العدد 6 - ثقافي
 

في أواسط الستينيات بزغ نجم إسماعيل شموط بوصفه فناناً ذا بصمة فريدة. قبله كان هناك فنانون فلسطينيون عديدون، فالتقليد التشكيلي الفلسطيني يعود إلى ما قبل عام النكبة بكثير، لكن شموط حظي بلقب «رسام القضية الفلسطينية»، وظل يتخذ من التعبير عن قضيته الوطنية موضوعاً للوحاته التشكيلية.

لم يزده زواجه من التشكيلية تمام الأكحل إلا مزيداً من الارتباط بقضيته الواحدة والوحيدة، بل إن لوحات الأكحل بدت وكأنها رُسمت بريشته واستمدت ألوانها من ألوانه، فظهرا منذ ذلك الحين ثنائياً تشكيلياً فريداً في تعبيره عن القضية الفلسطينية في منعرجاتها الخطيرة التي مرت بها طوال ستة عقود.

هذه المقدمة ضرورية للكتابة عن العمل المشترك لشموط والأكحل الذي يحمل عنوان «السيرة والمسيرة».

السيرة هي سيرة بلد اسمه فلسطين، حكايته منذ أن كان وطناً لشعب فلسطين، والمسيرة هي مسيرة الشعب الفلسطيني من الوطن إلى الشتات: ثم من الشتات إلى الوطن، طريق للآلام باتجاهين، فكلتا المسيرتين شاقة ومأساوية ودامية.

في «السيرة». تبدو فلسطين حلماً جميلاً كما تبدت لشموط والأكحل في ذاكرة الطفولة التي احتفظا بها، بحر وميناء وسفن بأشرعة وصيادون ومراكب صغيرة ملونة. زرقة البحر في يافا لا تشوبها شائبة، والبحّارة لا تخلو وجوههم الكادحة من وسامة، والزوارق مبتهجة بألوانها الزاهية.

البحر جميل حتى حين تغزو أمواجه العالية الشوارع، والناس والعربات والمباني بحجارتها البيضاء النضرة لا تبالي بغضب الموج وثورته. قد تكون هذه اللوحة شأنها في ذلك شأن لوحات كثيرة، فاقدة لكثير من عناصر الواقعية التي تنتسب إليها لوحات أخرى للفنانين، لكنها تأخذ مبررها من كونها قادمة من عالم الذاكرة الذي يلامس عالم الحلم، ولكن ليس من عالم الحلم نفسه، فالحلم شيء آخر، وحين يجسد شموط الحلم على جسم اللوحة، فإن الأبعاد الحقيقية تنتهي وتفقد اتساقها، فجسد المرأة الممتد بثوبها الفلسطيني الأبيض المطرز يبدو عملاقاً، إذا ما قورن بالتكوينات الأخرى في اللوحة بشراً وطبيعة، والتباين بين الوضوح الشديد في جسد المرأة وملامح وجهها الجميلة، وبين التكوينات المعتمة للشخوص المحيطة بها، كلها من سمات الحلم الذي استُلّت منه فكرة اللوحة.

لوحات الحلم نُفذت بألوان طازجة، أما لوحات الذاكرة، فامتزجت فيها الألوان الطازجة بألوان تدرجت في قتامتها حتى وصلت، في بعض الأحيان، حدَّ العتمة.

في «المسيرة» يختفي الحلم وتبقى الذاكرة. لكنها هنا ليست ذاكرة الطفولة التي تنقّي الأحداث والوقائع من حقيقيتها وواقعيتها، وتبقي على ما هو جميل وزاه وبهيج، بل ذاكرة الألم والشقاء والقسوة التي ميّزت حياة الشعب الفلسطيني منذ 1948، عام النكبة التي ألقت بالشعب الفلسطيني إلى الشتات. ذاكرة الشتات هي نقيض ذاكرة الوطن، وإذا كان الجمال والبهجة والألق من مكونات ذاكرة الوطن، فإن الألم والشقاء والبؤس والذل من مكونات ذاكرة الشتات. الألوان هنا ليست طازجة أو صارخة، بل ممزوجة بمكونات لونية أقرب إلى القتامة، هذا ما يبدو في اللوحات التي تسجل ذكرى الاقتلاع والبؤس وأيام اللجوء الأولى. وهي تبقى كذلك حتى النهاية، والفلسطيني يحفر طريق عودته إلى وطنه بالأظافر.

في عمله الملحمي هذا، مضى شموط، مواصلاً أعماله التي عُرف بها منذ أوائل الستينيات حين بدأ العمل في اتجاهين: تسجيل كل ما تحتفظ به الذاكرة من تفاصيل عن أيام اللجوء حين ألقت به إحدى موجات الاقتلاع إلى قطاع غزة، والتعبير عن حلم جميل بالعودة إلى الوطن المستلب ضمن رؤية رومانسية ميّزت مجمل الأعمال الأدبية والفنية الفلسطينية، أو تلك التي تناولت عن فلسطين.

من ذلك المنفى القاسي في قطاع غزة، شق شموط طريقه الفنية عبر أربعة عقود ظل خلالها مخلصاً لرؤيته الرومانسية تلك، وهي مسيرة بلغت ذروتها في أعماله الأخيرة. التي اشتمل عليها عرض مشترك أقامه مع الأكحل قبل رحيله، وصوّرا عبره ملحمة بقاء الشعب الفلسطيني، وقد أفادت لوحات المعرض من فن الجداريات الذي أبدعه فنانو المكسيك العظام ديفيد سيكيروس ودييغو ريفيرا، وبخاصة الأخير الذي سجّل مسيرة الشعب المكسيكي في لوحات هائلة رسمها على الجدران الداخلية للقصر الوطني في مدينة مكسيكو.

في هذا الأثر التشكيلي العظيم، سجّل ريفيرا تاريخ المكسيك منذ القدم، أيام كانت هناك حضارة مزدهرة هي حضارة الأزتيك التي جاء الغزو الأوروبي ليضع حداً لها بقسوة لا مثيل لها. وتابع ريفيرا سجله الملحمي لتاريخ بلاده وحتى القرن العشرين، بكل ما في هذه المسيرة من سعادة وجمال ميّز المكسيك في مرحلة ما قبل الغزو الأوروبي، وحتى الاستقلال والحرية اللتين رأى ريفيرا أنهما لن تُستكملا ما دام هنالك استغلال واستعمار وظلم في العالم.

لكن جداريات شموط ليست مثل جداريات ريفيرا تماماً، فإذا كان شموط أفاد من إنجازات ريفيرا وسكيروس في فنهما الجداري الذي طوراه من تقاليد سكان البلاد الأصليين القديمة، فإنه أفاد أيضاً من فن التطريز الفلسطيني الأصيل، فجاء المزيج خلاّقاً وأصيلاً.

لوحات شموط والأكحل تشبه الجداريات من حيث حجمها، ومن حيث احتشادها بالتكوينات المختلفة، كما أنها تشبهها من حيث طابعها التسجيلي والملحمي، لكنها جداريات فلسطينية الهم والروح والذاكرة، وهذا ما حفظ لها تميزها وفرادتها.

*آخر ما كتبه الزميل صلاح حزين قبل رحيله.

مزج فن الجداريات المكسيكي بالتطريز الفلسطيني
 
01-Dec-2009
 
العدد 6