العدد 6 - ثقافي | ||||||||||||||
يحتفي العرب والمسلمون العام الجاري بالقدس رمزاً دينياً كونياً، وامتداداً للحضارة العربية-الإسلامية، كما يحتفلون بها عاصمة للثقافة العربية 2009. ثلاث روايات تصف القدس بأشكال مختلفة.
سوناتا لأشباح القدس بعد أن أنجز الروائي الجزائري واسيني الأعرج، عمله الكبير الأمير الذي سرد فيه بمنظور جديد، سيرة عبد القادر الجزائري، أنجز العام الجاري عملاً موازياً عن مدينة القدس. بنى الروائي المدينة من مواد مختلفة: التاريخ الذي يذهب إلى العام 1948 ويتجاوزه، ولغة الرسم المحتشدة بالنور والظلال، ولغة الموسيقا التي ترسم الحنين وخفقان الروح، والنثر الذي ينطق أطياف القدس وتنطق به، والحكاية الأصلية التي تسرد أقدار فلسطيني ينتسب إلى القدس ويموت في الغربة. بنى الروائي عمله على «روح مقدسية الأصل»، قادها المنفى الفلسطيني إلى نيويورك واستقرت فيها، وعملت في مجال الرسم واشتهرت، إلى أن وافاها السرطان. وقع الروائي على منظور رومانسي، جمع بين الحنين والموت والفن، إذ في ساحة اللوحة الفنية ما يستدعي ملامح القدس ويحفظها من الضياع، وما يوقظ ذكريات عن «قدس عربية» سكنها الفلسطينيون قبل الرحيل القسري الطويل. ومع أن في الحنين ما يطلق أسى واسعاً، فإن الموت في المنفى يعطي الأسى أبعاداً تراجيدية شاسعة. أنتج واسيني، روائياً، مأساة القدس والفلسطينيين محاذراً الوقوع في «الميلودراما»، أو في «أدب الدموع»، الذي يلائم غريباً مات في المنفى، ويلبي أقداراً فلسطينية تعرف من أي جاءت ولا تعرف أين تموت. أقام الروائي عمله على معرفة واسعة بموضوعه وبالأدوات الفنية التي صاغه بها. فهو عارف ودقيق المعرفة بالقدس وتاريخها وأحيائها، وبكل ما يجعلها جديرة بـ«مدينة الله»، التي اختلف إليها الأنبياء والصالحون، وهو ملمّ دقيق الإلمام بمعنى الرسم ودلالات اللون وبالموسيقا وطبقات الصوت، دون أن يفرد مساحة للروائح المختلفة ودلالتها. ومع أنه حاذر ألاّ يقع في الخطاب الأيديولوجي البسيط، فقد أدرج في عمله برهافة كبيرة، معنى الوطن والمنفى ولا إنسانية المشروع الصهيوني، الذي يعارض، شكلانياً، النازية، ويتساوى، عملياً بها، كما جاء على لسان شخصيات الرواية. مع ذلك فالواضح في عمله الفني المركب قائم في «قدر الإنسان الفلسطيني»، الذي يحيل على شخصيات مأساوية المصير. اشتق الأعرج من شخصياته الجميلة معنى القدس وعطف أقدارها، متوسلاً الفن، على أندلس بعيدة. ولهذ يأتي موت الإنسانية الفلسطينية، في منفاها البعيد في نيويورك، تعبيراً عن «قدس عربية محتضرة» تقرضها الإجراءات الإسرائيلية يوماً بعد يوم، كما لو كان مصدر القدس قد التبس بمصير أبنائها الفلسطينيين. كتب الروائي عن القدس: «القدس خبز الله وماؤه»، ويبدو أن قدسية المدينة لا تمنع عنها الذهاب إلى مستقبل شحيح الضوء. واسيني الأعرج: سوناتا لأشباح القدس، دار الآداب، بيروت، 2009، 566 صفحة مدينة الله كتب الروائي الفلسطيني حسن حميد بدوره رواية عن المدينة المقدسة، كما خلقها الله وأرادتها «الروح الفلسطينية». اشتق عمله من منظور «أدب المضطهدين»، الذي يجعل من «المفقود» آية في الجمال، ويثق أنه راجع إلى أهله بعد حين. ولعل هذا المنظور هو الذي جعل من «الجمال الكامل» قواماً للمدينة ولأهلها: فهي جميلة بنباتاتها وبأهلها وبهوائها وبإرثها التاريخي وبحواريها القديمة وبالمخيمات المحيطة بها، وجميلة بهؤلاء «الغرباء»، الذين يفدون إلى المدينة، من أجل الزيارة ويقعون في سحرها الأخّاذ. اتكأ الروائي في عمله على معرفة بالقدس وتاريخها: أبوابها، أسوارها، معابدها، أسواقها، أزياء أهلها، نباتاتها، وأسوارها الغامضة التي تلتبس بالضوء واللون والهواء وذلك العبق، الوافد من التاريخ والأرواح المقدسة في آن. أراد الروائي أن يعطي وثيقة تاريخية - تربوية، فرسم مدينة جميلة منتهكة، وفلسطينيين يحاصرهم الموت البطيء ويمارسون بطولة البقاء. دفع المنظور التربوي، الإيماني الروائي، إلى ثنائيات باترة: وجهها الأول الفلسطيني - المقدسي المتوّج بالطيبة والكرم والشجاعة والسخاء والجمال والنبل؛ ووجهها الآخر الصادر عن المحتل الصهيوني - أو «البغّالة» بلغة المؤلف، المصنوع من القبح والشر والإجرام والعدوان. وضع حسن حميد في مواجهة مدينة الله مدينة أخرى هي «مدينة الشيطان». ولعل هذه الثنائية، المدفوعة إلى آخرها، هي التي وضعت في الرواية خطاباً أيديولوجياً مباشراً يكشف عن الصهيونية في ممارستها العملية، أو في تلك الصيغة الظالمة عن «الجلاد والضحية»، حيث الأول يريد موت الثانية لا أقل، وحيث الضحية تقاتل وتصبر وتقاوم، مستنجدة بالإرادة وأطياف «الحق» التي لا تخيب أحداً. ربط حميد، بشكل إيقاعي، بين دلالة المكان وجمالية العاطفة الإنسانية، إذ بين كل مكان ومكان صورة لإنسان جميل، وبين كل مسافة وغيرها قصة حب قادمة أو آفلة. وحاول تخفيف الخطاب الأيديولوجي متوسلاً عنصرين: تقنية الرسائل، التي يتبادلها «روسي عادل» مع أستاذه في تبرسبوغ، ووصف القدس على لسان الشخصية الرئيسية: «الروسية...». حسن حميد: مدينة الله، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2009، 452 صحفة. مصابيح أورشليم كما في أعماله الروائية الأخرى، ارتكن العراقي علي بدر في روايته هذه، إلى تقنية البحث في سيرة إنسان «مضى» وبنائها روائياً. آثر، هذه المرة، أن يرافق إدوارد سعيد، حين زار القدس، بعد اتفاق أوسلو، و«تفرج» على بيت أهله القديم، وسار في شوارع مدينة «عابسة»، تختلف كلياً عن مدينة نيويورك المفعمة بالألوان. كتب الروائي، في مستهل عمله، عن صورة القدس، التي يمليها وعي إنسان فلسطيني عاش في العراق وامتلأ بفكرة المنفى، مفترضاً أن وطنه الحقيقي قائم في القدس، وأن في الكتابة عنها ما يحمله إليها أو يحملها إليه. ولعل وعي الانتماء إلى مدينة لا تشبه غيرها، وقد تناءت وابتعدت، هو الذي يجعل الوعي الفلسطيني يراها كما يجب أن يراها فهي: «الحلم.. والكل يبحث عنها... هي اليوتوبيا التي لم تتحقق ولن تتحقق أبداً ما دام أن خيالها أكبر من واقعها». غير أن قصد الروائي لا يتعين بالفصل بين مدينة الأحلام ومدينة الواقع، إنما ينطلق من منظور إدوارد سعيد، الذي وُلد في «المدينة العظيمة»، وسعى إلى تقويض الرواية الإسرائيلية عن القدس برواية فلسطينية، أو برواية حقيقية، تهتك الزيف الأيديولوجي الصهيوني. فقد قدّم الأدباء الإسرائيليون أكثر من رواية عن القدس، حال عاموس عوز وديفيد غروسمان وديفيد شاحور وإبراهيم بين شيرا وزويا شيليف.. بيد أن هذه الروايات، كما القصائد التي تناظرها، كولونيالية الرؤية والتصوّر، قرأت المدينة كما أرادتها الرغبات الصهيونية، ولم تقرأها في تاريخها وحقائقها الفعلية. ولهذا فإن الأخذ بمنهج إدوارد سعيد، القائم على التفكيك وإزاحة القول المسيطر عن مكانه، يسمح ببناء رواية أخرى، لا تفرضها القوة في الكتابة وخارجها، بل تأتي من روايات اللاجئين والمطرودين والمنفيين والمغيبَّين والمهمَّشين. أقام علي بدر عمله على «رواية الحق» التي تطرد غيرها، وعلى جدل المركز والهامش، الذي تبدّل الحركة الروائية علاقاته. ولهذا يبدو إدوارد سعيد، للوهلة الأولى، زائراً هامشياً في مدينته القديمة، ويصبح مركزياً ومركز القول حين يبدأ بالحديث مع آخرين عن مدينة وُلد فيها وعَرف تفاصيلها وأدرك في أحوالها الفرق بين السطح المصنوع والجوهر الحقيقي. إذا كانت القوة قد جاءت بـ«أورشليم»، فإن التاريخ العربي هو الذي أنتج مدينة القدس. حين يقول بطل الأديب الإسرائيلي يهودا عميخاي: «كل الأجيال التي سبقتني منحتني شيئاً كي أقيم في أورشليم»، يرد عليه إدوارد سعيد: «أسأل إن كان السيد عميخاي يعرف آل الدجاني من قبل؟ أو يعرف آل وديع.. إن كان السيد يذهب إلى حارة الأرمن، أو يذهب إلى كنيسة مار يعقوب.. «. يقول الأول ما أراده انتصاره أن يقول، ويقول الثاني ما عاشه وورثه من عائلته وأجداده. قدم علي بدر صورة إدوارد سعيد في القدس، وصورة القدس في إهاب إدوارد سعيد. علي بدر: مصابيح أورشليم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2009، 336 صحفة |
|
|||||||||||||