العدد 3 - الملف
 

ثمة أمثلة كثيرة تدحض هذه الفكرة، أو على وجه الدقة تُراجعها جوهرياً، ليس بنفي الوقار والجدية والتجهم و«التكشير» عن شخصية الفرد والمجتمع، بل بالكشف عن شكل معين للضحك الأردني يمكن دعوته: الضحك غير الرسمي، أو الضحك الخفي غير المعلَن أو غير المعترَف به على الملأ. إنه ضحك خاص يمارسه الأردني، لكنه لا يوافق على عدِّهِ جزءاً من شخصيته.

الأردني في الجانب المعلَن والمفصَح عنه يحرص أن يكون بأعلى مستويات الهيبة، أو كما يقال أن تكون له ما يكفي من «الوَهَرَة»، وهي لفظة تدمج بين الصفات الجسدية والمعنوية المسلكية. الأردنيون مقتنعون أن الضحك يقلل الهيبة، غير أن الهيبة المقصودة تكون أمام الآخر الغريب أو في المواقف العامة، ولهذا فإنه لا مانع من صنف معيَّن من «قلة الوهرة» بما لا يتعارض مع الحد الأدنى المطلوب من الهيبة، وهذا الصنف يمارسه الأردني من خلال الضحك غير الرسمي وغير المعلَن.

المتتبع لكثير من حكايا وقصص الأمثال والأقوال الدارجة والحكايات الشعبية التي توارثها الناس، يلاحظ أنها تنطوي على مستويات عالية نسبياً من التهكم والضحك، بل إنها عموماً تقوم على مفارقات مضحكة.

الضحك بسبب

الأردنيون ليسوا «شعب نكتة»، وعندما يتقابل أردنيان فإنهما لا يبادران إلى التنكيت أو الضحك. الأردني لا يقدم نفسه للآخرين بوصفه ضاحكاً أو بوصف الضحك جزءاً من شخصيته، وحتى في حالة الأشخاص المصنفين كظرفاء، فإن الكشف عن عنصر الضحك والإضحاك عندهم لا يكون إلا متأخراً، وإذا دخل شخص على مجموعة وهم يروون النكات فإنهم على الأغلب يتوقفون عن ذلك، وإذا أرادوا الاستمرار فإنهم سيستأذنونه أولاً. إن الضحك ينبغي أن يكون بسبب، وإلا كان نوعاً من «قلة الأدب» كما تقول العبارة الشهيرة التي أصبحت مثلاً شهيراً.

عند تأمُّل جلسة تجمع أشخاصاً يعرفون بعضهم بعضاً، يلاحظ المرء أن هناك إطاراً عاماً للنقاش يحكم العلاقات في ما بين الحاضرين، تحدده مراكزهم وأدوارهم، غير أن كلاًّ منهم سوف يسجل ملاحظاته الخاصة على الجلسة لكي ينفرد بها لاحقاً مع قريبه أو صديقه، حيث سيفصح عما لم يستطع الإفصاح عنه علناً أمام الناس.

وثمة ظاهرة باتت أكثر وضوحاً في الجلسات، إذ يعمد الفرد إلى الجلوس بجانب أحد معارفه بقصد ممارسة ما يُعرف بـ«القرقرة»، وهي صنف معروف من التهكُّم يتم على نطاق ضيق، يُفصح المرء عبرها عن انفعاله الحقيقي ويقوم بالسلوك «غير الرسمي» الذي يريد، ويندر أن يبادر أحد إلى الإفصاح عما في داخله علناً، ويحرص طرفَا كل عملية «قرقرة» على كتمان ما يجري بينهما، وعلى أن يكونا في موقع مخفيّ بعيد عن الأنظار.

الأردني يحرص على الهيئة الرسمية النموذجية له، فيبدو جاداً عابساً وقوراً، لكن تلك الهيئة ليست عنصراً جوهرياً ثابتاً مطلقاً لديه. والأردنيون يحرصون على ما يسمونه: عدم رفع «التكلفة» أو «الكلفة»، ويحتج أحدهم إذا رفع آخر تلك «الكلفة» معه بلا مقدمات وبادر إلى الضحك والمزاح.

جرأة في النكتة المخفيّة

يضحك الأردنيون في جلساتهم الخاصة، ويطْلقون بعض النكات حتى في الأمور التي تصنَّف ضمن المحرمات، مثل قضايا الدين والجنس والطبقات والطوائف والإثنيات، لكن كل ذلك ينبغي أن يجري في سياقات معينة ومحددة وغير رسمية على الدوام. أما مواصفات الجلسة الأردنية الرسمية فهي معروفة، ولا تشتمل على الضحك إلا وفق شروط خاصة، وبالطبع مع وجود فروق بين الجلسة التي يحضرها ضيوف أو غرباء، وبين تلك التي تقتصر على الأقارب، وهو أمر توارثته الأجيال والتزمت به.

في بعض الأحيان يُعَدّ الضحك بديلاً للكذب، وهناك صنف معروف من الضحك يسمى: الضحك على الذقون. وهو كذب صافٍ يتخذ هيئة الضحك. والناس في منطقة مادبا مثلاً خلال الانتخابات النيابية يحذّرون مرشحيهم من حساب توقّعاتهم على الضحكات التي يواجَهون بها في حملاتهم الانتخابية ويقولون: «لا تحسب حساباتك على ضحكة السنّ».

محاولة تفسير

يمكن ردّ هذه المواصفات في الشخصية الأردنية إلى سيادة قيم البداوة. صحيح أن الصراع بين النمطين الاقتصاديين البدوي والفلاحي حُسم على الأرض لصالح النمط الفلاحي، لكن الفلاح، وفي ما بعد الحضري، استسلما لقيم البداوة التي حافظت على موقعها العالي في مجمل منظومة القيم الاجتماعية. ولغاية اليوم، فإنه حتى الأردني الذي يقيم ويعمل في المدينة، والذي وُلد فيها أيضاً، يمارس حياته ويعبّر عن مواقفه مستعيناً بالنمط البدوي الأكثر احتراماً والأعلى مرتبة لدى شرائح واسعة في المجتمع، بل إن الدولة في الأردن ما زالت في علاقتها مع المواطنين تمارس نمطاً بدوياً، لأنها ترى أنه النمط الأكثر قبولاً والأكثر مهابة. ومن المفارقات هنا أنه كثيراً ما يتم تناقُل انطباعات فكاهية لدى الوزراء ومسؤولي الحكومات بعد أن ينتهوا من لقاءاتهم الرسمية مع الناس. الحكومات أيضاً تمارس الصنف نفسه من الضحك غير الرسمي.

في حياة البداوة، من المهم الحفاظ على الهيئة الوقورة الحادة والجادة والمتيقظة في المواقف العامة. الحياة قاسية، والنجاح والاستمرار فيها يعتمدان على عوامل مثل الغزو وما يتطلبه من فطنة ومكر، وهي صفات مقبولة ومرحَّب بها ومفضَّلة على غيرها، وفي مثل هذه الحياة فإنك إذا لم تكن ماكراً فطناً فإنك ستكون ضحية لفطين أو ماكر آخر. لكن بمجرد العودة إلى مجتمعك الخاص ودائرة علاقاتك الخاصة، فإن المواقف التي مررت بها قد تتحول إلى حكايات مليئة بالمفارقات، وقد يتخللها كثير من التهكم. وكثيرٌ من الحكم والأمثال والأوابد بُنيت على أحداث جادة ومهيبة، لكنها تتخذ الصيغ التهكمية، وهي صيغ عادة ما تكون كثيفة الدلالات والإشارات إلى الثقافة الأردنية السائدة على المستوى الشعبي.

الضحك المفتوح المعلَن مواصفةٌ مدنية، وهو يتطلب علاقات تقوم بين أفراد، لا بين منتمين إلى جماعات عضوية قرابية أو مناطقية أو غيرها تُخضع العضو فيها لاشتراطات معينة. والضحك بوصفه ممارسة إنسانية اجتماعية، يَخضع للمجتمع الذي يجري فيه، فهو مخفي في مجتمع يتطلب الإخفاء، ومعلَن في مجتمع يسمح بالإعلان.

تاريخ شفهي للضحك

مارس الأردنيون الضحك والتهكُّم واستخدموهما على سبيل المعارضة الشعبية أو للتحايل على غياب المعارضة الشرعية. فكلوب باش، الضابط البريطاني الذي ظل في مركز القرار في البلد طيلة 30 عاماً، اسمه عند الأردنيين «أبو حنيك»، وسمى الناسُ حكومة حسين الخالدي التي تلت إقالة حكومة النابلسي العام 1956 «حكومة الجسر»، وقد كانت بالفعل جسراً تم الانتقال فوقه إلى القمع وإنهاء الحياة السياسية العلنية. وفي التاريخ الأحدث مارسَ الأردنيون ضحكاً عاماً، وكانت الفترة التي سبقت هبّة نيسان/إبريل 1989 وبدء الانفتاح الديمقراطي كثيفة بالنكات العامة التي تُروى من دون أن تُسجَّل أو تُدوَّن.

لقد سخر الأردنيون في العام 1988 من فضيحة نقل السمن بصهاريج نضح المياه العادمة، وانتشرت نكاتٌ عدّة حول القضية، وقبلها بقليل كانت هناك موجة من التهكُّم تلت الصدام الذي جرى بين عشائر بني حسن وحكومة مضر بدران، وقد انتشرت من خلال الكاسيتات كثيرٌ من الأشعار التهكمية، ومنها تلك القصيدة التي تقول: أشوفك يا الدينار تلبس برجلك قلّي على وين؟ وقبل ذلك انتشرت تسمية حكومة ثم حكومات «رهيجة».

وقد اشتهرت بعض المدن بالروح التهكمية العالية. ففي السلط، ورغم ما تتمتع به المدينة من موقع وقور في الحياة السياسية والاجتماعية في الأردن، أوجدَ السلطية عالماً من النكات التي يجددونها على الدوام، وعلى سبيل المثال، جرت العادة منذ عودة الحياة النيابية أن يكون موسم الانتخابات في السلط موسماً لتجديد النكات التي تلعب أحياناً دوراً في مسيرة الانتخابات بأكملها.

في مدن مثل الرمثا ومعان، يمكن رصد تاريخ لا يُستهان به من التهكم والسخرية، وربما يعود ذلك إلى كون المدينتين حدوديتين، ففي الرمثا في الخمسينيات حيث كانت موقعاً نشيطاً في الحياة السياسية، صنع الناس أحداثاً تهكُّمية بالتوازي مع الأحداث الجادة والعنيفة التي سادت. وفي معان، وخلال الموجات الثلاث للأحداث منذ العام 1989، أبدع المعانيون أشكالاً للتهكُّم ذات مواصفات خاصة. ويمكن ملاحظة درجة عالية من التنوع بين المناطق، وفي هذا السياق هناك صنف خاص من التهكُّم الكركي اختصّت به بعض الأسر أو القرى.

الهيئة الوقورة الجادة للأردني تعكس حرصاً يشبه الحرص الذي يلازم وضعية «على الهواء مباشرة»، حيث يعمد الشخص إلى الانتباه جيداً إلى أنه في الوضع «النموذجي»، وبمجرد انتهاء هذه الوضعية يعود إلى ما هو طبيعي. الأردني لا يضحك على الهواء مباشرة، إنه يفضّل الضحك مع إيقاف التصوير والتسجيل.

الأردنيون يضحكون ولا يعترفون بضحكهم
 
01-Sep-2009
 
العدد 3