العدد 6 - اقتصادي | ||||||||||||||
زوبعةُ أسئلة، يثيرها غبار المعارك الجارية في اليمن بين الجيش والحوثيين، مع الامتداد الإقليمي لهذه الحرب التي تستمر جولتها السادسة منذ آب/ أغسطس 2009، بمشاركة قوات سعودية براً وجواً، تستهدف مواقع للجماعة محاذية لأراضي المملكة، بدعوى تسلل مسلحين حوثيين إلى مناطق وقرى وبلدات داخل الحدود. من أبرز الأسئلة في مسار الحرب التي ظلت تتجدد منذ صيف 2004، ما يتعلق بالحوثيين أنفسهم: ما مطالبهم التي تجعلهم على هذه الدرجة من الأهلية العسكرية للاستمرار في محاربة الدولة المركزية؟ وما منطلقاتهم ومرجعياتهم؟ وإلى أي مدى يمكن التسليم بصحة دعاوى صنعاء حول ارتباطاتهم مع إيران، وهل هم فعلاً أدوات لطهران في سعيها إلى توسيع نفوذها الإقليمي، بخاصة أن تعاطف إيران مع الحوثييين الشيعة معلن. ومن الأسئلة كذلك: من أين تتأتى للحوثيين إمكانات تسليحية تيسر لهم تكبيد الجيش اليمني خسائر غير هيّنة، وتجعلهم قادرين على مواجهة التدخل الحربي السعودي؟ وما الصلات المحتملة بين الأزمة الأمنية المتصاعدة في شمال اليمن وعموم التأزمات السياسية القائمة في هذا البلد، على صعيد تنامي النزعات الانفصالية في الجنوب وتمثلاتها في تكتلات ناشطة ميدانياً؟ وربما يكون مسوّغا التساؤل إذا كان لغبار المعارك في محافظة صعدة في شمال اليمن مع الحوثيين، أي صلة بالتهيئة لتوريث السلطة لنجل الرئيس علي عبد الله صالح؟ في سياق الاجتهاد بالإجابة، تبدو المخاطر جدّية على تماسك اليمن، دولة مستقرة موحدة قادرة، والحديث عن احتمالات انهيار الدولة هناك له مسوغاته. من بواعث المخاوف صدور التمرد الحوثي عن أبعاد مذهبية الطابع، ما يجعل التشويش كبيراً بشأن الوقوف على مطالب الحوثيين من الحكم في صنعاء، إلى حد لا يجعل المتابع لمسار التأزم مع هؤلاء قادراً تماماً على تبيُّن هذه المطالب، ومعاينة السياسي والخدماتي والتنموي فيها. وفي البال أن الحركة الحوثية أعلنت عن نفسها تشكيلاً فكرياً في 1990، اقتصر اهتمامه أولاً على تأهيل الشباب بدراسة علوم الشريعة، مع نشاطات مرافقة، وفق رؤية مذهبية زيدية غالبة، قبل أن يتحول إلى تنظيم عسكري مسلح اسمه «الشباب المؤمن»، وقد بدأ يتكون في بعض مناطق محافظة صعدة في شمال صنعاء، بُعيد إعلان الوحدة اليمنية. بمرور الزمن، أصبحت مراكز الحوثيين وجهة طلبة كثيرين قدموا إليها من محافظات معروفة بانتمائها إلى المذهب الزيدي الهادوي، وبلغ عدد الطلبة في المراكز نحو 15 ألفا في صعدة، و18 ألفاً بحسب بيان للاثني عشريين اليمنيين. وفي مرحلة تالية، ظهر التنظيم المسلح الذي يُعرف إعلامياً بـ«جماعة الحوثي»، بدءاً من 2004، وتحول إلى ميليشيات عسكرية ذات بعد أيديولوجي، خاضت منذ حزيران/يونيو 2004 ستة حروب متقطعة، تخللتها وساطات ومفاوضات، قامت قطر بالجهد الأبرز فيها. تستمر الجولة الجديدة بضراوة شديدة الحدة، وبأكلاف إنسانية باهظة على المدنيين في مناطق شمال اليمن، حيث أكثر من 50 ألف يمني نازحون في مخيمات تشرف عليها منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، وسقط في الأثناء عشرات آلاف المدنيين والعسكريين والحوثيين، ودخلت السعودية على خطوط القتال. وما ظل ملاحَظاً أن الجيش اليمني أعلن غير مرة قضاءه على جماعة الحوثيين، ولم يتأكد ذلك أبدا،ً بالنظر إلى ما يسميه الباحث أحمد محمد الدغشي: «التجذر الأيديولوجي» للجماعة، وتداخل الأيديولوجي المذهبي بالسياسي، والاجتماعي بالاقتصادي والتنموي. يمثل الحوثيون التيار السياسي داخل الطائفة الزيدية التي هي فرع من الشيعة، وهي الطائفة التي ينتسب إليها ثلث عدد سكان اليمن (23 مليون نسمة)، وهم مختلفون مذهبياً عن أصحاب العقيدة الاثني عشرية السائدة في إيران، من باب اعتدالهم لجهة الشريعة والعقيدة، ويشتركون في جزء واسع من اجتهادهم مع السنّة أصحاب المذهب الشافعي. وأخذ الحوثيون تسميتهم من زعيمهم الأول حسين الحوثي، النائب السابق في البرلمان عن حزب الحق، وقد قُتل في معارك صيف 2004، وخلفه شقيقه عبد الملك الحوثي. وهم ينفون اتهام الحكومة لهم بأنهم متمردون يسعون إلى إعادة الإمامة الزيدية السابقة التي سيطرت على اليمن حتى الثورة الجمهورية في العام 1962، بل ويعلنون ولاءهم للجمهورية، مؤكدين في الوقت نفسه حقهم في المحافظة على الهوية الدينية الزيدية الهادوية، بدعوى أنها مهددة من الوهابية أو من السلفية السنية المتشددة. المعلوم أن منطقة صعدة التي شهدت الولادة التاريخية للزيديين، بقيت آخر معاقل الملَكيين في الحرب الأهلية في الستينيات، ولهذا ربما، بقيت طويلاً على هامش سياسات التنمية في البلاد. وكانت الحكومة اليمنية أعلنت عن برنامج إعمار في المنطقة، أُطلق العمل به بعد وقف النار في تموز/يوليو 2008، إثر نجاح محدود لوساطة قطرية، غير أن المعارك تجددت، فسحبت الدوحة وعودها بمساهمة مالية في إعادة الإعمار وتنمية منطقة صعدة. وتردَّدَ اتهام للرياض بأنها هي التي خربت وساطة قطر، للحد من دور الأخيرة في دائرة نفوذ السعودية التقليدية في اليمن، وتردد أيضاً أن أطرافاً سعودية أقدمت على تمويل ميليشيات قبلية تشارك في الحرب ضد الحوثيين. اللافت أن إحياء «يوم الغدير» في الثامن عشر من ذي الحجة من كل عام، وهو احتفال أساسي لدى الشيعة، يشكل قضية مطلبية لا تهاوُنَ فيها لدى الحوثيين، ويتشددون فيها في بنود أي اتفاق يتم إبرامه، تماماً كما مطالبة الدولة بالحفاظ على تراث الزيديين وأرضهم، وبمساواتهم مع سائر اليمنيين. وقد انتصر حسين الحوثي على مخالفيه في جماعته العام 2000 لجهة فكرة تقديس الموروث، والكف عن التحديث في التيار الحوثي بين الزيديين، وتمسَّكَ بالشعار الذي روجه وشاع لديهم، «الله أكبر، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام»، وهو نفسه الذي رفعه الخميني في وجه شاه إيران، وكان له دوْيُه الكبير، فظل مصاحباً لعمر الثورة الإيرانية، وانتقل إلى لبنان، وصار جزءاً من المراسيل الحوثية الأساسية، ويتخلل المحاضرات والدروس، ويعقب صلاة الجمعة. الخلفيات الموجزة لمسار تشكُّل الحركة الحوثية في اليمن، تيسّر التسليم بأن البعد المذهبي والثقافي في المواجهات الحربية أساسي وجوهري، غير أن المتابع لا يعدم تداخلاتٍ وخيوطاً أخرى في المسألة، يتصل بعضها بالتسلح غير الهيّن الذي يحوز عليه الحوثيون، وفي البال أن أكثر من 60 مليون قطعة سلاح في أيدي اليمنيين بعامة، كما أن تجارة السلاح غير محظورة قانوناً، وقد يتاح لأي يمني أن يشتري كلاشينكوفاً من عربات بيع البطيخ والقات. كما أن معارك صعدة ترتبط في السنوات الأخيرة ببروز مصالح اقتصادية، تُضاف إلى ما يتردد بشأن نزاعات على السلطة، على ما يوضح الباحث بيار برنين في لوموند ديبلوماتيك، تشرين الأول/أكتوبر 2009. ويرى برنين أن أحد أبرز التحديات في هذا الوضع السيطرة على تجارة التهريب نحو السعودية، وعلى الواجهة المطلة على البحر الأحمر، التي تسهّل تجارة وقود الديزل والسلاح مع القرن الإفريقي. هكذا، يهرِّب ضباطٌ أسلحةً موجهة إلى الجيش، بحيث يتم إعادة تصدير قسم منها، ويحدث أن تُباع إلى المتمردين الحوثيين من خلال وسطاء نشطين. إلى ذلك، يشير برنين إلى صراعات داخل النظام، بخاصة بين قائد القوات الخاصة والحرس الجمهوري أحمد علي صالح نجل الرئيس وقادة آخرين في الجيش، ويرى أن منطقة صعدة تحولت في هذا الإطار إلى مسرح حرب بالواسطة، حيث تسعى فصائل متناحرة إلى السيطرة على الموارد الاقتصادية من جهة، وعلى تقديم البرهان على فعاليتها على الأرض من جهة أخرى. من ذلك، أنه في أيار/مايو 2008، وبينما كانت المعارك تتسع لتصل إلى بعد 25 كم شمال صنعاء، جرت المقارنة بين تدخُّل القوات الخاصة للمرة الأولى في المواجهات والنجاح الظاهر الذي أحرزته، وفشل ألوية الجيش في محافظة صعدة، ما يدلل على وجاهة قول بعضهم إن ثمة صلة بين الحرب وسعي خفي لدى الرئيس علي عبد الله صالح إلى توريث السلطة في بلاده إلى نجله الأكبر. غبار المعارك التي يبدو أنْ لا أفقَ قريباً لتوقفها بين الجيش، تدعمه قبائل حليفة، وجماعة الحوثيين وميليشياتها، يتوزع، إلى امتدادات إقليمية، جاء ظاهراً منها مشاركة السعودية في الحرب، ولم تخفِ إيران انشغالها بالساحة نفسها، عندما أعلن وزير خارجيتها منوشهر متقي مطلب بلاده بعدم تدخُّل الرياض في شؤون اليمن. وينتشر الغبار نفسه في الفضاء اليمني الداخلي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وسكانياً، من حيث مساندة أهل الحراك الجنوبي المطالبين بانفصال الجنوب، للحوثيين، واتساع مخاوف غير طرف، أميركا مثلاً، من أن تعزز «القاعدة» وجودها في اليمن في هذه الأجواء. ولا شك أن الأوضاع في هذا البلد العربي باتت محرِجة ومقلِقة، مع غياب دور حاسم للسلطة وحزب المؤتمر الحاكم، باتجاه التقاط المشتركات العامة بين مكونات اليمن، وباتجاه استنهاض خطط تنموية متوازنة. وقبل ذلك وبعده، باتجاه تهدئة مشاعر وهواجس طوائف وأهل خيارات عقائدية وأيديولوجية في اليمن، بخاصة وأن الخيوط الخارجية للحرب في صعدة مع الحوثيين، في جولتها السادسة الراهنة تحديداً، صارت أكثر وضوحاً. |
|
|||||||||||||