خضّ الحليب لاستخراج الزبدة. مع ذلك، هناك ألقاب يتذكر بعضهم قصتها، مثلاً «ربع البلد»، إذ أُطلق عليه اللقب من باب السخرية لأنه كان قزماً، و«الإنجليزية»، وهو لقب لرجل كان أشقر وله عيون زرقاء ويتمتع بجمال خارق، و«العَمْشة» التي أصيبت منذ طفولتها بضعف نظر شديد، وهناك «القَصَلة» الذي كان في طفولته شديد الهزال مثل عود القصل، والمفارقة أن هذا الرجل كبر وأصبح بديناً جداً، لكن اللقب التصق به ولم يفارقه. يمكن عدّ اللقب، أو «اللّبَق» باللهجة الأردنية، بوصفه واحداً من تجليات السخرية، وإن كانت له وظيفة أخرى هي التمييز بين الأفراد، ويحدث هذا بالتحديد في القرى التي ينتمي فيها الناس إلى عشيرة واحدة أو عشيرتين، وتحتفظ بتقليد تسمية الأولاد على أسماء الأجداد، وتضم بالتالي أعداداً كبيرة من أشخاص يحملون الاسم الثنائي أو الثلاثي نفسه. في رأي الكاتب رسمي أبو علي، فإن الظاهرة تقتصر على الطبقات الشعبية، إذ كانت تكفي حادثة بسيطة ليفقد الإنسان اسمه. يدلل على ذلك برجل من جيرانه قام وهو طفل بسرقة جدي صغير من قطيع كان يمرّ أمام منزله، فسمّاه الناس «أبو الجديان»، فالتصق اللقب به إلى أن مات. «الخوض في الألقاب مسألة شديدة الحساسية»، هكذا يقول «س»، 57 عاماً، الذي يقيم في إحدى قرى الشمال، ورفضَ الكشف عن اسمه، أو اسم قريته، وهو بذلك يؤكد على مفارقة تتمثل في أن اللقب يُتداوَل على نطاق واسع في محيط الشخص المعني، بحيث يصبح بديلاً عن اسمه، ولكن ذلك يجري من وراء ظهره. يقول: «كل أصحاب الألقاب يعرفون ألقابهم، لكن لا أحد يجرؤ على استخدامه في حضورهم لأن هذا بمنزلة الشتيمة». «س» يلفت النظر إلى أن الظاهرة قديمة، أو ربما في طريقها إلى الاندثار، فمعظم أصحاب الألقاب تجاوزوا العقد الخامس من أعمارهم. وهو يفسّر ذلك بأن نمط الحياة في القرى تغيّر، فقد ضاقت الدوائر التي يتعاطى الناس الألقاب ضمنها، ويتفاعلون في إطارها، وبعد أن كان أبناء القرية منفتحين بعضهم على بعض، أصبح التعامل الآن يقتصر في ما بين الأقارب من الدرجة الأولى، وربما الدرجة الثانية في أحسن الأحوال، وهؤلاء لا يحتاج الواحد منهم إلى تمييز أحدهم عن البقية. مع ذلك، هناك من تصالحوا مع ألقابهم، وهم لم يكتفوا بالتسليم بها كهوية لهم، بل وأطلقوها على مشاريعهم التجارية، مثلاً «فلافل القاروط»، وهو اسم لمحل يمتلكه شخص فقدَ أمه وهو طفل، فأصبح هذا لقبه إلى أن كبر، وهناك أيضاً مطعم «العصفور»، ومحلات «أبو الجداية». حظ النساء من الألقاب أقل، فمجتمع ما زال يرى أن اسم المرأة الحقيقي عورة، ويستبدل به تعابير مثل «العيلة» أو «المَرَة»، لا يمكن أن يتسامح مع ألقاب تنال منها بالسخرية، ذلك أن المرأة على رأي أبو علي، «لها رجالها الذين يدافعون عنها»، وبالتالي فإن إطلاق الألقاب السلبية عليها يتم بحذر شديد. هذا ما يفسر أن ألقاب النساء، في الغالب، تكون جميلة، مثلا «شمبر اللوكس»، واللوكس هو المصباح، أما الشمبر فهو القطعة البيضاء التي تضيء داخله، ومن الواضح أن اللقب لامرأة عُرفت ببياضها، ومثلها «الربعية»، والمقصود بها قطعة الذهب المعروفة بربع الليرة، وأُطلق عليها، لأنها كانت في طفولتها صغيرة الحجم وجميلة جداً. النساء قد يحضرن في الألقاب أيضاً عندما يُنسب إليهن أبناؤهن، وهذه حالة محمود عزيزة، 88 عاماً، وهو وحيد أمه، إذ أنجبته بعد عشرين عاماً من إنجابها أخته الوحيدة. وفقاً لمحمود، فإن معتقداً شعبياً سائداً في ذلك الوقت، كان يفيد بأن نسب الولد إلى أمه يردّ عنه العين. ينسجم ذلك، إلى حد كبير، مع معتقد شعبي آخر، يرى أن تسمية الولد بأسماء مهينة مثل شحدة وهويمل، يمكن أن يحميه من الحسد، ومن هنا فإن نسبة الولد إلى أمه بما فيه من تقليل لشأنه يمكنه أن يؤدي المهمة نفسها. وبهذا فإن محمود الذي ظل طوال عمره يخجل من الأمر، ما زال يستفزه إلى الآن أن يقوم أحدٌ بالتعريف به باسم أمه. |
|
|||||||||||||