العدد 3 - الملف | ||||||||||||||
مزاج أبو محمد الحادّ، الذي كشف عنه ردّه، ربما كان سببُه تأثره بما حدث لسوق البخارية، إذ ترك طاولته التي يكتب عليها «الاستدعاءات» والمعاملات حيث يعمل أمام دائرة الجوازات في جبل عمّان، ونزل إلى وسط البلد يتفرج على حال السوق بعد الحريق بأيام، وهناك التقته «ے». لكن أبو محمد نفى أن تكون هناك علاقة بين الحريق وردّه، وقال: «لو سألتوني السؤال نفسه بعد العيد، كنت رح أعيد الجواب نفسه». «الأردن طول عمره هيك»، يقول محمد العوران، الطبيب والحزبي ووزير التنمية السياسية في حكومة معروف البخيت، ويضيف لـ«ے»: «عندما استلمت الوزارة حاولت أن أبقى كما أنا بروح مرنة، لكن لم أستطع»، ويبرر ذلك بالقول: «70 في المئة من الأردنيين متحفظون، ويحسبون حساباً لكل شيء». الكاتب والأكاديمي سليمان البدور يرى أن «السياسة والتحلّي بخفة الظل لا يلتقيان في الأردن، وسط منطقة تغرق في مشكلات وهموم تقضي على روح الدعابة لدى الناس، وبخاصة السياسيون». يتابع البدور: «السياسي إنسان عادي، له حياة خاصة وجلسات حميمة تشيع فيها روح الدعابة أحياناً، إلا أنه يعكس صورة المجتمع، ولا يمكن اجتزاؤه وعزله عن مجتمعه، ذلك الذي يرزح أبناؤه تحت جبال من الهموم». ويضيف البدور لـ«ے»، أنه لا يمكن إغفال نظرة المجتمع إلى الدعابة وخفة الظل، «فقد تعوّدنا منذ صغرنا على التجهُّم والتجرُّد من المرح بوصفهما سِمَتَين ضروريتَين للشخص الذي يرغب الإمساك بزمام الأمور، وتكوّنَ في المجتمع ما يُشبه الإجماع أو الاتفاق الضمني على أن التجهُّم شرّ لا بد منه». يرى محامٍ ثلاثيني فضّل عدم نشر اسمه، أن التجهُّم ناتج عمّا وصفه «التربية العسكرية الأمنية المحافظة»، ويوضح: «معظم الأردنيين، إما عسكريون، أو عسكريون سابقون، أو أن واحداً من أقاربهم أو أكثر كذلك، فتربّينا على الضبط والربط، فكيف يمكن تقبُّل مشاهدة شخصية سياسية وهي تنكّت على شاشة التلفزيون مثلاً؟!». ويلفت المحامي إلى أن الروح المرحة «مرتبطة بمستوى الحريات، لأنها في الغالب تعبّر عن انتقاد لاذع». مدير تحرير جوردن تايمز محمد العابد، يقول لـ«ے» إن الموضوع متصل بـ«ثقافة مجتمع تربّى على مفهوم اجتماعي مفاده أن الضحك قلّة هيبة، وأن مَن يضحك سيستغلّه الناس في محيطه وسيركبون على كتفه وفقاً للتعبير الدارج». ويذكّر العابد بالمفهوم الديني الذي يرى أن «الضحك يميت القلب»، مؤكداً أن استمرار هذا النمط «يولّد ثغرة، ويعيق التواصل بين المواطن والمسؤول». أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية مجد الدين خمش، يفسّر تجنّبَ السياسيين الظهورَ أمام العامّة في مناخ من النكتة والمرح، بقوله: «هذا ناتج عن الانطباع المسبق الذي لا يتقبل الأسلوب المرح، ويشكك في قدرة الشخص المرح على الإنجاز، ويرى أن التجهُّم يعطي الشخص أهميةً أكبر». هذا الأمر يدفع المرء إلى اتخاذ مظهر الجدّية خشية تعرُّضه للانتقاد، حتى لو كان مرحاً بطبعه، وفقاً لخمش الذي يضيف: «كثير من السياسيين يعودون إلى طبيعتهم، ولكن في دوائرهم الخاصة والضيقة جداً». ويستدرك بقوله إن هذا المنحى بدأ يتغير بعض الشيء في القطاع الخاص وبعض الوظائف العليا بتأثير المدراء، أما السياسيون «فلديهم القدرة هم أيضاً على التغيير في هذا المجال، ولذا يفضَّل أن تكون البداية من خطابهم العام ومبادرتهم إلى كسر الجليد». رئيس تحرير صحيفة الحدث الأسبوعية، ناصر قمش، يؤكد أن النكتة دائماً تحتاج إلى ذكاء وبراعة ومهارات عالية وتقنيات رفيعة حتى يتم إنتاجها لتخدم الغرض المطلوب، وهذا «ما يفتقده معظم المسؤولين في الأردن». البحث عن سياسيين في البلاد يتحلّون بروح النكتة ويستخدموها في خطابهم العام، يبدو أمراً صعباً بعض الشيء، رغم أن ثمةَ ما يكاد يكون إجماعاً على أن هناك سياسيين على رأس عملهم، أو غادروا العمل العام، أصحابُ نكتة ويمتلكون روح دعابة عالية، لكنّ ذلك يَظهر فقط في جلساتهم الخاصة أو التي تجمعهم مع أصدقاء مقرّبين. الشاعر حيدر محمود، الذي عمل وزيراً وسفيراً في السابق، يقول مقرّبون منه إنه يتمتع بروح مرحة بعيداً عن الأضواء. عبد المنعم أبو زنط، الشيخ والمعلّم والحزبي والنائب، يتمتع بروح النكتة ويبرع في إلقائها، بحسب أشخاص عرفوه من قرب أو تعاملوا معه. صلاح أبو زيد مؤسس الإعلام الرسمي في البلاد الذي عمل وزيراً وسفيراً في السابق، عرفَ عنه الموظفون الذين عملوا معه، أنه كان ساخراً وقادراً على التصرف بالنكتة بـ«سرعة بديهة مذهلة». النائب خليل عطية الذي يشتهر دائماً بعبارته المحببة: «أنا ابن المخيم البارّ»، لا يجمعه حديث مع أي شخص إلا وتتعالى ضحكات مجلجلة حولهما. النائب السابق نضال العبادي، يرى مقرّبون منه أن روح النكتة العالية التي يتمتع بها أبعدته بتواطؤ ضمني، عن المراكز المتقدمة في جبهة العمل الإسلامي التي كان عضواً في كتلتها البرلمانية في مجلس النواب الرابع عشر، ويستذكر نواب وإعلاميون نكاتاً تلقّوها من العبادي على هواتفهم منذ سنوات. ويرى أصدقاء لمصطفى القيسي أن طبيعة الأعمال والمناصب التي تولاّها تطلّبت عدم إظهار روحه المرحة التي يتسم بها. عمل القيسي مديراً للمخابرات العامة 1989، ومستشاراً للملك، ومقرراً لمجلس أمن الدولة 1996 وعُيّن عضواً في مجلس الأعيان 2001 و2003. النائب والمصرفي والوزير، ورئيس الوزراء الأسبق 1996-1997، ثم رئيس الديوان الملكي 2000، عبد الكريم الكباريتي، اشتهر بروح ساخرة تخفيها عصبية وجدية واجتهاد في العمل. وينقل آخرون عن الجرّاح والعسكري، ورئيس الوزراء الأسبق عبد السلام المجالي 1993-1998، ما يتميز به من البداهة والتقاط المواقف بسرعة، والتصرف فيها بما يُعرف في الثقافة المصرية بـ«الأفيهات»، أو «التنقيف» في الأردن، وهو مصطلح ريفي يعبّر عمّن يوظف النكتة ببراعة لإرسال الرسائل. وللصدفة، فإن معظم السياسيين الذين تمتعوا في هذه الصفة، من أصول ريفية في الضفتين. بطولة «التنقيف» في الأردن، إن جاز التعبير، معقودة لـ «السياسي البارز»، أول رئيس وزراء في عهد الملك عبدالله الثاني، عبد الرؤوف الروابدة. ويُجمع الذين التقت «ے» بهم، على أن «أبو عصام» أكثر السياسيين الأردنيين استخداماً للنكتة في خطابه العام، حتى إن نكته «لازم تحكي إشي». قبة البرلمان حفلت بمواقف أظهرت هذا الجانب في شخصية الروابدة، كاد بعضها يقود إلى وضع محرج، كما حدث في إحدى جلسات المجلس النيابي السابق في آب/ أغسطس 2006، عندما نشبت مشادة كلامية تخللها تراشق بالشتائم وأكواب الماء بين النائبين عبد الكريم الدغمي والنائب السابق عبد الحفيظ بريزات على خلفية إحالة قانون غسيل الأموال إلى اللجنة المعنية. المشادة بدأت بعد اقتراح رأى فيه البرلمانيون نكتة، قدمه رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة، ويقضي بإحالة قانون غسيل الأموال إلى لجنة الصحة والبيئة. هذا الاقتراح يبدو أنه فُهم خطأ من جانب بريزات، الذي احتجّ عليه، رغم أنه «مسخرة»، وبعد مشادة وعراك، انتهى الأمر بعد نحو ساعة بالمصالحة. «الروابدة السياسي لا يختلف عن الروابدة الأب»، تقول ابنة الروابدة الكبرى نادية، التي تعمل مساعدة مدير الضمان الاجتماعي للتأمين. وتضيف: «والدي في الحياة العامة كما هو في البيت»، وتؤكد أنه لا يستخدم النكتة إلا لغايةٍ، وبهدف إيصال رسالة «يرغب أن لا يكون جارحاً فيها». وتوضح نادية: «ليس هناك في قاموسه جواب مباشر بـ«لا أو نعم»، إنه يقول ما يريد بطريقة مرحة محببة، ويترك للمتلقي فرصة لأن يفكر ويتساءل ويحلل.. لا يعطي الأجوبة جاهزة، وهذا بالتأكيد يمنحنا خبرة». نادية عُرف عنها في نطاق عملها أن شخصيتها تشبه شخصية والدها، في استخدام النكتة ببراعة. يقول موظف مقرب منها: «أحياناً كأنني أسمع أبو عصام ينقف عندما أسمع نادية». الحديث مع إعلاميين ومنخرطين في العمل الرسمي حضروا جلسات خاصة يلتقي فيها السياسيون، يقود إلى استنتاج مفاده أن البراعة في «التنكيت» والروح المرحة التي تسود هذه الجلسات، يتمتع بها كثير من السياسيين في البلاد، إلا أن المناخ العام السائد يجبر هؤلاء على السباحة مع تيار المجتمع المحافظ في العلن، والاحتفاظ بعفويتهم طيَّ الكتمان في دوائرهم الضيقة. |
|
|||||||||||||