العدد 6 - ثقافي
 

يميل كتّاب السير الذاتية غالباً إلى تأويل الماضي من خلال حاضرهم، أما يعقوب زيادين، فقد اختار سرد الأحداث كما هي، تاركاً للقارئ مسألة التأويل، وقراءة المعاني.

أتيح لزيادين أن يعيش طفولة في مجتمع وثقافة كانت قد سكنت دون تغير لقرون، ثم بدأ الحال بتسارع غير مسبوق، فاستدخل في بنائه الشخصي ثقافةَ مجتمع امتدت قروناً، وأصبحت حياته شاهداً على النقلة الحضارية للأردن، بما تتضمنه من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وبهذا يُعدّ «البدايات» وثيقة تاريخية أمينة لحياة جيل ومجتمع.

تشكلت شخصية كاتب السيرة منذ الطفولة في إطار مجتمع بسيط بدوي، يعيش حياةَ كفافٍ في إطار تجمعات قرابية متكافلة، يقتصر اقتصادها على الأنعام والزرع.

رغم قسوة الحياة، أتيحت للطفل فرصةُ التعلم بوجود مدارس دينية، كان لها ولمضامين التعليم فيها دورٌ في غرس توجّهات دينية لدى الطفل، وقد ظلت هذه التوجهات ماثلة في حياته، من حيث النزعة الإنسانية، ودون أن يصبح الدين حائلاً بينه وبين التساؤل في واقع مجتمعه، وبخاصة ما كان من عمليات استغلال في علاقة الفلاحين بمالكي الأرض. ويشير صاحب السيرة إلى التمييز بين الذكور والإناث في فرص التعليم، مما كان يحرم الإناث من التعليم أو الاستمرار فيه.

تشكل مدرسة السلط الثانوية، التي انتقل إليها مع عدد من أبناء الكرك، مؤسسة مهمة في تاريخ الأردن، فقد كانت بما ضمّت من أساتذة وإداريين من الجامعين، مصنع تكوين قيادات البلاد، بخاصة أنها أتاحت الفرصة لخرّيجيها لإكمال الدراسة الجامعية.

التحق زيادين بجامعة دمشق، واختار دراسة الطب، وقد واجه في كل مراحل دراسته صعوبات اقتصادية، كادت تمنعه من الاستمرار لولا تكافل الأهل.

وقد مثلت حياته الجامعية في دمشق نقلة نوعية، تعرّف فيها على أشخاص ينتمون للحزب الشيوعي، فكان في طروحاتهم وأدبياتهم ومحاضراتهم إجابات شافية عمّا كان يختلج في عقله من تساؤلات، محلية ووطنية وإنسانية.

تمثّل هذه السيرة في معظمها تأريخاً للحركات الوطنية والصراع مع النظم السياسية العربية، كما تشمل من منظور إنساني، همومَ العالم الثالث والإنسانية.

تنم السيرة الذاتية في البدايات عن نموذج ملتزم بعقيدة وأفكار كَلّفت حاملها المشاقَّ، إذ أمضى فتراتٍ من حياته في السجون والتعذيب، فلم يبقَ سجنٌ إلا ودخله، دون رجوع عن مبادئه. فقد عُذِّب في الجفر، وغُيِّب عن أسرته وممارسة مهنته.

يقول مستذكراً إحدى مرات الاعتقال: «بعد أن فكوا قيودنا أدخلونا في قبو على باب السجن المركزي في عمّان.. لا نوافذ لها ولا مجارٍ». وبعد الاحتجاج تم نقلهم» إلى زنازين 25 المعروفة بقذارتها، يضعون فيها في العادة المحكومين بالإعدام... ووضعوا كل اثنين في زنزانة». ثم يصف أنواع التعذيب والإهانات التي كانت تُصَبّ على المعتقلين السياسيين.

كانت الجبهةُ الوطنية الإطارَ الوطني والقومي والإنساني الذي جمع التجمعات والأفراد الذين يؤمنون بتحقيق التحرر، وبناء وطن يقوم على المواطنة والديمقراطية، تُحتَرم فيه حقوق الإنسان دون تمييز.

ضمت الجبهة جيلاً من المهنيين المستقلين في توفير أرزاقهم ممن نذروا حياتهم للصالح العام، ليس على مستوى الوطن فقط، وإنما على المستويين القومي والعالمي. وهو جيلٌ ضحّى بمصالحه الخاصة، وبالمكاسب، من أجل تحقيق طموحاته في بناء دولة العدل والقانون والسيادة. فقاوم المنتمون إليه كل محاولات التدخل الأجنبي والظلم والاستغلال الداخلي.

«كان العام 1953 وما تلاه، فترة نهوض عارم في الأوساط الشعبية... تصاعد النضال ضد الأحلاف العسكرية، وضد سيطرة غلوب باشا على الجيش وتسخيره لأهداف السيطرة الاستعمارية البريطانية.. وكانت التظاهرات وحوادث الصدام مع الشرطة تتزايد باستمرار».

رغم الأحكام العرفية، التي استمرت حتى أواخر الثمانينيات، استطاع زيادين، بعد فترات من عمله طبيباً في القدس، النجاح في الانتخابات النيابية عن القدس، وهو المولود في الكرك. زيادين مع غالبية الشعب الأردني يمثل الوحدة الوطنية، فلم يَرَ فرقاً بين من وُلد غرب النهر أو شرقه. يقول: «كنت أطمح فقط لأن أُسهم بقسط من خلال مركزي الجديد (عضو اللجنة المركزية للحزب) في نضال العالم من أجل الاستقلال، من أجل الحرية، من أجل الديمقراطية والتقدم، والقضاء على كل مظاهر التخلف، وفي رأس القائمة القضاء على الإقليمية والطائفية والاستقلال».

امتاز جيل يعقوب زيادين بالمشاركة في أحزاب وتجمعات حزبية، وبحمل مبادئ وعقائد، لكنهم تميزوا أيضاً عمن ينتمون للأحزاب الأخرى، بالنضال الصادق، وتطبيق ما يؤمنون به في الواقع. فكثيرون من الأطباء العقائديين، ومنهم يعقوب زيادين، كانوا يعالجون الفقراء دون مقابل، وهذا مما رسخ مكانة زيادين في القدس، إضافةً إلى أن اختيار الناس لمرشحي البرلمان لم يكن يتم على أسس عشائرية كما هي الحال في الزمن الراهن، وإنما الأساس المبادئ الحزبية، والسيرة الذاتية للمرشح، ومواقفه الوطنية، وبهذا يمكن عدّ الحاضر ردةً سلبية، لحلول الجماعات الأهلية التقليدية مكان تجمعات المجتمع المدني ومؤسساته.

يقول زيادين: «جاءت نتائج الانتخابات 1956، مؤيدة للطموحات الشعبية، وتجمّعَ عدد من المرشحين الوطنيين، وكانت حصة الجبهة الوطنية ثلاثة نواب: فايق وراد عن رام الله، وعبد القادر الصالح عن نابلس، وأنا عن القدس. وأحرز المرشحون الآخرون -إبراهيم الحباشنة في الكرك، وأمين شقير في عمّان، وفايز الروسان في إربد- أرقاماً عالية، وذلك رغم وجود شقير في الجفر كل تلك المدة ».

تشير البدايات إلى الدور النضالي للمرأة، فقد أسهمت زوجة زيادين في العمل الوطني على مستوى المجتمع المحلي والوطني، وحملت في غيابه في السجون أعباء الأسرة، كما شهدت الأحزابُ مشاركةً نسائية فاعلة.

مثّلت الحركة الوطنية الشعبية لجيل زيادين، وحدة وطنية حقيقية، فلم يكن يُعرف الإنسان بعشيرة أو جهة، وإنما بسلوكه ومبادئه وأفعاله، مما يعزز ثقة الشعب بتلك القيادات، الأمر الذي لا يبدو ماثلاً في الحاضر، وبخاصة بالنسبة للقيادات الحزبية الحالية.

رغم كل سنوات الاعتقال والتعذيب، ظل زيادين مخلصاً لمبادئه، وتطوير نفسه مهْنياً، وتوظيف حياته في خدمة الإنسانية. فأين هذا النموذج النضالي مما يُشاهَد اليوم من تكالبٍ على تعزيز التفتُّت وعدم المبالاة إلا بما يحقق المصالح الخاصة.

البدايات تأريخ للحركة الوطنية، وتأريخ لمرحلة التحرر، وإعطاء نموذج للانتماء الحق للوطن وللإنسانية، ولهذا فإنه يمثل نبراساً للشباب، ولكل من يسعى إلى تحقيق الصالح العام. إن قراءته، ضرورة معرفية تضيء ما جرى في الأردن في أواسط القرن العشرين، فضلا عما تقدمه من متعة يحملها جمال الأسلوب.

«البدايات» ليعقوب زيادين: وثيقة تاريخية أمينة لحياة جيل ومجتمع
 
01-Dec-2009
 
العدد 6