العدد 6 - ثقافي
 

عشرون عاماً مضت على سقوط «الجدار الشهير»، الذي فصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية، مشيراً إلى معسكرين متناقضين: الاشتراكية والرأسمالية. ما هي أحوال العالم في مرحلة ما بعد الشيوعية، وهل انتهت الماركسية إلى هزيمة أخيرة؟ ثلاثة كتب تجيب عن السؤال بأشكال مختلفة.

التعقيد: عودة نقدية إلى الشيوعية

تأتي أهمية هذا الكتاب من قيمة كاتبه، كلود لوفور، فهو مؤرخ فرنسي مرموق، أصدر دراسة رائدة عن مكيافيللي، وهو يساري قديم تروتسكي الميول، ورفيق مثقفين فرنسيين شهيرين قاسموه أفكاراً كثيرة مثل: جان بول سارتر، ميرلو بونتي وهنري لوفنر.

يصرّح عنوان الكتاب التعقيد بأطروحته الأولى التي ترفض «دراسات ساذجة» فسّرت سقوط الاشتراكية بأوهام الماركسية، التي «تعاند الطبيعة الإنسانية»، مستعيضاً عن تفسير أحادي البعد بجملة من الأٍسباب المعقّدة، تتضمن الإرادوية، فقد تجاهل لينين زعيم الثورة الروسية طبيعة مجتمعه «ما قبل الصناعية»، وعدَّه ملائماً ملاءمة كاملة لثورة اشتراكية تحرق «المراحل»، كما يقول الكتاب، ثم أتى ستالين، الذي لا يتمتع بمواهب لينين المتعددة، ببيروقراطية باترة، تعالج أخطاء «الرفاق» بأحكام الإعدام، وتختصر ثراء الماركسية إلى جمل «لاهوتية» فقيرة. وإذا كانت إرادوية زعيم الثورة البلشفية قد تجلّت بفرض ثورة اشتراكية على مجتمع زراعي، فقد أخذ ستالين بإرادوية أكثر عسفاً تعتقد أن «الكادر الشيوعي»، المتحصّن بـ«نظرية علمية»، قادر على إنجاز كل ما يريد. انتقل ستالين من «حيّز المغامرة» إلى «لاهوت الخلق الإنساني». وعن هذه «النزعة الإنسانية»، التي تحتفي بقدرات الإنسان وتقمعه، صدر «الإرهاب الكبير»، الذي استأنف «إرهاب الثورة الفرنسية».

تدور الأطروحة الثانية، حول «الفرضيات الفكرية»، التي ساوت بين الماركسية والوهم، ويدافع الكتاب عن فكرة الاشتراكية وعن الملايين التي قاتلت من أجل «حلم إنساني نبيل». «المشروع الاشتراكي»، كما يرى المؤرخ، لا علاقة له بالنظرية، بل بالممارسات الاستبدادية، التي أخذ بها النظام الستاليني في روسيا، وأعطاها طابعاً كونياً ألزم به الحركة الشيوعية كلها. عاد المؤرخ إلى التاريخ القيصري، الذي سبق الثورة، مبيّناً أن الستالينية لا تشكل تجسيداً للماركسية، بل تمثّل «قيصريّة متجددة» عثرت في الماركسية على أيديولوجيا تبرّرها، تقول بـ«انحلال الطبقات، وبمشروعية حزب الطبقة العاملة، وبقدرة قيادته على توليد مجتمع جديد يؤمّن للإنسان حاجاته التي حلم بها، وتلك التي لم يحلم بها أيضاً». وعن هذه الأيديولوجيا السلطوية، التي تختصر المجتمع إلى حزبه القائد، وتختصر الأخير إلى شخصية «القائد العام»، صدرت عقيدة «عبادة الشخصية»، التي هي استمرار لأكثر تقاليد العصور الوسطى استبداداً.

رأى كلود لوفور في الثورة البلشفية «مغامرة حداثية»، لا تنفصل عن أفكار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في شكلها الأوروبي، وقد طُبقت في شرط روسي لم يعرف التحولات الاجتماعية العميقة التي جاءت بها الثورة البورجوازية في الغرب. ولهذا فإنها لا تفسَّر بـ«استبداد» كتاب رأس المال، الذي وضعه كارل ماركس ، مثلما يدّعي أعداء الفكر الاشتراكي ، بل بقصور الوعي التاريخي، الذي لم يعرف أن الماركسية هي الفكر البورجوازي الأوروبي، في أكثر أشكاله ثورية واكتمالاً.

كلود لوفور: التعقيد، دار كنعان، دمشق، 2007.

ما حصلت عليه روسيا بعد الانهيار

وصل الكثير من المحللين السياسيين، في ميولهم المختلفة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط تجربته «الشيوعية»، إلى نتائج تبشيرية تؤكد: رحيل البيروقراطية الحزبية الحاكمة ذات الامتيازات الهائلة، انتهاء دكتاتورية الحزب الواحد، بزوغ عصر ديمقراطي جديد، الانفتاح على «النظام الليبرالي العالمي»، وعودة روسيا إلى «التقاليد الروحية العظيمة»، ذات المثُل الأخلاقية العالية. ولكن هل يقول الحاضر الروسي اليوم بذلك؟

في تموز/يوليو 2009، ظهرت في روسيا، رواية عنوانها قريب من الصفر، لكاتب غير معروف اسمه: ناتان دوبوفنسكي، سرعان ما أصبحت العمل الأدبي الأكثر شهرة وقراءة وحضوراً في الإعلام. أما سبب الشهرة فيعود إلى أمرين: إن اسم المؤلف زائف، فالمؤلف الحقيقي هو: فلادسلاف سوركوف، مسؤول العمل الأيديولوجي في الكرملين، الذي عليه أن يزوّد الشباب، كما المجتمع بعامة، بأفكار سديدة صائبة، تتيح للمجتمع الروسي أن يسير قدماً إلى الأمام. ويأتي السبب الثاني من مضمون الرواية، الذي هو تنديد بالخراب الروحي والمعنوي الذي يحايث النخبة الروسية، التي ترتكب الجرائم جميعها من دون رادع أو رقيب.

انهيار القيم لا يشمل النخبة المسيطرة وحدها، فالصحفي المعارض سهل الشراء، والكتّاب يقايضون الحقيقة بالمصلحة، والبشر لاهثون وراء حاجاتهم، والمثقفون «مجرْثَمون» بالأفكار النازية وبتناول المخدرات وبالجري وراء القضايا الصغيرة.

أعطى المسؤول الأيديولوجي لأفكاره شكل رواية بوليسية سوداء، مؤكداً «الفضاء الإجرامي» موقعاً يلائم نخبة فاسدة قادرة، قانونها الإجرام الطليق: «لو أرادت نخبتنا لاستطاعت إلغاء السياسة الداخلية، وإلغاء الانتخابات والبرلمان والأحزاب». يكشف الروائي عن هذه «السلطة المطلقة» في مصائر الشخصيات المتعددة، التي «تعيد السلطة خلقها» كما تشاء. مع ذلك فإن القيمة الفنية لرواية قريب من الصفر، موضوع للخلاف، فثمة نقاد يرون فيها عملاً فقيراً، في حين ترى فيها صحيفة الأزفستيا، التي تعادل «البرافدا» في زمن النظام السوفييتي، عملاً أدبياً عالي المستوى، يقتفي آثار شكسبير ونوبوكوف وغيرهما.

عن صحيفة «لوموند» الفرنسية، الجمعة، 18 أيلول/سبتمبر 2009.

والماركسية أيضاً، أين وصلت؟

في صيف 1989، عام سقوط جدار برلين، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي لاحقاً، أجمع «مفكرون» على سقوط الماركسية، وتشييع ماركس وأفكاره الاشتراكية إلى المثوى الأخير. بعد عشرين عاماً من هذا «اليقين» تبدو الأمور على غير ما بدت عليه حينئذ، فما زال فكر ماركس موضوعاً لدراسات جديدة ، بل إن اذاعة bbc رأت في ماركس مؤخراً: «أعظم فيلسوف للتاريخ» ، واستشهد «البابا» به، وما زال الملايين من الناخبين يصوّتون لأحزاب تنتسب إلى أفكاره.

غير أن الأمر الأكثر دلالة، على مستوى تجديد فكر ماركس، تجلّى في دراسات نظرية، تغاير الاجتهادات الماركسية السابقة، حتى في أكثر أشكالها شهرة وعمقاً ولمعاناً (جورج لوكاتش، مدرسة فرانكفورت، الإيطالي لوشيو كوليتي..)، الأمر الذي وضع «الماركسيين التقليديين»، في وضع دفاعي، أو أجبرهم على سجال لم يكونوا مستعدين له. جاء هذا التجديد من مجلة نظرية ألمانية عنوانها Krisis انشغلت ، منذ عقدين، بموضوع «نقد القيمة في المجتمع الرأسمالي» ومجلة أخرى: EXIT أبرز كتّابها الفيلسوف روبرت كيرتس، صاحب كتابَي نقد الديمقراطية المندفعة وبيان إلى الغرقى، وقد كرست المجلة الإنجليزية المادية التاريخية عدداً خاصاً لمناقشة أفكاره.

أمّا الكتاب «الماركسي التجديدي» الأكثر شهرة الذي تُرجم إلى لغات عديدة، وأثار حواراً واسعاً في الأوساط ذات الاختصاص، فهو كتاب الأميركي موشيه بوستون، وعنوانه: الزمن ، العمل والسيطرة الاجتماعية - إعادة تأويل للنظرية النقدية عند ماركس. صدر الكتاب في الولايات المتحدة العام 1993، ولم يظفر بقيمته الفعلية إلا بعد ترجمته ودخول ماركسيين من جنسيات مختلفة في حوار معه. مؤلف الكتاب أستاذ في جامعة شيكاغو، درس الفلسفة في ألمانيا لدى ورثة الفيلسوف الشهير أدورنو، وصرف عشرين عاماً في البحث والقراءة والتأمل قبل أن يضع كتابه الذي منحه شهرة واسعة.

يتفق كيرتس وبوستون في فكرة أساسية تقول: على خلاف ما قال به الماركسيون التقليديون، الذين اعتقدوا أن ماركس اهتم أساساً بدراسة «استغلال رأس المال للعمل»، كي يربطوا بين التحرر السياسي والعلم الماركسي، فإن جهد ماركس الأساسي انصبّ على نقد العمل في النظام الرأسمالي، أو انصب بشكل أدق على الموقع المركزي الذي يحتله العمل في المجتمع الرأسمالي ويتحكّم انطلاقاً منه، بجملة العلاقات الاجتماعية.

يرى بوستون أن ماركس مَحْوَر عمله النظري حول السلعة والنقود والسوق وصنمية السلعة والتشيؤ... هذا من ناحية، وأن ماركس نقد العمل في المجتمع الرأسمالي وحده، على خلاف الماركسين التقليديين، الذين رأوا في العمل مقولة كونية وعابرة للتاريخ. وسواء أكان ما جاء به كيرتس وبوستون جديداً أم غير جديد، فالأساس فيه هو الحضور المستمر لماركس، والعمل المستمر لنقد فكره وتطويره، بعيداً عن شعار استمر لسنوات عنوانه: وأخيراً مات ماركس.

MOISHE POSTONE: TEMPS, TRAVAIL, ET DOMINATION SOCIALE, PARIS, 2009.

مآلات الماركسية بعد سقوط جدار برلين
 
01-Dec-2009
 
العدد 6