العدد 6 - من حولنا | ||||||||||||||
قال محمود درويش، مرّة، إن كرة القدم «أشرف الحروب». وربما كان الشاعر الراحل يؤشر إلى المتعة الفردية والجمعية التي تُحدثها هذه اللعبة الشعبية، فغفل عما تستنفره مبارياتها أحياناً من عصبيات قومية وحساسيات وطنية. كان طبيعياً وعادياً، بل ومطلوباً ربما، أن تحتشد مصر، مجتمعاً ونخباً وحكومة، وراء منتخبها القومي في كرة القدم في مباراتَيه الأخيرتَين مع الفريق الجزائري، وأن تفعل الجزائر ذلك مع منتخبها، بخاصة وأن الفائز منهما يتأهل إلى منافسات كأس العالم الصيف المقبل، وهو ما تحقق للجزائر. غير أن الأمر جرى في مسار مغاير للمألوف والمعهود، فالأجواء الإعلامية التي واكبت وأعقبت المبارتين اللتين نُظمتا في القاهرة وأم درمان، شديدة الشناعة وبالغة التردّي، بل ومفجعة في أقل توصيف لها، على صعيد إظهار مخزون من الكراهية الواسعة بين شعبَي مصر والجزائر. ذلك كله فيما يرتبط الشعبان بعلاقات طويلة من التقدير المتبادل، وبتاريخ مشترك، نضالي وقومي غير منسيّ في الذاكرة، من محطاته الإسناد العسكري والميداني والمالي للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي في عهد عبد الناصر. وفي أرشيف العلاقات بين البلدين، غضبة الرئيس الراحل هواري بومدين من الاتحاد السوفياتي إبان حرب 1967، وتحميله مسؤولية النكسة، بسبب عدم وقوفه الجدّي مع مصر في تلك الأثناء. وكذلك ذهاب بومدين إلى موسكو قبيل حرب 1973، بعد أن عرف أن إسرائيل تهيئ لعدوان واسع على مصر، وطلبه من السوفيات سلاحاً جوياً متطوراً لمصر، وعندما لم يجد لديهم الرغبة في ذلك، قدم لهم شيكاً على بياض لتمويل ما يحتاجه الجيش المصري من سلاح، وهو ما كان. وأرسلت الجزائر قوة شاركت في الحرب، واستُشهد منها جنود، وما زالت في الجزائر جمعية للمحاربين القدامى الذين شاركوا في حرب تشرين/أكتوبر 1973 . وكان يَحْسُن الإضاءة على تلك المحطات، بدلاً من تعيير صحف جزائرية المصريين بنكسة 1967، ومن حديث في برامج تلفزيونية مصرية عن معاملة فرنسا للجزائريين كالعبيد. الإعلام، بخاصة المرئي في مصر والمكتوب في الجزائر، انحطّ في درك شديد السوء في شحن عدائي، عندما مضى في تأجيج مشاعر وغرائز عنصرية وكارهة وفوقية وبغيضة، تقفز على الروابط البديهية والتاريخية والثقافية والقومية المشتركة، وتتناسى أن للإعلام دوره الجوهري في السمو بالشعوب والمجتمعات إلى القيم الرفيعة، ما دام أن «الحشود كتلة لا عقل لها»، بحسب غوستاف لوبان. ما حدث على إثر مباراة الخرطوم سبقه رمي حافلة الفريق الجزائري بالحجارة أثناء سيرها من مطار القاهرة إلى أحد الفنادق، في محاولة استهداف اللاعبين فيها، قبيل المباراة الأولى في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2009. وأعقب خسارة الجزائر في تلك المباراة التي استنفرت «الوطنية المصرية» أن مقار شركات مصرية في الجزائر استهدفتها اعتداءات غير هيّنة، تسببت بأضرار كبيرة فيها، وبخسارة شركة أوراسكوم تليكوم 5 ملايين دولار، وتردّد أن مصريين يعملون في الجزائر تعرضوا لاعتداءات وتهديدات بالقتل. وإذا تذكّر المرء أن المخرج المصري يوسف شاهين أنجز فيلماً شهيراً في الستينيات عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، بدعم حكومي مصري حينذاك؛ وإذا تذكّر المرء أن النشيد الوطني الجزائري المعتمد منذ 1963 لحّنه الموسيقار المصري محمد فوزي.. فإن أسفاً بالغاً شديد المرارة يكتنف محبي مصر والجزائر، بسبب قرار اتحاد النقابات المصرية الفنية الثلاث، السينمائية والموسيقية والتمثيلية، مقاطعة حضور المهرجانات والمسابقات التي تقام في الجزائر، وعدم المشاركة فيها، وعدم دعوة الجزائريين لحضور أية فعاليات فنية داخل مصر، في حال «لم يصدر عن السلطات الجزائرية بيان اعتذار للشعب المصري». جاء القرار فيما أعلن فنانون مصريون رفض مناسبات تكريم لهم مقررة في الجزائر (يوسف شعبان مثلاً)، واعتزام آخرين إعادة هدايا تكريمية تلقوها في الجزائر (شريف منير مثلاً)، وصرح الممثل محمود عبد العزيز أنه لا يعرف الجزائر إلا من خلال نسائها. يحدث هذا، وغيره كثير، فيما أُعلن في الجزائر عن قائمة سوداء تضم فنانين ومغنّين مصريين من دخول الجزائر مدى الحياة. أما عن المحامين، فيتردد أن مجموعة منهم في مصر تهيئ لدعوى ضد بوتفليقة في لاهاي، وأن نظراء لهم في الجزائر يهيئون لدعوى ضد علاء مبارك نجل الرئيس المصري، بسبب وصفه المشجعين الجزائريين بـ«المرتزقة»، وإذ تبلغ المسألة مثل هذا المدى لدى نخب في الإعلام والفنون والقانون في البلدين العربيين (الشقيقين؟)، فإن تشخيصاً علمياً وتحليلاً عميقاً يصير واجباً وضرورياً، بشأن أحوال العلاقات الشعبية العربية البينية، وما إذا كانت على عافيتها، وفي البال أن كثيرين لم يعودوا يمنّون نفوسهم بمشاعر قومية وحدوية جيّاشة. |
|
|||||||||||||