العدد 6 - شأن اقتصادي | ||||||||||||||
كثرت التحليلات التي تناولت موضوع الموازنة العامة، وتباينت المواقف حيال عزم الحكومة تخفيض حجم الإنفاق العام في موازنة العام المقبل، في ضوء توقع تجاوز عجز الموازنة في العام 2009 الحدود الآمنة. المؤيدون يؤكدون ضرورة اتخاذ الحكومة إجراءات وتدابير تضع كوابح صارمة في وجه تزايد العجز المالي. أما المعارضون فيخشون من زيادة حالة التباطؤ في اقتصادنا الوطني، وما يستتبع ذلك من اتساع في رقعة البطالة بين صفوف القوى العاملة. قبل ترجيح كفة فريق على آخر، لا بد من التوصل إلى معادلة تبدد مخاوف الفريقين، بحيث لا يُسمح لعجز الموازنة بتخطي الحواجز الآمنة، ولا أن يصيب التخفيضُ المشاريعَ الرأسمالية ذات الطبيعة التنموية. المعادلة المطلوبة هي برنامج إصلاح مالي متكامل، يتعين أن يكون محدد الأهداف، ويمتلك آليات وجدولاً زمنياً واضح المعالم للتدابير والإجراءات المطلوب اتخاذها خلال فترة محددة من الزمن. كما أن هذا البرنامج الذي يُتوقع أن يمتد تنفيذه لسنوات مقبلة، ينبغي أن تعي أطرافُ المجتمع كافة، أبعادَه ومراميه، وأن تلتزم به وتسهم في تطبيقه. نجاح البرنامج، بقدر ما يعتمد على الدور المحوري والأساسي لوزير المالية، يعتمد أيضاً على مدى الالتزام والمسؤولية التي يجب أن تتحلى بها المؤسسات الحكومية. فما نشهده اليوم من توسع في الإنفاق وتزايد في العجز، إنما هو نتيجة طبيعية لعدم تطبيق البرنامج المالي للأجندة الوطنية. تخفيض عجز الموازنة، ينبغي أن يتصدر أهداف هذا البرنامج. والعجز المقصود هنا هو عجز الموازنة قبل المنح الخارجية. والنجاح في هذا المقصد من شأنه تعزيز الاعتماد على الذات، وتفادي التأثيرات السلبية الناجمة عن الاعتماد على المنح الخارجية في تمويل جانب من الإنفاق. استمرار العجز في الموازنة، يعني بالضرورة ارتفاع رصيد الدين العام، نتيجة الأعباء المترتبة عليه من أقساط وفوائد. وباستدعاء البيانات المالية للدولة خلال العقدين الأخيرين، يلاحَظ أن عجز الموازنة العامة قبل المنح الخارجية الذي تجاوزت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي 20 في المئة إبان الأزمة الاقتصادية في أواخر الثمانينيات، قد تمت السيطرة عليه وتحجيمه بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الأولى من برنامج التصحيح الاقتصادي 1992-1996، إذ لم تتعدَّ نسبته خلال تلك الفترة 5.8 في المئة من الناتج، ثم أخذ هذا العجز خلال الفترة 1997-2005 اتجاها مغايراً، حيث بلغ متوسط نسبته للناتج نحو 11 في المئة، أي ضعف ما كانت عليه النسبة خلال الفترة السابقة. ثم عادت نسبته إلى الهبوط خلال السنوات 2006-2008 لتصل إلى 7.4 في المئة من الناتج لتعاود الصعود في العام 2009، إذ يُتوقع أن تصل هذه النسبة إلى ما يقارب 10 في المئة. على نحو مماثل، بلغ عجز الموازنة العامة بعد المنح الخارجية إبان الأزمة الاقتصادية في أواخر الثمانينيات، حوالي 14.2 في المئة من الناتج، ليهبط بصورة ملحوظة خلال سنوات برنامج التصحيح الاقتصادي 1992-1996، إذ لم تتجاوز نسبته إلى الناتج خلال تلك الفترة 1.6 في المئة، ليأخذ خلال الفترة 1997-2005 منحنى مختلفاً، ليرتفع متوسط نسبته للناتج إلى 4.2 في المئة، قبل أن يعاود الهبوط خلال الفترة 2006-2008، لتصل نسبته في المتوسط إلى 3.8 في المئة من الناتج، في حين يُتوقع أن ترتفع نسبة العجز بعد المنح في العام 2009 لتصل إلى 7.3 في المئة. يُعزى التباين في نِسب العجز المالي قبل المنح الخارجية وبعدها خلال الفترات السابقة، إلى التقلبات الكبيرة في حجم المنح، وتتسع حدة هذا التباين خلال السنوات التي يزداد خلالها ورود المنح. التباين في هذه النِّسب يعني أننا ما زلنا نبني خططنا الإنفاقية في موازناتنا، على مورد مالي غير ثابت، مما أحدث ويُحدث اختلالات جوهرية في هيكل إنفاقنا العام، والدليل الصارخ على هذه الاختلالات أن إيراداتنا المحلية بالكاد تكفي لتغطية نفقاتنا الجارية، وهذا يعني أن إنفاقنا الرأسمالي التنموي يعتمد تمويله على مصادر خارجية، إما من المنح الخارجية و/أو من الاقتراضَين الخارجي والداخلي على حد سواء. السؤال في ضوء هذا التشخيص: كيف يُعالَج الوضع للخروج من هذا المأزق المؤرق؟ العلاج الحقيقي ينبغي أن ينطلق من إصلاح القطاع العام الذي تقارب نفقاته الإجمالية نحو 55 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. كما أن إيلاء مزيد من الاهتمام لفاعلية وكفاءة الإنفاق العام، وزيادة إنتاجيته، ومتابعة أداء الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات العامة وفقاً لمؤشرات يُلتزَمُ بها ويسهل قياسها، أمور ضرورية، كي تتسنى في نهاية المطاف المحاسبة والمساءلة. ولكي تكتمل الصورة وتتوازن، لا بد من الانتقال إلى جانب الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، وهو جانب لا يقل أهمية عن جانب النفقات. إذ ينبغي العمل على تبني أنظمة ضرائبية محفزة وجاذبة للاستثمارات المحلية والخارجية، كونها المحرك الرئيسي لتسريع عجلة النشاط الاقتصادي، ويشار في هذا المجال إلى أهمية عدم الانسياق وراء الدعوات التي بدأت تتعالى حول ضرورة عودة الدولة من جديد إلى مزاولة الأنشطة الإنتاجية بدلاً من القطاع الخاص، مع التأكيد في الوقت نفسه على أهمية تفعيل الدور الرقابي والإشرافي والتنظيمي للدولة على جميع الأنشطة، تجنباً للآثار الضارة للاحتكارات، وتفادياً للممارسات الخاطئة التي قد تَظهر من تطبيق آليات السوق. كما ينبغي تكثيف الجهود الحكومية على الحد من التهرّب والتجنّب الضريبي. |
|
|||||||||||||